محمد كريِّم الطراونة والعرس الذي لن ينتهي:‏ حلم معركة تلّ الذخيرة: حين جنَّت طائرات العدو وصرنا طيورًا تحسين يقين

 

كاتب وناقد فلسطيني- القدس الشريف

 

 

أصوات مارَّة، عبارات تأتي وتختفي لأطفال يضحكون، ونساء مهمومات بشيء ما، ‏وشباب يسيرون مسرعين إلى العمل، سيّارات تمرُّ كأنَّ لا شيء هنا. هدوء متقطِّع، ‏تكسره أصوات المارّة والسيارات... ‏

ما هذا؟ لأصغِيَ قليلًا لهم، لكن ما جدوى ذلك؟ ‏

سأصغي.‏

أطفال يذكرون المدرسة ويشتمونها، وكبار يذكرون أسماء أماكن.. لكن مهلًا! ما هذا؟ ‏أصوات صراخ: "هذي بيوتنا من زمان، ما حدا بقدر يطلِّعنا منها". أصوات أفهمها ‏وأخرى لا أفهمها، ما هي هذه اللُّغة؟ هنا مَن يصرخ بها، لكن ماذا يقول؟

‏-‏ ما هذا؟ وأين أنا؟ ما هذا الهدوء العجيب؟ لِمَ الناس يسيرون هكذا وكأنَّ لا حرب ‏هنا؟ غريبون هم.‏

‏-‏ ‏...............‏

‏-‏ مرحبًا؟ إلى أين؟ ‏

لا أحد يردُّ عليّ. وهناك، ما هذا الجيب العسكريّ؟ إنه غريب الشَّكل، لماذا يقف هكذا؟ ‏ولِمَ الجنود لا يخافون؟ وما هذا الذي بين أيديهم ينظرون فيه؟ ‏

جيش إسرائيلي! كيف دخلوا هنا؟ سأنال منهم؟ ‏

لكن.. ما هذا؟ كأنَّهم لا يسمعون طلقات البندقيّة؟ اقتربتُ أكثر حتى صرتُ قربهم، نظرتُ ‏في وجوههم؟ كأنَّهم لا يرونني، يكملون أحاديثهم ويشربون القهوة، هذه لغتهم العبريّة، لا ‏أفهم ما يقولون، ولا يبدو أنهم يرونني!‏

تحسَّستُ نفسي؛ أنا هو أنا بملابسي العسكرية، فتحتُ عبوة الماء وشربتُ. أيُّ حلم ‏غريب! تركتُ المكان، ورحتُ أتمشى باتجاه باب العامود. كل شيء هادئ؛ لا صوت ‏إطلاق نار. هذا مسجد الشيخ جراح، وهنا.. ما هذه الأبنية المرتفعة هناك..؟ أسيرُ باتِّجاه ‏شارع صلاح الدين، مارًّا بالمحافظة، لكن لا جنود هنا، ولا عَلَم، ما هذا، هذه أعلام ‏إسرائيليّة، هنا عرب وهنا يهود، منهم مَن هو بملابس عسكريّة، وبعضهم بزيِّه المدنيّ. ‏أسير وبندقيّتي، لكن لا أحد يحفل بي، حتى هؤلاء الجنود الغرباء. ‏

ما هذا؟ أعرف المكان ولا أعرفه... ها هو مسجد سعد وسعيد، ثم لمَ هذه الباصات هنا؟ ‏أحاول الحديث مع الناس، لكن لا أحد يحفل بي. ها هو باب العامود، كم أحببتُ هذا ‏المكان؟ لأشترِيَ جريدة.. ما أسماء هذه الصحف؟ اقتربتُ لأقرأ، لكنَّ الأخبار غريبة، ‏لولا أنَّ باب العامود أمامي لقلتُ إنَّني في مكان آخر.‏

‏-‏ ‏12/8/2021!!‏

‏-‏ ‏...............‏

عدتُ أنظرُ في شخصيّتي؛ أنا هو أنا.. هذا أنا.. وهذه القدس.. لكن هذا زمن في المستقبل. ‏هل أحلم؟ وأيّ حلم طويل؟ سأنزل من هنا، يا إلهي حتى درجات باب العامود تغيّرت، ‏لكن السور هو نفسه. ‏

الحمد لله ما زلتُ في القدس. الله ما أجمل النسمات الباردة في هذا اليوم الحار! لا أجمل ‏من سوق القدس، هو هو، لكن الوجوه تغيَّرت. دقائق وإذْ بي في ساحة المسجد المبارك، ‏أقتربُ من المُتوضَّأ، تغيَّر قليلًا، قربه متوضّأ آخر. أُلقي السّلام على المتوضّئين، لكن لا ‏أحد يردّ. أسرعنا إلى صلاة الجماعة. بعد الانتهاء مددتُ يدي نحو المصلّي جانبي، لكنّه ‏تركني ومضى. حين صعدتُ درجات باب العامود الجديدة، لم يلتفت اليَّ أحد، حتى أولئك ‏الجنود الغزاة الذين ينظرون في بطاقات الشباب. غريب! أين السور الذي كان هنا بين ‏القدس والقدس الغربيّة المحتلة؟ ثم ما هذا القطار الذي يمرُّ هناك! لا بد أنني أحلم.‏

عدتُ إلى كتيبتي في الشيخ جراح، لكن لا أحد هناك، وحدي هنا. كُنّا هنا قبل قليل:‏

الشيخ جراح.. نحن في معركة.. تلّ الذخيرة، وحولي الجنود الأبطال، ما أشجعهم..! ‏أصوات المدافع تملأ المكان، والطائرات الغازية تقترب وتُلقي قنابلها. ما أروع خوذات ‏الجيش العربي الأردني، إنَّها تحمي رؤوسنا. "إذا اقترب العدوّ ونفدت ذخيرتي، ‏فسأعالجهم بهذا الخنجر. لكنَّ علبتي مليئة بالرصاص. وهناك علب أخرى.‏

نار ودخان وصراخ، لم أعُد أرى.. ‏

جنود أبطال يقاومون العدوّ، لكن هناك جنود مصابون..‏

هذا هو اليوم الثاني، لم ننم طوال الليلة السابقة، تُرى ماذا سنسمّي هذه المعركة؟ ‏

‏-‏ ‏..............‏

‏-‏ معركة "تلّ الذخيرة"!‏

‏-‏ كم هي الساعة الآن؟ ‏

‏-‏ إنها الواحدة..‏

تحسَّستُ خاتم الزَّواج، عندما سأعود سالمًا إلى الأهل، سنذهب أنا وزوجتي في زيارات ‏ونستمتع بالطبيعة الجميلة.. أمامي الذخيرة، ليس عليَّ إلّا أن أفرِّغها في صدور الغزاة. ‏زاد عدد الشهداء.. هل سأكون أحدهم!‏

الرشّاش لا يتوقف، لكن الطائرات المغيرة ما إن تذهب حتى تعود لتُلقي حممها علينا، ‏مدفعيّات هناك في أكثر من مكان تقصفنا، تُرى ما أخبار الجنود في ساحة الأقصى وعلى ‏السور، لقد تنافسوا مَن يتمّ اختياره.‏

لولا أنني أرى بعيني لما صدَّقت. مَن سينقل للناس هذه البطولات؟ إنَّنا نمنع تقدُّم الغزاة، ‏على الرّغم من كل هذه النيران التي تنصبّ علينا، إنهم لا يصدِّقون، يذهبون فيعودون ‏محمَّلين بالنار. وهؤلاء إخوتي يبتسمون، فأجد نفسي أبادلهم الابتسام. قال أخي أحمد ‏مبتسمًا: "سنقاوم حتى الرَّصاصة الأخيرة، نحن الجيش العربي، لن نهرب ونترك القدس. ‏فقط إلى السماء". أشار بيده ثم صاح "الله أكبر"، فإذا بقذيفة تحصدنا، لكنّني لذتُ بالخندق ‏أمامي.‏

بعض الهدوء الحذر، لكن لم يتوقَّف القصف، تفقَّدنا بعضنا بعضًا، لقد استشهد كثيرون، ‏‏"سنبكي فيما بعد إن عشنا".. يا ترى كم بقي من إخواني الجنود والضباط؟ كُنّا مئة في ‏كتيبة "الحسين الثانية"، كان لنا الفخر أن نحمل اسم جلالة الملك. ‏

يا لفخرنا على الرّغم من سقوط الشهداء والجرحى، كم أفخر بكُم يا أبناء كتيبتي، نحن مَن ‏نواجه العدوّ بصدورنا، يا له من عدوّ يخاف الحرب، فلا يقابلنا حتى الآن وجهًا لوجه، ‏فقط عن بُعد يقذفون حِممهم، ومن طائراتهم.‏

لقد تحَصنّا نحن الجنود الأردنيون في خنادق حفرناه بأيدينا داخل التل لمنع تقدُّم قوّات ‏العدوّ نحو القدس القديمة والمسجد الأقصى. لم نكن متأكدين فعلًا أنها ستفيدنا ونحن نعلم ‏أنَّ العدوّ لديه طائرات. قتلنا الكثير منهم، وهذا ما أثار جنونهم، بوركتِ يا مدفعيّتنا كم ‏أنتِ رائعة، لقد بارككِ الله... ‏

لا أدري بعدها، ثمّة طائرات ما زالت تلقي بحقدها. يبدو أنَّ العدو جنّ، كل هذه الطائرات ‏المغيرة على هذا الموقع؟ ‏

إنهم يريدون منّا الاستسلام.‏

لن نستسلم.. لم يبقَ الكثيرون، استشهد آخرون من النشامى. نظرنا تجاه بعضنا بعضًا، ‏كأنَّنا نتعاهد على الشهادة، فلم نكن لنقبل بتقدُّم الغزاة تجاه القدس ومسجدها، ولا نرفع ‏رايات بيضاء.. نحن كتيبة الحسين.‏

ما زال معنا قاذفات للصواريخ "البازوكا"، لقد ساعدتنا في صدّ الغزاة، نسمعُ إطلاق النار ‏عند جنودنا البواسل على سور القدس وساحات المسجد الأقصى، وباب الجديد والخليل ‏والنبي داود وصور باهر وبيت صفافا‎.‎‏ أكاد أراهم، لأنني أعرف كثيرين منهم. لا بدَّ أن ‏نشدَّ أزر بعضنا بعضًا.‏

بعد الغارة الأخيرة، وعلى وهج الضوء، نظرتُ خلفي، استشهد نشميّ آخر قربي، نظرتُ ‏في وجهه، عرفتُه، دهشتُ لأنَّ أصابعه ظلَّت ممسكة بمقبض القنبلة التي ألقاها على العدوّ ‏حتى بعد استشهاده‎.‎

‏"إنْ عشتُ سأروي لأهلي وشعبنا ما رأيتُ هنا، وإنْ استشهدتُ، فيمكن لآخرين أن ‏يَرووا ما فعلنا من بطولة، لكن يبدو أنَّنا سنستشهد جميعًا".‏

لم أرَ في حياتي مثل هؤلاء الأبطال، أنا فرحٌ لأنني هنا بينهم، إنهم أبطال حقيقيون، لا هَمَّ ‏لهم إلّا الدِّفاع عن القدس. ازدادت حركة الطائرات المجنونة، وأكادُ أسمعُ صرير جنازير ‏دبّابات العدوّ.‏

لهيب حزيران وطائرات العدو رفعت من درجة الحرارة هنا، كأنَّنا ننصهر. ‏

كم الساعة؟

إنَّها الواحدة والثُّلث.‏

‏ إنه يتقدَّم، ما أصعب ذلك.. لم أعُد أرى ولا أسمع.‏

ثمّة هدوء.. لا أدري كيف مرَّت ريح غريبة هنا، صور كثيرة، ابتسامات، وروائح لم ‏أشمّها من قبل.‏

لم أعُد أرى فعلًا.. ولا أسمع.. هل هذا وقت النَّوم!‏

ها أنذا هنا ثانيةً، في زمان آخر، حلم آخر. هذه القدس لم تتغيَّر كثيرًا، أقترب من ‏الصوت، هناك.. أنظر حولي، اختفت ثكنتنا نهائيًّا، ولا أدري إلى أين سأعود، فهؤلاء ‏البشر هنا لا يرونني.‏

ما زلتُ أحملُ بندقيّتي، وأرتدي زيّي العسكريّ، تحسّستُ نفسي، لم أُصَب بسوء، لكن ‏تفوح مني رائحة عطر، ولا أدري من أين هذا العطر جاء. ‏

أعرف هؤلاء الناس؛ "مقادسة"، نظرتُ في الوجوه، لم أعرف أحدًا. لكن هناك تشابه في ‏هذه الوجوه مع وجوه عرفتُها. رحتُ أستمعُ لهم، ومعي صحافيون بكاميرات صغيرة ‏وكبيرة، بعضها صغيرة جدًا يصوِّرون بها، ويتحدَّثون بها مثل أجهزة اللاسلكي.‏

يريد العدو أن يطردهم من بيوتهم، ما زلتُ متذكّرًا هذه البيوت، كنّا نمرُّ بالقرب منها، ‏وكان أهلها يدعوننا لشرب الشاي. هنا شربتُ الشاي مرَّة، أذكر أنَّ صاحب البيت له بيت ‏آخر استولى العدوّ عليه. ‏

في اليوم الأوَّل من الحرب، جاء الأهالي بماء وطعام. قُلنا لهم معنا ما يكفينا. بعد ذلك لم ‏نعُد نرى أحدًا، كانت أصوات الطائرات القريبة مخيفة. وفي الليل أطفأ أهالي الشيخ جرّاح ‏ووادي الجوز والطور وسلوان النّور. كان الأطفال وقتها أمام البيوت يشاهدون الحرب ‏كأنها لعبة، فيُنادي الكبار عليهم. ‏

تذكَّرتُ أصحابي، تمَّ توزيعهم في القدس وحولها، في قرى بدّو والسواحرة وبيت سوريك ‏والطيرة، وأسماء قرى أخرى، وهناك مَن ذهبوا إلى معسكرات جيشنا في جنين ونابلس ‏وقلقيلية وطولكرم والخليل.‏

هل سنلتقي ثانية؟ وهل سنرى الأهل مرَّة أخرى؟

خفتت الأصوات هنا، كأنني دخلتُ في حلم آخر. وجدتني طفلًا صغيرًا في مدرسة الكرك ‏الابتدائية. كان ذلك في بداية الأربعينات. أرى نفسي طفلًا صغيرًا، أرى الطلاب ‏والمعلمين، انتهى اليوم الدراسي. رنّ الجرس، تدافعنا، مشينا إلى البيت. إنني أرى نفسي ‏كما لو أنني في فيلم سينمائي. ها هو بيتنا، ها هي أمي تنتظر عودتنا. إنني أكبر قليلا، ‏صرتُ فتى، فشابًا، فعريسًا، فجنديًّا في كتيبة الحسين، فمجاهدًا هنا في القدس. ‏

انها الساعة الواحدة والثلث..اليوم الثاني للحرب..‏

إنني الآن هنا، في القدس قرب السور، أرى نفسي عريسًا جميلًا، من جديد. طيور بيضاء ‏من كل الاتجاهات، طارت حولي، لها وجوه بشريّة.. هذا غريب؛ أرى وجوه أبناء ‏كتيبتي. لماذا يقتربون. هبط الحمام حولي صار الحمام بشرًا. لوّحوا لي. لوّحت لهم. ‏سمعتُ أصوات جلبة في المكان. ردَّدوا اسمي: محمد كريم الطراونة. أنا هو!‏

قرأت هنا: "المقبرة اليوسفيّة". ما الذي أتى بنا هنا جميعًا. وجدتُ نفسي أترك نفسي، ‏أصير طيرًا في السماء، أتنقل ما بين الكرك والقدس بسرعة، أرى أكثر من مكان، ‏وأعيش في أكثر من زمان. فقط ما إن أنام قليلا حتى أصحو. أتعجَّب أحيانًا، لكن عجبي ‏سرعان ما يزول. ‏

الآن في بيتنا، أرى الملك الشاب ابن مولاي الملك حسين، يزورنا، وددتُ أن يسمعني، ‏اقتربتُ منه:‏

مولاي الملك إنني من كتيبة الحسين الثانية.‏

كانت الابتسامات تزيِّن المكان، مرَّة أخرى أصير عريسًا في بيتنا.‏

ربّاه أحمدك، فهذا العرس يبدو أنه لن ينتهي.‏

طرتُ ثانية.. عدتُ إلى رفاقي، لدينا موعد مع أعراس مستمرَّة.‏