القلق الوجودي للثقافة

سيد الوكيل

روائي وناقد مصري

رئيس تحرير سلسلة إبداعات قصصية بالهيئة المصرية العامة للكتاب

 

كان الحراك الواسع نحو الثقافة خلال العقدين السابقين أمرًا ضروريًّا، وكأنَّ ميكانيزم ‏التطوُّر البشري كان يتدرَّب خلال هذين العقدين على الخطوات الأولى التي تنقلنا من ‏تاريخ الكتابة، إلى مستقبل الرقميّة، تلك التي وضعت الثقافة في أفق افتراضي عام ‏وواسع شديد التفاعل. مثل هذه التحوُّلات وضعت مفهوم الدراسات الثقافيّة على القمّة، ‏ومهما كان إحساسنا بالقلق تجاه تراجع التخصُّص العلمي، فإنَّ الدراسات الثقافيّة واعدة ‏بتحوُّلات جديدة من أبرزها ما نتعارف عليه بمصطلح (الصناعات الثقافيّة) الذي نجح ‏في إدراج التجلّيات الماديّة للحضارة تحت المعنى الثقافي. ‏

 

المطّلع على كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر- 1936م) يمكنه ملاحظة أنَّ ‏مفهومه للثقافة مركب، ومترابط يجمع بين الحضارات والأديان، والظواهر المعرفية ‏والمادية للشعوب، أي أنه مفهوم واسع ومرن، قابل لتحوُّلات مستدامه. ومع ذلك، فإنَّ ‏شواهده اكتفت بالتراوح بين العقلين: الإغريقي والمصري القديم. صحيح أنَّ العلاقة ‏بينهما متشابكة إلى حدّ كبير وواضح، لكن لا يمكننا تجاهل المؤثرات التي تركتها ‏حضارة بلاد الرافدين على العقل الإغريقي، حيث يذهب كثير من الباحثين، إلى أنَّ ‏‏(أفروديت) الإغريقية، هي النموذج المطوَّر لإلهة الجمال (إنانا) هذا في سياق الأديان ‏القديمة متعدِّدة الآلهة. وفي سياق مقابل، نلاحظ تمسُّك الحضارة الإغريقية بفكرة تعدُّد ‏الآلهة تلك، على الرّغم من مقدّمات فكرة التوحيد، التي نجدها عند المصريين القدماء ‏ممثلة في (أوزوريس) إلى حدّ تشابهها مع الثالوث المسيحي المقدّس. إذْ كان الثالوث ‏الفرعوني مرتهن برباط الدم، فأوزوريس هو الأخ والزوج لإيزيس، وفي الوقت نفسه ‏هو الأب لحورس. ‏

مثل هذه الملاحظات تشير إلى أنَّ قيام حضارة جديدة في مكان ما، لا يمكن لها أن تخلو ‏من محمولات ثقافيّة لحضارة أخرى سابقة أو متزامنة. إنَّها آليّة التطوُّر الطبيعي ‏للحضارة البشرية، التي تحبط النزعات العنصريّة للمفاضلة بين حضارة وأخرى، فعلى ‏الرغم من أننا نشير إلى كلّ حضارة باسمها لنميّزها عن غيرها، إلا أنَّ النَّظر لمسيرة ‏الحضارة البشرية بوصفها حراكًا واحدًا ومتصلًا، تبدو أكثر موضوعيّة لفهم الظواهر ‏الثقافية المترتبة عليها، ومدى ارتباطها بأساليب الواقع المعاش، وما يناسبها من مظاهر ‏ماديّة. الواقع أنَّ المظاهر الماديّة هي التجليات الممثلة لطبيعة كل حضارة، وفي هذا ‏يقول طه حسين: "من الحق أنَّ الحضارة الأوروبية عظيمة الحظ من المادية، ولكن من ‏الكلام الفارغ والسخف الذي لا يقف عنده عاقل أن يُقال إنَّها قليلة الحظ من هذه المعاني ‏السامية التي تغزو الأرواح والقلوب"(1).‏

هذا المدخل يقودنا إلى تصوُّر واسع للحضارة البشرية يجمع بين المادي والمعنوي، فعلى ‏الرّغم من صمت طه حسين عن حضارات وفلسفات سابقة في بلاد فارس وبلاد ‏الرافدين مثلًا، لكن اللافت في رؤية طه حسين، هو اعتراضه –المُضمَر- على الفصل ‏بين مظاهر التطوُّر المادي للحضارة، وبُعدها المعنوي الذي يسكن في القلوب والأرواح ‏بحسب تعبيره الشعريّ. في الواقع إنَّ المظاهر المادية هي التجلّي الملموس للحضارة، ‏حتى يمكننا القول إنَّ الحضارة ليست سوى تجسيد لهذه العلاقة التفاعلية بين المعنوي ‏والمادي في حياة البشر، فكل منهما يدعم الآخر وينمّيه. ولا شكّ أنَّ شيوع أدوات ‏الاتصال التكنولوجي، التي اختزلت المسافات الزمنية والمكانية، بإمكانها أن تقارب، بين ‏المفهومين المادي والمعنوى الذي انحصر في تصوُّر ذهني لثنائيّة ضديّة، تقارن بين ‏حياة دنيا حسيّة وماديّة، وأخرى روحيّة في عالم آخر (طوباوي) نراه الأرقى والأبقى.‏

لقد ألقت مثل هذه الثنائيّات بظلالها على العقل البشري في مراحل تطوُّره، وتجلَّت في ‏كثير من مظاهره، بما في ذلك العلم والفلسفة، وقد ظلَّ الفصل بين الروحي والمادي ‏سلوكًا ميتافيزيقيًّا مماثلًا للفصل بين السماء والأرض، ليشير في المقابل إلى ماهيّتين ‏متناقضتين: المقدَّس والمدنَّس، وبهذه الطريقة نحن لا نمايز بين الحضارات فحسب، بل ‏نمايز بين الحضارة والمدنيّة، وكأنَّ المدنيّة يمكن أن تتحقق بمعزل عن الحضارة. ‏يذكِّرنا هذا بثنائيّة منهجيّة راوحت بين الكليّانية، والفردانيّة. والواقع أنَّ كل منهما تأسَّس ‏على مقاصد أيديولوجيّة أكثر منها إنسانيّة.‏

في مقولة طه حسين بصيرة مستقبلية، تظهر في عنوان الكتاب، وبالتحديد في كلمة ‏‏"الثقافة"، التي تضفي تعبيرًا جامعًا بين الحضارة والمدنيّة بوصفها التجلّي المادي ‏للحضارة، فالثقافة لا تتجلّى في الجوانب المعرفية والمعنوية فحسب، بل تظهر في ‏طرائق توظيفنا للوجود المادي أيضًا، بل وطرائق إنتاجه، والتعاملات الناشئة عليه من ‏نظم وأعراف وقوانين، إذ لا يمكننا إغفال أنَّ تاريخ الفلسفة الذي استغرق قرونًا عديدة -‏قبل إعلان موتها على يد الفيزيائي "ستيفن هوكينج"- هو الذي قاد العالم إلى التنوير ‏والعلم، وتجلياتهما منذ الثورة الصناعية. كما إنَّ الفلسفة هي درَّة التاج لتاريخ الكتابة ‏المهدَّد بالانقراض مع بزوغ المستقبل الرقمي وهيمنة الصورة عليه، وهي التي مهَّدت ‏الحضارة البشرية لبزوغ التفكير العلمي الذي استبدل الاعتماد على المرجعيّات ‏والمصادر المعرفية التي تراكمت عبر الأساطير والمرويّات، بالإثبات التجريبي ‏والمعملي على نحو ما نجد لدى "كوبرنيكس" و"جالليو"، وحتى نهاية القرن التاسع ‏عشر، لم يكن العلم في شواهده المادية، بمعزل عن الفلسفة. بما يعني أنَّ كل الظواهر ‏الثقافية تتراسل فيما بينها، وهذا التراسل هو المحفز الحيوي لاستمرارية الحضارة ‏البشرية، مهما بدت تحوُّلاتها فادحة.‏

ولستُ أدرى سببًا واضحًا للوصمة التي دأبنا على إلصاقها بالمدنيّة وشواهدها الماديّة، ‏والتي كانت أكثر وضوحًا في الخطابات ذات المرجعية الميتافيزيقية، وثمة واقعة كنتُ ‏شاهدًا عليها، في نهاية الستينات من القرن الماضي، عندما أُذيع خبر إطلاق سفينة ‏الفضاء (أبولو 11) استشاط إمام المسجد الكبير في بلدتنا غضبًا، وراح يندِّد بما وصلت ‏إليه الحال من كفر، واجتراء شياطين الأرض على اقتحام ملكوت الله/ السماء، مؤكدًا أنَّ ‏هلاكهم سيكون على يد رب العالمين رجمًا بالشُّهب.‏

ويبدو أنَّ هذه الطريقة في التفكير، أثَّرت بطريقة أو أخرى في خطابنا الثقافي عمومًا، ‏لتشير إلى حالة من القلق الداخلي للإنسان المعاصر، على نحو ما نجد عند (أحمد حسن ‏الزيات) من قلق وتردُّد في وصفه للمدنيّة الماديّة، على الرّغم من موقفه التنويري ‏الواضح في مجمل المقال نراه لا يتردَّد في الإشارة إلى اتِّهام المدنيّة ومظاهرها في ‏إفساد بعض مكارم الأخلاق: "كذلك لا نستطيع أن نتَّهم المادية والمدنية، فإنهما -وإن ‏جنتا على بعض الأخلاق الكريمة كالإخاء، والإخلاص والمروءة والرحمة- فلم تجنيا ‏على نزعات السرور في النفوس، ولم تقضيا على غرائز اللهو في الطباع، بل ازداد ‏الناس بهما في ذلك شراهة وحدّة"(2).‏

على أيّ حال، لقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتيابًا في قيمة الحضارة، ‏والتباسًا كبيرًا بينها وبين المدنيّة، وازداد الأمر حدّة، بعد أن دخل العالم في حربين ‏عالميتين غمرته بالأسى مع بداية القرن العشرين. أفضت الحرب الأولى إلى أكثر من ‏عشرة مليون من القتلى، لكن قتلى الحرب الثانية تجاوز ذلك إلى خمسة وثمانين مليونًا، ‏فماذا لو قامت حرب ثالثة؟ هكذا بدا مستقبل البشرية مربكًا وضبابيًّا، ومنذرًا بنهاية ‏العالم على نحو ما تمثِّله السينما الأميركية. توغَّل الشكّ في كل خطوة حضارية تخطوها ‏البشرية إلى الأمام. ولو فحصنا ردود الأفعال التي واكبت؛ وما زالت تواكب وباء ‏‏(كوفيد-19) سندرك أنَّ حجم القلق تجاه الحضارة البشرية يتزايد، لتصبح هي المتَّهم ‏الأوَّل في تعاسة البشر. ‏

ربَّما من قبيل المصادفة أن رحل "سيجموند فرويد" عن عالمنا في العام نفسه الذي شهد ‏بداية الحرب الأولى (1939م) لكن ليس من قبيل المصادفة على الإطلاق، أن لاقى ‏كتابه (قلق الحضارة- 1929) هذا الاهتمام، وتلك المراجعات التي لجأ إليها الأطباء ‏النفسيون أملًا في تفسير الكثير من الحالات النفسية التي رافقت البشر، وارتبطت -ليس ‏بالحروب فقط- بل وبالكثير من التحوُّلات الحضارية ومظاهرها المادية، ولا سيما تلك ‏التي يعجز البشر عن اللحاق بها، أو فهمها. الأمر الذي أصاب الكثيرين بالإحباط، بعد ‏أن عجزوا عن السيطرة على الإيقاع المتسارع للشراهة المادية ومظاهرها، فتحوَّل ‏صراعهم مع الخارج، إلى صراع داخلي بين الأنا والأنا العليا، أفضى إلى المزيد من ‏القلق الوجودي للإنسان. ‏

كان العالم ممتلئًا بتوتُّرات ونزعات عنصريّة تنذر بالدّمار، وهو ما تحقَّق بعد سنوات ‏قليلة من صدور هذا الكتاب باشتعال الحرب العالمية الأولى، وقد كان سؤال "فرويد" ‏الرئيس في الكتاب هو "لماذا لا يحظى الإنسان بالسعادة التي ينشدها مهما قارب أن ‏يكون إلها؟"(3)، وانتهى إلى أنَّ الظواهر الحضارية تقع خارج الأنا بوصفها موضوعًا ‏مهدِّدًا لها، ممّا يفضي إلى صراع وجودي، على نحو ما أسماه "جابريل مارسيل" ‏‏(1989- 1936م) عضّة الواقع، تلك التي تنتج عن تحوُّلات شاردة في صورة الواقع، ‏لا تألفها الأنا، ومن ثم تشعر باغترابها، وعلى الرّغم من أنَّ "فرويد" قدَّم أفكاره عبر ‏مقاربات نفسيّة بالأساس، إلا أنه كان سابقًا في التعبير عن القلق الذي يعتري الإنسان ‏تجاه التحوُّلات المتسارعة التي أنتجتها الحضارة البشرية على إثر الثورة الصناعية.‏

لهذا فإنَّ فترة ما بعد الحربين العالميتين، شهدت مراجعات قاسية لكثير من المفاهيم، التي ‏بدت ملتبسة أو متناقضة، مثل مفهومي الحضارة والمدنيّة، الأنا والآخر، الذات ‏والموضوع، الوجود والعدم، والأصالة والمعاصرة، المعنوي والمادي أو الروح والجسد. ‏إنها أسئلة فلسفية، ربّما لم تعُد ملحّة الآن، ولكنها أضاءت الكثير من جوانب الحضارة ‏البشريّة، ومسيرة التطوُّر التي قطعها الإنسان منذ البدائيّة الأولى إلى انتصار العقل ‏العلمي وفقًا لـ"ستيفن هوكينج" الذي بشَّر بموت الفلسفة.‏

جدير بالذِّكر أنَّ رحلة الحضارة لم تصل إلى مجدها بالتفكير العلمي البحت فحسب، لقد ‏احتاجت إلى التكامل بين الحقول المعرفية المختلفة في العلوم الإنسانية، فليس علم النفس ‏فحسب، بل أيضًا علوم الإناسة، وجوانبها الحفريّة، فضلًا عن دراسات عميقة في ‏الأديان والميثولوجيا، بحثًا عن الجذور الأولى لنشأة الحضارة الإنسانية ومظاهر ‏تطوُّرها. كما يمكن الإشارة إلى الطبيعة التفاعلية بين العلوم الإنسانية أيضًا، فدراسة ‏الميثولوجيا والأدب لهما دور فاعل في تطوُّر علمي النفس والاجتماع. لقد أفضى التوسُّع ‏في العلوم البحتة والإنسانية، إلى سياق تفاعلي للمعرفة ينمّي كل منهما الآخر، فلم يعد ‏ثمة مبرر للفصل بينهما، فكثير من المعارف التي قامت على الاستنباط الفلسفي تأكد ‏صحتها بالتجريب المعملي، بما يستدعى التوافق على حقل معرفي واسع، وقادر يحتوي ‏ميراث المعرفة الإنسانية. ‏

جاءت الدراسات الثقافية بمثابة الحقل الواسع لاستيعاب مثل هذه التناقضات والالتباسات ‏سعيًا إلى تفكيكها، والوقوف على عناصرها الأولى، بما يعيننا على فهم أوسع للإنسان، ‏وتوزُّعه المؤلم بين غرائزه واحتياجاته من ناحية، وبين عقله وأحلامه المثاليّة من ناحية ‏أخرى، هكذا جمع مصطلح (الثقافة) بين معارف وعلوم شتى، بل أصبح كل فرد يمتلك ‏قدرًا من الموثوقية المعرفية مثقفًا، بعد أن دعمت المعلوماتية المتاحة على شبكات ‏الإنترنت يقيننا المعرفي، أو بمعنى آخر حرَّرت المعرفة من سلطة المؤسسات ‏الأكاديمية، على نحو ما يذهب إليه (إدوار سعيد) في الدَّوْر العام للكُتّاب والمثقفين(4).‏

ربّما يكون من المناسب أن نبدأ بمراجعة المفهوم ذاته، نعني مفهوم المثقف، مَن هو ‏المثقف؟ وما هي طبيعة العمل الثقافي؟ وهل يجوز لجهة ما، أو فرد مهما كان عظيم ‏الشأن، أن يرسّم بوصفه مندوبًا ثقافيًّا ساميًا؟

ذات مرّة، دعت مجلة أميركية إلى مؤتمر للكُتّاب المناهضين لسياسة "ريجان"، وكانت ‏النتيجة أن حضرت أعداد كبيرة من الناس لا يجمعها سوى شيء واحد: "مناهضة ‏سياسة ريجان"، كانوا خليطًا من الأدباء والفنانين والنقاد ورجال الدين والأكاديميين ‏والحقوقيين والإعلاميين ونشطاء في مجالات المجتمع المدني: البيئة وحقوق الإنسان ‏والمرأة والطفل وبرامج التنمية البشرية والإغاثة وإدارة الأزمات وخبراء التربية.. إلخ.‏

ويرى "إدوارد سعيد" في مقاله (الدَّور العام للكُتّاب والمثقفين) أنَّ هذا التجمُّع هو أبلغ ردّ ‏على مجموعة المقالات والكتابات التي راحت تبشِّر بموت المثقف، معتمدة على أنَّ ‏انتهاء دور المثقف المتوحِّد الرومانسي يعني اختفاء كلمة ثقافة من الوجود، كما يلاحظ ‏أيضًا أنَّ المعنى المفهوم لِما هو كاتب وما هو مثقف أصبح مشوَّشًا، وفضفاضًا، بحيث ‏يمكنه احتواء الكثير من التخصُّصات والمُمارسات التي تندمج في سياق كبير يطلق عليه ‏‏(المثقف العام)، وهذا المثقف الجديد يتخذ من (الحقل الثقافي العام) مجالًا واسعًا لنشاطه ‏الذي يتوجَّه -في الأساس- إلى دور مقاوم لصور الهيمنة الجديدة، إنهم معنيّون بألا يفقد ‏المجتمع البشري إنسانيّته في مواجهة آليّات التنميط والتشيُّؤ. هكذا تصبح الثقافة حقلًا ‏واسعًا في مراقبة حركة التطوُّر بين كل من: الحضارة والمدنيّة. ‏

إنَّ دخول الدراسات الثقافية في حقول المعرفة المعاصرة سواء كانت نظرية أم تطبيقية، ‏أصبح واسعًا وعامًا، بحيث بات من المستحيل تحديده على نحو جامع مانع، ومن ثم ‏فالثقافة والمثقف هما أكثر المصطلحات تداولًا في العصر الحديث، في مقابل تراجع ‏ملحوظ في الدراسات المتخصصة، التي بدأت تتَّجه إلى ما يسمى بالدراسات البينية تأكيدًا ‏للطبيعة التفاعلية للمعارف والعلوم والفنون المعاصرة في بوتقة واحدة تسمى الدراسات ‏الثقافية. وظنّي أنَّ هذا الحراك الواسع نحو الثقافة، كان ضروريًّا، وكأنَّ ميكانيزم ‏التطوُّر البشري، كان يتدرَّب خلال العقدين السابقين على الخطوات الأولى التي تنقلنا من ‏تاريخ الكتابة، إلى مستقبل الرقميّة، تلك التي وضعت الثقافة في أفق افتراضي عام ‏وواسع شديد التفاعل، مثل هذه التحوُّلات وضعت مفهوم الدراسات الثقافية على القمّة، ‏ومهما كان إحساسنا بالقلق تجاه تراجع التخصُّص العلمي، فإنَّ الدراسات الثقافية واعدة ‏بتحوُّلات جديدة من أبرزها ما نتعارف عليه بمصطلح (الصناعات الثقافية) الذي نجح ‏في إدراج التجلّيات الماديّة للحضارة تحت المعنى الثقافي. ‏

لسنا في حاجة إلى تأكيد أنَّ الثقافة في تعريفها تدور في مفهوم واسع وعام يشمل كل ‏أشكال النشاط الإنساني، في الماضي والحاضر والمستقبل، ويتبيَّن لنا هذا من أبرز ‏تعريفات الثقافة على نحو ما نجد عند "روبيرت بيرستيد" في كتابه (النظام الاجتماعي- ‏‏1963) بقوله: "إنَّها ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو ‏نمتلكه، كأعضاء في المجتمع"(5) لندرك أنَّ بصيرة (طه حسين) انتبهت -على نحو ‏مبكر- إلى رؤية أكثر اتِّساعًا للثقافة عن تلك التي وجدها في عصره.‏

وهنا ينبغي الالتفات إلى طبيعة المتغيِّر الذي طرأ على مفهوم المجتمع نفسه، ففي عصر ‏السماوات المفتوحة، وتعدُّد وسائط الاتصال التي جعلت العالم قرية صغيرة واحدة، ‏تتماهى فيها الحدود الزمانية والمكانية، بحيث يبدو كل شيء يحدث هنا والآن، لم يعُد ‏من الممكن الكلام عن ثقافة مجتمع ما، بمعزل عن مدخلات ثقافيّة أخرى تؤثر فيه، إنها ‏مدخلات يمكنها أن تتجاور مع تلك التي اعتدنا عليها، ومثلت خصوصيّتنا الثقافية، أو ‏أسهمت في تشكيل هويّتنا، فعلى سبيل المثال، سنجد أنَّ انتشار ثقافة (الديلِفَري، والتيك ‏أواي) في الأطعمة، وما يرافقها من ذائقة غربيّة، لم تتمكَّن من إزاحة تقاليد الطعام في ‏المناسبات المتجذِّرة في هويّتنا، ولا سيّما تلك المرتبطة بمعتقداتنا الدينيّة، أو عاداتنا ‏وتقاليدنا مثل: شهر رمضان وعيد الفطر، والعيد الأضحى، بل وشمّ النسيم...إلخ. ‏

لم تعُد الثقافة إذن، مجرَّد أداء ذهني وفردي كالأدب والفن والفلسفة، إذْ إنَّ وسائط ‏الاتصال الحديثة أوجدت أنماطًا من الممارسات الثقافيّة لم تكن موجودة من قبل، وتتميَّز ‏بطابع أدائي وعملي، يرقى إلى مستوى الصناعة، وقد وضع تعريف اليونسكو للثقافة في ‏اعتباره هذا المتغيّر الكبير(6) وهو يشير على نحو واضح إلى منتوجات ثقافية مثل: ‏الإعلانات، والعمارة، والحرف، وتصميم الأثاث، والملابس، والطعام، والأفلام، ‏والفيديو، والبرمجيات، والتلفزيون، والأنتيكات، والكتابة والطباعة، وفنون العرض ‏المختلفة سواء المنقولة عبر وسائط الاتصال الجماهيري، أو الحيّة كالمسرح والأوبرا ‏والرَّقص، والرياضات الروحيّة والبدنيّة، والمتاحف ذات العمق الحضاري والتراثي. ‏وفي هذا السياق، يمكننا ملاحظة، أنَّ اليونسكو حرصت -خلال فترات الذروة لوباء ‏كوفيد 19 المستجد- على حثّ المؤسسات الثقافية الكبرى لتفتح مواقعها على الشبكة ‏العنكبوتية كوسيلة داعمة لضرورة العزل الطبي، بمعنى أنَّ التزام البيت لا يعني عزلتك ‏عن العالم. لقد استطاع أيّ فرد في العالم وفي أيّ مكان، أن يطّلع على مواقع الأفلام ‏والقنوات التلفزيونية، وعروض المسرح، والإذاعات الخاصة، والمكتبات، فضلًا عن ‏إمكانية زيارة المتاحف العالميّة من خلال برامج المحاكاة (السيمولوجيا) لتقدِّم واقعًا ‏بديلًا للواقع المعاش، هو الواقع الافتراضي أو الواقع المعزّز. لقد نجحت آليات الاتصال ‏والوسائط التكنولوجية، في الحدّ من تأثير القلق الوجودي المرافق لكوفيد -19، وفي ‏الوقت نفسه عزَّزت درجات الوعي الصحي بها. ‏

على كل ما سبق، لم يعد التفكير في رسم استراتيجيات ثقافية شأنًا محليًّا، أو قوميًّا ‏فحسب، بل عالميًّا بالضرورة. كما أنَّ الممارسات الثقافية لم تعُد شأنًا فرديًّا، بل ‏جماهيريًّا يقوم على عمليات من التفاعل الواسع عبر أدوات الاتصال الحديثة، التي ‏جعلت العالم قرية واحدة؛ ومن هنا جاء التفكير فيما أطلق عليه "الصناعات الثقافيّة". ‏بعدما تأكَّد أنَّ المُنتَج الثقافي الواحد تقوم عليه أطراف متعدِّدة، ويخضع لآليات عمل ‏تمثل خطوط إنتاجه. وإذا كان هذا يبدو واضحًا في السينما والتلفزيون، فهو بلا شك، ‏موجود في كل المعطيات الثقافية التي أشرنا إليها سالفًا. بل هو قائم في إنتاج عمل ‏أدبي. فنحن نعرف أنَّ غلاف الكتاب الذي يخضع لفنون الجرافيك وبرامجه أصبح عتبة ‏نصيّة تدخل في التناول النقدي والقرائي له، بل وعتبة بصريّة إلى أسواق الكتب، ليصبح ‏جزءًا من آليات التسويق التي أصبحت ضرورة في صناعة الكتاب. ‏

لعلَّ التفكير على هذا النحو يدخل في نطاق سياسات العولمة التي بدأت كلمة سيّئة ‏السمعة، ثم أصبحت واقعًا لا يمكن تجاهله، وهو متغيّر يفرض علينا اعتبارات جديدة في ‏رسم السياسات الثقافية، لا أظن أنها تتعارض مع السياسات القديمة ذات الخصوصيّات ‏المحليّة، بل ربما تتفاعل معها وتدخلها في سياق تنموي وعالمي، إذْ إنَّ ثقافة ما بعد ‏الحداثة التي تميّزت بحضور أداتي، عبَّرت عن سيولة ثقافيّة، يتداخل فيها الماضي ‏والحاضر والمستقبل على نحو ما يذهب "زيجموند باومان"، "وديفيد ليون"(7)، كما أنها ‏تجمع بين أنماط وأساليب الحياة، ومنتجاتها الثقافية. غير أنَّ هذا الجمع هو الذي يؤكد ‏مفهوم الهويّة، باعتبارها مكوِّنًا ثقافيًّا بالأساس، ولكنه مفهوم فضفاض: "إذ تمتدّ جذوره ‏وتتشابك مع روافد تاريخية وحاضرة وأصيلة تنتمي إلى مجتمعه، وواردة انتقلت بفعل ‏التأثير والتأثر، ويصل الإرباك مداه في محاولة التعمق الرأسي، حيث يمكن أن تندرج ‏تحته، العديد من السمات المتشابهة فيما بينها أو بين هويّات أخرى"(8). إنَّ الملاحظات ‏التي يطرحها الباحث هنا، تثير كثيرًا من القلق تجاه الثقافة، يذكِّرنا بقلق الحضارة عند ‏‏"فرويد"، ولا سيّما فيما يتعلق بسؤال الهويّة، الذي ارتبط بالثقافة إلى حدّ كبير. ‏

لقد ظلَّت الهوية مصطلحًا متداولًا وحائرًا بين معانٍ عديدة، كالتاريخ والجغرافيا، ‏والمعتقدات الدينية، والعادات والتقاليد، واللغة، بل ومرتبطة بقيود سياسية وقانونية ‏كالجنسية والانتماء الوطني، والأنظمة الحاكمة، لكن العالم الآن، بدأ يتكلم عن الهوية ‏العالمية، التي تُبنى عبر برامج تنموية توافق الأعمار المختلفة تستهدف بناء الشخصية ‏العالمية.‏

لكن ما المقصود بالشخصيّة العالميّة؟ وهل يتعارض مع مفاهيم أخرى مثل الانتماء، ‏والخصوصيّات الثقافيّة، والهويّات المجتمعيّة؟

إنَّ المعطيات التي تبرِّر وجود الشخصية العالمية هي نفسها التي تبرِّر أهمية الالتفات إلى ‏الهويات المميّزة للمجتمعات، غير أنَّ التفكير في رسم سياسة ثقافية موائمة لمستجدّات ‏العصر، عليها أن تضع في الاعتبار مفهومًا أوسع للهويّة، قائمًا على الاتصال بالمنتج ‏العالمي للثقافة.. مفهوم يمكن أن نطلق عليه (الهوية الثقافية)؛ إذْ إنَّ التعريف الواسع ‏للثقافة، يكاد يغطي كل جوانب الكرة الأرضية، وشعوبها بغضّ النّظر عن خصوصيّاتها ‏الثقافية، أي أنَّ المنتج الثقافي الذي حققته التكنولوجيا، لا يتعارض مع الخصوصيات ‏الثقافية، بل يدعمها، ويعمل على إدخالها في فضاء عالمي. وبمعنى آخر يصبح مفهوم ‏الهويّة لشخص ما أو مجتمع ما، جزءًا من المفهوم الثقافي الواسع للعالم الجديد. ‏

تبني الهوية على ثلاثة مستويات: ‏

الأوَّل: فردي، مميّز للذات الإنسانية في كل وأيّ مجتمع، وهذا التميُّز لا يظهر إلا عبر ‏ممارسات من التفكير الإبداعي، فالشخصيات المميَّزة في المجتمع لا تملك هذه السمة إلا ‏من خلال طرائق من التفكير الجانبي غير النمطي شأن كبار الكتاب والفنانين والمثقفين، ‏وهذا الأمر يستوجب مساحات أوسع من حريّة التفكير والتعبير والاختلاف، إنها ‏فضاءات تؤكِّد الهويّة الفرديّة لتميِّز نفسها في محيطها الاجتماعي. ‏

والثاني: جمعي، وهو ما يدخل في نطاق الثقافة الشعبيّة لمجتمع ما.. فالهويّة الفرديّة ‏ليست بمعزل عن هويّة مجتمعها، بمعنى أنَّ تميُّزها داخل مجتمعها لا يُخرجها عن ‏خصوصيّتها الثقافيّة مثل: اللغة، والمعتقدات والعادات والتقاليد، بل يغذّي وينمّي كل ‏منهما الآخر، ومع الوقت يبرز أثر الثقافة السابقة في اللاحقة.‏

أمّا المستوى الثالث فهو: الهويّة الثقافيّة.‏

إنَّ أمر الهوية الثقافية لا يأتي عبر عمليات دمج نظري أو قانوني كالجنسية أو حقوق ‏المواطنة فحسب، بقدر ما يأتي عبر مشاركات وأنشطة تنهض على تبادل الخبرات ‏وتنمية المهارات العملية لترقى إلى المستوى العالمي(9)، ومن ثم تصبح جزءًا من الثقافة ‏العالمية دونما رهاب من ذوبان هويّتنا الثقافيّة الخاصة. بل على العكس، فإنَّ الهويّة ‏الثقافيّة العالميّة تتَّسع للهويّات الفرديّة أو المجتمعيّة الخاصة، وهو ما حرص شُرّاح ما ‏بعد الحداثة على تأكيده، باعتباره عودة للأصوليّات توصم عصرنا الآني. لكن الجانب ‏المضيء الذي يتجسَّد في الهوية الثقافية ذات النزعة العالميّة، أنَّ الآخر أيضًا سيتحرَّر ‏من الرّهاب عندما يتمكَّن من التعرُّف على ثقافتي، بمعنى أنَّ ما يُخيفنا من ثقافة الآخر ‏ويحفِّز مشاعرنا العدوانيّة تجاهه هو اغترابنا عنه، أي عدم وجود فواعل مشتركة بيننا ‏وبينه. ‏

إنَّ هذه الفواعل المشتركة هي التجسيد المستهدف لمفهوم الهوية الثقافية للإنسان ‏المعاصر، فالمسلم الذي يدخل مطعمًا فرنسيًّا، ويجد لافتة ترشده إذا ما كان الطعام ‏مصنوعًا من لحم الحنزير أو لحم البقر، سيشعر بألفة لكون طهاة المطعم يحترمون ‏عقيدته، ويضعونها في الاعتبار. ‏

كما أنَّ اللاعب العربي الذي يلعب لصالح الفريق الإنجليزي لا يتردَّد في السُّجود إذا ‏أحرز هدفًا لفريقه الإنجليزي دونما امتعاض من جماهير اللعبة العالميّة، ذلك أنَّ ‏الممارسات على هذا النحو تتحوَّل مع الوقت إلى ثقافة عالميّة تسعى لقبول الآخر وتعزِّز ‏بناء الشخصيّة العالميّة. ‏

وعلى ما تقدَّم من متغيرات في الحراك الثقافي وطبيعته، اتخذت المنظمات المعنيّة ‏بالثقافة توصيات بأهميّة التنمية الثقافية المستدامة عبر ما يُعرف بالصناعات الثقافيّة. ‏

تشير نوال المسيري(10) إلى محورين أساسيين لطبيعة الصناعات الثقافية: ‏

الأول: اعتبار الثقافة في صورتها المعاصرة منتجًا، يرتبط بشروط العرض والطلب، ‏ويضمن عائدًا اقتصاديًّا يسهم في تنميتها، ويدخل في هذا الباب صناعة السينما والدراما ‏التلفزيونية والمسرح وصناعة الكتاب. ‏

الثاني: أن تتحوَّل الثقافة من مجرَّد القيمة الرمزية إلى القيمة العملية على نحو ما نجد ‏في: فنون الجرافيك والبرمجيات، والحِرَف اليدوية وتصميمات العمارة والأثاث ‏والملابس والمنتوجات الجلدية التي تحمل الخصائص الثقافية لمجتمعاتها.‏

ووفقا للمحور الأوَّل، يشعر الكثير من المثقفين بالقلق، لدخول الثقافة في أنماط ‏استهلاكية تتحكّم فيها الكيانات الرأسماليّة، ومن ثم تعمل على طمس الخصوصيات ‏الثقافية للمجتمعات، لهذا تشير الباحثة "نوال المسيري" إلى أنه ينبغي الاهتمام بالعمق ‏التراثي لكل ثقافة لتمثِّل نفسها في مصنوعاتها الثقافية، كما ينبغي أن توضع خطط ‏متكاملة للمجتمعات التي تتشارك في أنساق ثقافية واحدة أو متشابهة. وجدير بالذكر أنَّ ‏هذا يمكن تحقُّقه بين الدول العربية على نحو ممنهج ومنظَّم يبرز التراث كقاسم مشترك ‏بينها. كذلك تسويقه عبر معارض متعدِّدة لتحقيق أكبر عائد ثقافي مشترك يمكن تحقيقه.‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، طبعة دار المعارف، القاهرة، 1996. ‏

‏(2)‏ ‏ أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة، العدد 7، 1933.‏

‏(3)‏ ‏ سيجوند فرويد، قلق في الحضارة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للباعة والنشر، ‏بيروت.‏

‏(4)‏ ‏ إدوارد سعيد، الدور العام للكتاب والمثقفين، مجلة الكرمل، فلسطين (رام الله)، العدد ‏‏68.‏

‏(5)‏ ‏ حسام فازولا، السياسات الثقافية- النشأة، التطور، العقلانية، مؤسسة حرية الفكر ‏والتعبير، القاهرة.‏

‏(6)‏ ‏ إعلان مكسيكو للثقافة، منظمة اليونسكو، 1982.‏

‏(7)‏ ‏ زيجموند باومان، وديفيد ليون، ترجمة: حجاج أبوجبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ‏بيروت، 2017.‏

‏(8)‏ ‏ محمود الضبع: الثقافة والهوية والتكنولوجيا، مكتبة الإسكندرية، مصر، 2015.‏

‏(9)‏ ‏ سعيد يقطين: تجسير الثقافات والوسائط موقع ‏http://bilarabiya.net/9280.html‏ (ملف الدراسات) تموز/ يوليو 2019.‏

‏(10)‏ نوال المسيري: الصناعات الثقافية المصرية (بحث محكم)، دورية الفنون ‏الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، عدد (كانون الثاني- شباط- آذار)/ (يناير- ‏فبراير- مارس)، 2019.‏