هزيمة "جينيت" أمام الأجناس الأدبيّة

د. نادية هناوي

أكاديمية وناقدة عراقية

 

 

يَعتقدُ بعض الباحثين أنَّ "جيرار جينيت" بوضعه مسمّى (الأجناس الجامعة أو جامع ‏الأجناس) في كتابه (مدخل إلى النص الجامع) يكون قد حلّ الإشكاليّة الأجناسيّة وأغلق ‏باب الأجناس الأدبيّة إلى الأبد. ومَن يعُد إلى هذا الكتاب فسيجد العكس؛ أي أنَّ ‏‏"جينيت" فتح باب الإشكاليّة من جديد على أساس أنَّ النظريّات السابقة (البنيويّة ‏والسيميائيّة والتناصيّة) قد انحازت لصالح النص فلم تستطع أنْ تحلَّ الإشكاليّة التي ‏صارت تتَّجه بقضيّة الأجناس نحو اللاتجنيس، وهو الخطر الذي يعقِّد الإشكاليّة ‏ويصيبها في الصميم. لذا وضع "جينيت" مدخله النظريّ محاولًا طَرق باب الأجناس ‏مجدّدًا، فهل تمكَّن من تخطي المدخل؟ أم أنه بقى واقفًا عنده وربّما خارجه؟

‏ ‏

لقد أضاف "جيرار جينيت" إلى النظريّة السرديّة إضافات بنيويّة مهمّة، دشَّن خلالها ‏مصطلحات ووضع مفاهيم ووطَّن تصوُّرات على الصعيدين النظري والإجرائي حتى ‏تخطّى النصيّة البنيويّة إلى ما بعدها، مهتمًّا بدراسة سيميائيّة النص كعتبات عنوانيّة ‏رئيسة وفرعيّة وأسماء المؤلفين والأغلفة الأماميّة والخلفيّة وإهداءات واستهلالات ‏وكليشهات يضعها المؤلف والناشر..إلخ.‏

ولا يخفى أنَّ ملامح الفكر النقدي عند "جينيت" كانت قد بدأت بكتابه (وجوه) 1959، ‏أمّا كتابه أو بالأحرى كتيّبه (مدخل لجامع النص أو مدخل إلى النص الجامع) الذي ‏نشره عام 1979 فكان المنطلق نحو ردم نواقص النص بما بعد النص، وقد فهمه ‏كثير من نقّادنا على أنه وَضَعَ حلولًا لإشكاليّة التجنيس الأدبي. وما تعدُّد ترجمة هذا ‏الكتاب والاختلاف فيها سوى دليل على صعوبة أسلوب "جيرار جينيت".‏

وصعوبة أسلوب "جينيت" أمرٌ يؤكِّده المترجمان د.عبدالرحمن أيوب ود.عبدالعزيز ‏شبيل، فالاوَّل عدَّ أسلوبيّة الكتاب محفوفة بالمخاطر(1)، أمّا الثاني فوصف الكتاب ‏بأنه يجمع الدقّة العلميّة بالعبارة المخاتلة(2).. ونضيف للصعوبة بُعدًا آخر هو توزُّع ‏فكر "جينيت" بين تأكيد أهميّة الأجناس الأدبيّة وبين التركيز على النص وأهميّة ‏التداخل النصّي وحقيقة التعالق بين النصوص والأجناس، والذي معه تُنتفى قضيّة ‏التجنيس أصلًا. ‏

ويبدو أنَّ اهتمام "جينيت" الكبير بالتنظير للتناص والتداخل النصّي قد ألزمه الوقوف ‏عند هذه القضية مكتشفًا أنه أمام إشكاليّة.‏

إنَّ موقف "جيرار جينيت" من قضية الأجناس وأسباب الحيرة التي وقع فيها يتطلّب ‏منّا تحرّي المؤشرات التي حواها كتاب (مدخل لجامع النص) لعلّنا نتمكّن من الإجابة ‏عن تساؤلات تتعلق برؤية "جينيت" لماهية النص ومفهومه للجنس؟ ولماذا كانت ‏تطبيقات "جينيت" أجناسيّة بينما تنظيراته نصيّة؟ وما سبب الحواريّة التي ختم بها ‏‏"جينيت" الكتاب وفيها رفع الراية البيضاء مكتفيًا بالوقوف عند المدخل حيث دوّامة ‏النص وما بعد النص قائمة، متبنِّيًا مفهوم (التعالي النصّي ‏architext‏)؟ ولماذا رفض ‏المترجمان تعريب المفهوم بـ"النص المعماري" أو "معمار النص" الذي هو أقرب ‏لمعناه بالفرنسيّة؟ وما علاقة التعالي النصي بجامع النص أو الجنس الجامع؟ ‏

إنَّ قراءة استقرائيّة في هذا الكتاب ستكشف عن خمسة مؤشرات، فيها نجد الإجابات ‏الناجعة للأسئلة أعلاه، وهذه المؤشرات هي:‏

 

أولًا: ركام نوعي من دون قانون شعري

ابتدأ "جيرار جينيت" كتابه موضع الرَّصد بكلمة في الأجناس الأدبيّة افترض فيها أنَّ ‏هناك أجناسًا أدبيّة كبرى، وتحتها يوجد ركام من الأشكال الصغرى. وقوله (ركام) ‏يعني أنَّ لا نوعيّة حديّة فيها كما أنّها مقصيّة لصغرها إقصاءً يمتدُّ لقرون. وهذا برأي ‏‏"جينيت" لا يشمل الأجناس السرديّة لأنَّ لها قانونها. أمّا أنواع الشعر وأشكاله فلا ‏قانون لها يوضّح (الضيق الحقيقي لحدودها والضيق المفترض لمادتها)(3) ومثاله ‏على ذلك (القصيدة الغنائية والسونيت والمرثاة) لكونها ليست محاكاة كلاميّة ولأنَّها ‏محرَّفة عن القانون التصنيفي للسرد.‏

لكن السؤال هو لماذا تجاهل "جينيت" تصنيف أرسطو للعنصر الغنائي جنسًا أدبيًّا ‏معروف الحدّ ومعلوم المحاكاة جنبًا إلى جنب العنصرين الدرامي والملحمي؟ ‏

لا شكَّ في أنَّ "جينيت" رفض مسايرة النظرية الأرسطية في الأجناس محاولًا بذلك ‏إيجاد وجهة نظر تعديليّة قوامها التقنين وليس التراكم. ‏

ثانيًا: سخرية علنيّة واندفاع متدار

لأنَّ "جينيت" غير مقتنع بالتجنيس، سَخَر من موضوعة التصنيف، معبّرًا عنه بالرّسم ‏البياني الشديد الإغراء للنموذج الثلاثي الذي لا ينفك (يتحوّل) لكي يبقى حيًّا(4). ولا ‏شكّ أنّ ما يعنيه "جينيت" بـ(التحوُّل) هو عدم ثبات أرضيّة التجنيس كما إنَّ تعبيراته ‏الساخرة بأوصاف (الباهرة/ نشوى/ مزيف/ مزيفة) هي الإشارة الأولى إلى أنه ينحاز ‏إلى القول باللاتجنيس على حساب التصنيف. وعلى الرغم من محاولته إرجاء الإعلان ‏عن هذا القول، فإنَّ فكرة اللاتجنيس ستتّضح أكثر فأكثر كلما تقدمنا داخل الكتاب، وأنَّ ‏الأجناس الثلاثة الكبرى (نفسها في فوضى.. نشعر إذن بالحاجة إلى تصنيف أكثر ‏صرامة ينظم حتى توزيع كل نوع)(5) فهل وصل "جينيت" إلى نظام صارم في ‏التصنيف فعلًا وهو الذي استهزأ بالتجنيس أصلًا؟! ‏

لا نريد أن نستبق الكلام فنقول إنَّ "جينيت" من دعاة اللانظام في بناء الأجناس لأنه ‏أول الأمر بذل جهدًا وهو يحاول وضع تصنيف للسرد فوجده صرفًا ومختلطًا أو ‏كبيرًا وصغيرًا أو هو رئيس وفرعيّ. أمّا لماذا استند "جينيت" إلى "غوته" فلأنَّ ‏الأخير قال باللاتجنيس، وهذا مؤشِّر أوَّل على أنَّ "جينيت" يحبذ ما كان متبنيًا نقديًّا ‏في القرن التاسع عشر حول قضية الأجناس محتجًّا به لتدعيم رأيه. أمّا المؤشر الثاني ‏على ميلان "جينيت" لفكرة اللاتجنيس فهو اعتقاده الجازم بمغلوطيّة فهم شعريّة ‏أفلاطون وأرسطو وأنَّ الاحترام والوهم هما اللذان أدَّيا إلى فهم تنظيم الأجناس وتقسيم ‏الأنماط فهمًا خاطئًا. ‏

واستند "جينيت" أيضًا إلى "كارل فييتور" الذي رأى أنَّ الأجناس الثلاثة الكبرى تعبِّر ‏عن ثلاثة مواقف جوهريّة، فبنى عليها "جينيت" بدوره تمييزات لسانيّة بين الأجناس ‏والأشكال والصيغ والأنماط، مندفعًا نحو اعتبار (الصيغ مقولات نابعة من ‏اللسانيّات)(6).‏

ثالثًا: الجمع حلًّا والحلّ جمعًا

إنَّ هذا الاندفاع في لملمة الأجناس بالأشكال والصيغ والأنماط جعل "جينيت" يقترح ‏بشكل مبدئي مفهوم (الأجناس الجامعة أو جامع الأجناس أو معمار النص) معتبرًا أنَّ ‏كلمة الجامعة ستفي بالغرض الذي يريد تحقيقه، إذ لا حدود ولا تفريعات بين الأنواع ‏والصيغ والأجناس التي هي بداهة -بحسب "جينيت"- مجرّد ظواهر ثقافية وتاريخية ‏مهما كانت سعتها ودوامها وأيًّا كانت سماتها في التحديد والتقولب. ‏

و"جينيت" يقرّ بوجود معايير للأجناس الجامعة ولا يقرّ بوجود قوالب أو حدود تتخندق ‏فيها الأجناس والأنواع والأشكال، ومن ثم لا مجال لضبطها و(لا أحد يقدر هنا على ‏وضع حد لتكاثر الأنواع)(7).. تأثرًا بـِ"غوته" وترسيمة "بترسن" لوردة الأجناس(8).‏

وبقبول "جينيت" بالمعمار الجمعي وبرفضه القول بالحدّ والإطار يكون مقتربه النقدي ‏قريبًا من نظريّة التداخل النصي وطبيعته التجريبيّة (اللاحديّة) وبعيدًا عن نظرية ‏الأجناس وما فيها من أفكار تصنيفيّة (حديّة). ‏

وما دام الأمر بحسب "جينيت" قائمًا على الجمع والشمول، فلا حاجة بعد ذلك كله إلى ‏تصنيف أو تبويب فـ(في تصنيف الأنواع الأدبية لا يوجد موقع يكون بالأساس طبيعيًّا ‏أكثر أو مثاليًّا أكثر.. لا يوجد مستوى أجناسي يمكن أن نقرّ بشأنه أنه أكثر تنظيرًا أو ‏يمكن إدراكه منهجًا أكثر استنباطًا من المستويات الأخرى)(9)، وبهذا الحل الجامع ‏المانع تكون فكرة التجنيس الأدبي منتفية بفكرة التداخل النصي، وتغدو كل الأجناس ‏الفرعية والأجناس الرئيسة والأنواع والأشكال خليطًا متجانسًا (تضيع معه الحدود) ‏حيث لا قوالب مرسومة ولا طبقات محدّدة.‏

رابعًا: مقبوليّة الطبيعة ولا مقبوليّة التاريخ

نظر "جينيت" إلى الأجناس الأدبية بوصفها ظاهرة إبداعية طبيعية، معتبرًا العلاقة بين ‏الأجناس والصيغ علاقة معقدة. وقد تعرض "جينيت" بسبب نظرته التقاطعية هذه ‏للطبيعة والتاريخ إلى انتقادات وأهمها ما قاله "فيليب لوجون" عن خاتمة مقالة ‏‏"جينيت" (أجناس، أنماط، صيغ) المنشورة في مجلة (إنشائية) في تشرين الثاني/ ‏نوفمبر 1997 بأنها شديدة الجرأة لكونها تخترق الأجناس؛ أي تفكِّكها. ‏

وبرأي "جينيت" تكون المأساة مضمّنة في الدراما، والدراما مضمّنة في المأساة، كما ‏يمكن لأجناس فرعيّة أن تتداخل بغيرها.‏

خامسًا: حيرة التَّداخل وصعوبة التَّجنيس

إنَّ ميل "جينيت" الكبير نحو النص جعله يرى الأجناس بلا قوالب ذات حدود بيانيّة ‏وبلا خانات حديّة. ومن ثم تغدو ماهيّتا الجنس والنص عنده واحدة حيث الأنماط ‏الكبرى والأشكال الصغيرة والأجناس المتوسطة ليست سوى طبقات أوسع وأقل ‏تخصيصًا من بعضها بعضًا. ‏

ولأنَّ أمر هذه المجهولية قد أسقط إثباتها في يد "جينيت"، قال مستدركًا: (إنني لا ‏أدّعي بتاتًا أنني أنفي عن الأجناس الأدبية كل أساس طبيعي وعابر للتاريخ)(10)، ‏وكلما حاول "جينيت" إثبات فكرة اللاتجنيس بتفضيل مفهوم النص والتنصيص على ‏الجنس والتجنيس، تظلّ الحيرة مرافقة له في شكل تردُّد وإبهام وتذبذب والتباس، سببه ‏عدم رغبته في التصريح بأنه مع اللاتجنيس. وحين أراد أن يعمِّم التداخل على الصيغ ‏بوصف التداخل هو الاحتضان والتضمين وجد أنَّ الأمر يزداد صعوبة، والسبب: ‏

أولًا: أنه جعل الصيغة أشمل من الجنس في عمليّة الجمع والاشتمال والتضمين، قائلًا: ‏‏(فإذا كانت الصيغة السردية صنفًا شاملًا مستمرًا بصفة شرعيّة فمن البديهي أيضًا أن ‏تحتضن نظرية عامة للأجناس تخصُّصات تحت- الصيغيّة لفن السرد، ويصدق هذا ‏القول على التخصصات المحتملة للصيغة الدرامية)(11)، ولا يتَّضح من هذا التغليب ‏للصيغة على الجنس أيّة أطر أو حيثيات تعطي لمفهوم الصيغة مكانًا ما في نظرية ‏الأجناس. ‏

ثانيًا: أنه جعل الصيغة أعمّ من النمط، وهو ما زاد في إشكالية التداخل بين الأجناس، ‏مما عبّر عنه "جينيت" بالصعوبة قائلًا: (إنَّ الصعوبة تبلغ ذروتها عندما نحاول ربط ‏صنف الجنس بصنف النمط ربطًا تداخليًا. فإذا كانت الصيغة السردية تتضمن الرواية ‏مثلًا فمن المستحيل أن نبوّب الرواية تحت تخصُّص معيَّن من الصيغة السردية.. ‏باختصار إذا كان النمط صيغة فرعية، فإنَّ الجنس على العكس ليس نمطًا فرعيًّا وهنا ‏تنفصم سلسلة التداخل)(12)، وينتهي "جينيت" إلى:‏

‏-‏ أنَّ (الصيغة) مقولة متفرعة لسعتها، و(الجنس) إحدى تفريعاتها، وهو يتفرَّع ‏إلى سرد متشابه الأطراف وسرد متعدِّد الأطراف.‏

‏-‏ أنَّ التطبيق على جنس الرواية سيكشف أنها لا تندرج في أي من هذين ‏السردين، فهناك روايات بضمير المتكلم وروايات بضمير الغائب(13)، وما ‏كان لـ"جينيت" أن يقع في هذه الحيرة لو أنه أقرَّ بطبيعة الجنس القوالبيّة ‏واعترف بالتطوُّر التاريخي للأجناس. ‏

وبدا الاضطراب واضحًا على "جينيت" من استدراكاته التطبيقية على تنظيراته، وفيها ‏يتقاطع النَّمط بوصفه صيغة فرعيّة مع الجنس بوصفه ليس نمطًا فرعيًّا، لذا اعترف: ‏‏(إني أقرّ بالفعل بوجود نسبي على الأقل لثوابت لا تاريخية أو بالأحرى عابرة ‏للتاريخ)(14).‏

وإذا كان للأجناس تاريخ من التطور الأدبي، فإنَّ من الطبيعي أن نجد "جينيت" يصف ‏الأجناس باللعبة الخطرة، بوصفه الناقد صاحب الرؤى البنيوية والمتحفظ من التعبير ‏صراحة عن موقفه من تاريخ الأجناس، غير مستبعد وجود مفاجآت وتكرار ونزوات ‏وتحوُّلات فجائية وإبداعات غير منتظرة، قائلًا: (توجد دومًا صعوبة وارتباك. وتاريخ ‏هذا الارتباك هو تقريبًا ما رسمته في ما سبق وهو أيضًا ما يهدّدني هنا بإعادة فتح ‏فصل جديد له. التاريخ رسم كاريكاتوري بنيوي فلا يكون التراكمي والحتمي ممكنًا ‏للاختزال)(15)، والمحصلة التي ننتهي إليها هي أنَّ التداخل يُلغي التاريخ.‏

وما كان لـ"جينيت" أن يوافق "فيليب لوجون" في عدِّه السيرة الذاتية جنسًا حديثًا نسبيًّا ‏إلا لأنه عرَّفها بألفاظ لا يتدخل فيها أيّ تحديد تاريخي (حكاية استرجاعية..) لكنه ‏يعود مناقشًا صحة رأيه في اتخاذ السيرة جنسًا، قائلًا: (الحقيقة أنني لست متأكدًا أني ‏مع السيرة الذاتية قد اخترت المثال الأصعب، كما أننا دون شك سنلقى عناء أكبر في ‏تصوُّر أرسطو وهو يعرف أفلام رعاة البقر أو أوبرا الهواء الطلق)(16)، ويظل ‏‏"جينيت" دائم الاستدراك والتشكيك والتعارض مع مقولاته حول الصيغة والنمط ‏والجنس إلى جانب تعقيباته التي تكشف عن تذبذبه وصعوبة ما يسعى إلى توكيده(17).‏

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل هزمتْ الأجناس الأدبيّة "جيرار جينيت"؟

إنَّ ميزة النقاد المنظرين الكبار أنهم يتمتعون بروح رياضية؛ فهم يعلنون فوزهم حين ‏يكونون واثقين من تنظيراتهم احتجاجًا وانتصافًا، لكنهم أيضًا لا يتردّدون من ‏الاعتراف بالهزيمة والفشل إن هم عجزوا عن وضع أساسات متينة لِما ينظِّرون له ‏تاركين الباب مشرعًا لمن يأتي بعدهم ويكمل مشوارهم.‏

وإذا كانت هذه الروح الرياضية هي الحاضرة في الفكر النقدي الغربي، فإنَّ روح ‏الانبهار بفكر الآخر هي الطاغية على نقدنا العربيّ، ليس لأنَّ مثل هذا الفكر قليل ‏بالقياس إلى التطبيق الذي لضخامته ضاع النقد العربي في ركاب النقد الغربي، بل هو ‏أيضًا ما اعتاده الناقد العربي من التحلّي بذات سمتها الاعتداد الذاتي والتباهي والتعالي ‏والتباري في استقبال المفاهيم والنظريات الغربية والاحتشاد له بالتطبيق على الشعر ‏والسرد(18).‏

وبسبب ما تقدَّم ظنَّ بعض الدارسين نقادًا وباحثين أنَّ كتاب "جينيت" (مدخل إلى ‏النص الجامع) قد حلَّ إشكالية الأجناس الأدبية بعد أن اختبر فروضها غير مصدّقين ‏أنَّ "جينيت" أقرَّ بأنَّ (تقريبه متعجِّل) وأنَّ من الضروري التخلي عن المشروع ‏لمؤرِّخي الأدب (قد تكون في ذلك (هزيمة) لا بأس بها وفيه أيضًا فيما يبدو ما يريح ‏كل الناس مع أنَّ كل المقالات المستشهد بها ليست بالتأكيد مصادر، لكنّني أشك في أننا ‏نستطيع بسهولة كبيرة أو بفائدة كبيرة كتابة تاريخ مؤسسة)(19)، وعبَّر في موضع ‏آخر عن الهزيمة بالورطة بالقول: (إنَّها ورطة كوضع الإصبع بين التروس ‏المسنَّنة)(20).‏

وعلى الرغم من محاولات "جينيت" اقتراح مسميات (الصيغ والأنماط والأجناس) ‏بأشكال فرعية ونقية ومختلطة، فانَّ ذلك لم يمنعه من الاعتراف للقارئ بأنه انتهى إلى ‏دوامة هي نفسها التي ابتدأ بها عائدًا من جديد إلى تعريف الجنس متسائلًا: ما الرواية؟ ‏قائلًا: (ها نحن -من جديد- في خضمّ الإنشائيّة= ما الرواية؟ سؤال عديم الفائدة، ‏فالمهم هو هذه الرواية.. لنشغل أنفسنا بما يوجد أي بالآثار الفرديّة، لنَنقُد فالنَّقد ليس ‏بحاجة إلى الكليّات بتاتًا)(21).‏

وهذه الروح العالية من العلمية والتواضع انتهت بـِ"جينيت" إلى افتراض وجود حوار ‏بينه وبين "فردريك"، فيه حاول "جينيت" أن يبيِّن ميله إلى اللاتجنيس(22)، ولا فرق ‏إن كان "جينيت" يقصد بفردريك "نيتشه" أو كان يقصد به "شليغل" ما دام الاثنان قد ‏قالا باللاتجنيس. وممّا جاء فيه:‏

‏(ولحدّ الآن لا يعنيني النص إلا من حيث تعاليه النصي، معرفة كل ما يضعه في ‏علاقة -ظاهرة أو خفيّة- مع نصوص أخرى اسمّي ذلك "التَّعالي النصّي" وأدرجه ‏ضمن التناص بالمعنى المحدّد والكلاسيكي منذ جوليا كريستيفا)(23). وقد ترجم ‏د.عبدالرحمن أيوب المقطع بالشكل الآتي (لا يهمّني النص إلا من حيث تعاليه النصّي؛ ‏أي أن أعرف كل ما يجعله في علاقة خفيّة أو جليّة مع غيره من النصوص، هذا ما ‏أطلق عليه التعالي النصي وأضمنه التداخل النصي بالمعنى الدقيق والكلاسيكي منذ ‏جوليا كريستيفيا)(24).‏

وبهذه الحوارية يكون "جيرار جينيت" قد أكّد أنه مع النص قبلًا وبعدًا، أمّا الجنس ‏فمستبعد من هذا التنظير كل الاستبعاد. وأمّا لماذا تبنّى "جينيت" مفهوم (التعالي ‏النصي) فلأنَّ العودة تكون دائمًا إلى النص كحلٍّ وسطي بين رفض التجنيس وعدم ‏رفضه.‏

وبمفهوم (التعالي النصي) يكون المستقبل -بحسب "جينيت"- للتداخل النصي وليس ‏للتجنيس، وهنا اعترض "فردريك" فوضَّح "جينيت" أنه تبنّى مفهوم التعالي النصي ‏لأنَّ فيه ضروبًا من العلاقات، أهمّها: علاقات المحاكاة والتمويل وعلاقة التضمُّن. ‏

هنا يأتي ما سمّاه "جينيت" (النص الجامع والنصية الجامعة أو ببساطة النسيج ‏الجامع)(25). وترجم أيوب التضمُّن بالتداخُل. ويظلّ المفهومان (التعالي النصي) ‏و(النص الجامع) يصبّان في نظرية (النص) وليس نظرية الأجناس، وهنا حاول ‏‏"فردريك" إغاضة "جينيت" قائلًا: يا سيدي الإنشائي أراكَ انطلقتَ انطلاقًا سيّئًا، وردّ: ‏عزيزي "فريدريك" وهل قلتُ إني سأنطلق؟ ‏

وليس وراء توكيد "جينيت" أنه لم ينطلق بعد سوى دليل أنَّ ما جاءت به "كرستيفيا" ‏حول التناص والتداخل النصي يظلّ أصيلًا لا مجال للمُزايدة عليه، أمّا مفهومه ‏المقترح (التعالي النصي) فمحاولة لتوطيد مفهوم التناص ونظرية انفتاح النص.‏

وهو ما أكّده "جينيت" أيضًا في التقديم القصير الذي خصَّ به ترجمة د.عبدالرحمن ‏أيوب: (ليس النص هو موضوع الشعريّة بل جامع النص أي مجموع الخصائص ‏العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة وتُذكر من بين هذه الأنواع ‏أصناف الخطابات وصيغ التعبير والأجناس الأدبية.. ولقد سعيتُ هنا إلى تفكيك هذه ‏الثلاثيّة المزعجة "الغنائي، الملحمي، الدرامي" بان أعدتُ رسم تكوينها التدريجي ‏وميّزتُ الأنماط المتعلقة بجامع النص التي تتداخل فيها، ولا يعدو مسعاي أن يكون ‏محاولة لفتح الطريق ولو بصيغة تهكميّة أمام نظرية عامة ومحتملة للأشكال ‏الأدبية"(26).‏

وهذا التوضيح دليل آخر على تفاوت مسعى "جينيت" مع ما تطلَّع إلى تحقيقه من ‏ناحية مراجعة (ما اقترحه أفلاطون واستغلّه أرسطو) حول نظرية الأجناس، ومن ‏ناحية مؤاخذة "باختين" -الذي ذكر أنَّ نظرية الأجناس لم تضف إلى ما أنجزه أرسطو ‏شيئًا جوهريًّا(27)- لأنه لم يلتفت إلى صمت أرسطو عن الأجناس الغنائية. ‏

وجدير بالذكر أنَّ "باختين" كان قد بحث عن التداخل النصي في مختلف النصوص ‏المقدسة منها والأدبية، فوجده في سفر أيوب والقديس يوحنا والأناجيل وفي كلمة ‏سيمون اللاهوتية وفي النكتة والمحاكاة الساخرة ‏parody‏ والمشاهد السوقية المبتذلة ‏والمبالغة الفنية والأحجية ومفاجآت القصص السوقية والصفحات الملهمة للكتب ‏المقدسة. وبيَّن أيضًا أنه في حمأة العمل الإبداعي تنصهر بشكل خام في بوتقته كل ‏العناصر الجديدة النابعة من الواقع الفجّ(28).‏

إجمالًا؛ فإنَّ مراد "جينيت" من جامع النص هو التداخل النصي، وليس التقولب ‏الأجناسي، ومن ثم لا عبور ولا غلبة لجنس على آخر، بل هناك نص جامع وأجناس ‏جامعة فيها العلاقة بين الأجناس والصيغ علاقة نصية معقدة حيث الأجناس تخترق ‏الصيغ، والآثار الأدبية تتداخل في الأنواع، والأنواع في الأجناس، والأجناس في ‏الأنماط. ولو كان "جينيت" يرى للجنس الواحد حدودًا تميزه عن غيره لما عدَّ الجنس ‏والنص واحدًا. ‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، ترجمة عبدالرحمن أيوب، دار الشؤون الثقافية ‏العامة، بغداد، ط1، 1986، ص12. وسنعتمد في الإحالة على الكتاب اسم المترجم ‏كي لا يختلط أمر الترجمتين على القارئ.‏

‏(2)‏ ‏ مدخل إلى النص الجامع، جيرار جينيت، ترجمة عبدالعزيز شبيل، مراجعة حمادي ‏صمود، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 1999، ص3.‏

‏(3)‏ ‏ ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص27.‏

‏(4)‏ ‏ ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص40.‏

‏(5)‏ ‏ عبدالعزيز شبيل، ص5.‏

‏(6)‏ ‏ عبدالعزيز شبيل، ص56.‏

‏(7)‏ ‏ عبدالعزيز شبيل، ص57.‏

‏(8)‏ ‏ ترجمها عبدالرحمن أيوب، زهرة الأجناس، ينظر: ص62.‏

‏(9)‏ ‏ عبدالعزيز شبيل، ص57.‏

‏(10)‏ عبدالعزيز شبيل، ص59.‏

‏(11)‏ عبدالرحمن أيوب، ص83-84.‏

‏(12)‏ عبدالرحمن أيوب، ص83-ـ84.‏

‏(13)‏ ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص65.‏

‏(14)‏ عبدالعزيز شبيل، ص66.‏

‏(15)‏ عبدالعزيز شبيل، ص68.‏

‏(16)‏ عبدالعزيز شبيل، ص86.‏

‏(17)‏ من قبيل قوله: (سيقال لي بأن هذا التقريب المتعجل هو كذلك استرجاعي ‏كله.. أقر بذلك.. ولكننا سبق أن لاحظنا أنه..).‏

‏(18)‏ والنتيجة تعاظم الحال تارة في شكل موسوعة أو سلسلة أو أعمال كاملة وغير ‏كاملة، وتارة ثانية في مجموعة ترجمات وأرقام طبعات مزيدة ومنقحة وأعداد صفحات ‏مئوية وتارة ثالثة في التباهي بما يدرس من كتبه وما يفوز به من جوائز في مسابقات ‏مغرية.‏

‏(19)‏ عبدالعزيز شبيل، ص69‏

‏(20)‏ عبدالعزيز شبيل، ص71-72.‏

‏(21)‏ ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص 69 وما بعدها.‏

‏(22)‏ ينظر: عبدالرحمن أيوب، هامش ص88 وذهب المترجم د.عبدالرحمن أيوب ‏إلى أن جينيت في هذه الحوارية يتخيل حوارًا بينه وبني فردريك حول بعض المآخذ ‏التي أخذها عليه فيليب لوجون.‏

‏(23)‏ عبدالعزيز شبيل، ص70.‏

‏(24)‏ عبدالرحمن أيوب، ص90-91.‏

‏(25)‏ عبدالعزيز شبيل، ص71 ومن دقة جينيت وأمانته العلمية أنه ذكر في ‏الهامش أن الناقدة ماري آن كاوس هي أول من استعمل النص الجامع في دراستها ‏‏(ممر القصيدة) عام 1978.‏

‏(26)‏ عبدالرحمن أيوب، ص5.‏

‏(27)‏ عبدالعزيز شبيل، ص10.‏

‏(28)‏ ينظر: شعرية دوستويفسكي، ميخائيل باختين، ترجمة د.جميل نصيف ‏التكريتي، مراجعة د.حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ط1، 1986، ‏ص22.‏