المكان... شعرًا

‏ عبد القادر الرباعي

ناقد وأكاديمي أردني

حين أتحدَّث عن المكان، أو أية ظاهرة؛ وأربط ذلك بالشِّعر؛ فإنني أتحدَّث عن الفنّ، وكل ما له ‏به علاقة؛ كالرواية، والقصة، والنحت، والرسم. وحين أتحدَّث عن الفنّ، فإنني أستحضر الإنسان ‏الموهوب: الفنان. فالفنان موهوب بطبيعته، وهو ذو روح شفيفة، إنْ مرَّت عليها نسمة، سجّلت ‏على مرآها لحظة في العمق من ذاتها. وحين يحضر المكان تمتلئ الساحات بنسمات الروح ‏جاهزة لإشباع نهم الفنّ الأكول. ومن رسل هذا الفن: الشعراء في فيوضاتهم على الكون. لكنَّ ‏الشعراء ذوو أمزجة حسّاسة لما يجري أمامهم، أو لما يحدث لهم؟! فقد يمرّ أحدهم في مكان، ‏ونفسه منشرحة، فيراه مكانًا ساحرًا. وإنْ رغب في وصفه، سبقه إلى ذلك لسانه ليقول: هذا مكان ‏شاعري تنطلق من جنباته الأحلام الجميلة. أمّا إنْ مرَّ بالمكان ذاته شاعر لقس النفس، معكور ‏المزاج، فإنه قد يراه مكانًا قبيحًا، وقد يصفَه بالقول: هذا مكان دنس، يعكِّر الأمزجة والأنفس؟!‏

أساس التقييم أو التقويم، هو حال النفس البشريّة لحظة الالتقاء بالشيء. وإن أدركنا ذلك، فهمنا ‏لماذا أخرج أفلاطون الشعراء من إمبراطوريته، على الرّغم من أنه أكثر البشر إدراكًا للقيمة ‏الكبرى التي يحتلّها الشعر والشعراء، لكنه فعل ذلك تحت ضغط الخوف من تأثيرهم العميق في ‏الإنسان. ومَنْ أقدر منه على معرفة ذلك؟! قيل: إنَّ أفلاطون ندم على أنه أخرجهم، لأنه –‏بغيابهم- افتقد الجمال الإنساني في جمهوريته. ‏

إذًا، يرسم الشاعر من داخله -وحسب موازين الذات من فنِّه- معارج الأنفس في إبداعه الشعري. ‏وحين يلتقيه المكان لحظة الإبداع، فإنَّ مشاعره المنتجة هي التي تتحكّم فى نوعيّة ذلك الإبداع. ‏لقد أشار أرسطو إلى ثلاثة مجالات كبرى لحجم تلك المشاعر المنتجة ونوعيّتها، وهي: الشفقة، ‏والخوف، والغضب. إنها المشاعر النزّاعة إلى التحكُّم في ألوان الشعر المختلفة لديه، وهي: ‏الملحمة، أو المأساة، والتراجيديا. أمّا الكوميديا التي فُـقدت من كتابه (فن الشعر) فلها مشاعرها ‏المختلفة. وهي كلها موزعة في فن الدراما بين الجميل القبيح، والقبيح الجميل في المشاعر ‏الإنسانية المختلطة.‏

وبناء على كل ما سبق ليس غريبًا أن نحكم على اختلاط المشاعر في القدرة الشعرية؛ بحيث يبدو ‏القبيح أحيانًا جميلًا، أو الجميل يبدو أحيانًا قبيحًا، وذلك حسب طبيعة الشعور الإنساني عند ‏الشاعر لحظة إبداعه الشعر. ولنا على ذلك أمثلة في الشعر العربي. ومنها ما نَدَّ عن صاحبي أبي ‏تمام في توصيفه لعمورية بعد تحريرها، قال:‏

‏ ما ربعُ ميّـةَ معمـورًا يَطيفُ بـه -     غيلانُ أبهـى من ربعِـهـا الخَـــــرِبِ ‏

ولا الخدـودُ وقد أُدمينَ من خَجَلٍ -     أشـــهى إلى ناظـرٍ مـن خدِّها الَّتَّرِبِ

فعمورية حين تعفّرت بترابِ المعركة الفاصلة بين الحق والباطل هي، عند الشاعر المحتفي ‏بالنصر، أجمل من ربع مية- حبيبة ذي الرمة، إلى ذي الرمة. كما أنَّ الخدود التي أكسبها الخجل ‏حمرة زادت في بهاء جمالها، لم تكن أشهى لناظره من خدّ عمورية وقد تعفّر بالتراب؟! إنَّ ‏المتحكِّم في هذه الرؤية الجمالية المقلوبة المستحيلة إذًا، هو مدارات الشعور الملازم للتجربة ‏الإنسانية الداخلية للشاعر، لحظة الإبداع.‏

وفي مداخل هذا الشعور قد يتراءى المستحيل للشاعر حقيقة مدركة ومنظورة فعلًا. فالمتنبي حين ‏قال مثلًا:‏

‏ أنا الذي نظـرَ الأعْمَى إلى أدبِي -           وأســمعتْ كلماتِي من بـه صممُ

كان في المستوى المنطقي يتكلم مستحيلًا، لكنه لحظة الإبداع، كان واقعًا تحت ضغط محنة إثبات ‏الذات الشاعرة لدى سيف الدولة، الذي كان أبعده وقرَّب مَن هم دونه فنًا شعريًا. بل لقد حوَّل ‏المتنبي -تحت اشتداد غضبه- سمة الأشياء إلى ضدّها. إنه استصغر أن يدخل نفسه في تحدٍّ مع ‏الآخرين، وإنَّما أدخلها مع سيف الدولة نفسه، حين هدَّده بالرحيل عن المكان الذي يشهد سلطته، ‏منطلقًا من حاجة سيف الدولة اليقينية له إن رحل عنه، وأنَّ غيره لا يمكن أن يسدَّ مكانَه عنده في ‏مكانِه: ‏

‏ إذا ترحّلْتَ عـن قــومٍ وقد قدروا -             ألا تفارقَـهمْ فالراحـلون هـمُ ‏

‏ إذا تركـن ضُميـرا عن ميامننـــا -             ليحدثـنَّ لمـن ودّعتُهــم ندمٌ ‏

جمال المكان في الشعر ليس في ظاهره وإنْ تنمَّق، ولكن جماله في الروح المخبوءة تحت ثناياه. ‏فعلى الرغم من بعد الشقة التي تفصلنا عن الشاعرة ميسون بنت بجدل الكلبية، ابنة البادية التي ‏تزوجها معاوية بن أبي سفيان لجمالها. فإنها، حين عبَّرت عن إحساسها الحقيقي، وهي تسكن ‏قصرها المنيف، قالت:‏

‏ لبيت تخفق الأرياحُ فيـه -      أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيــفِ

‏ ولُبسُ عباءة وتقرُّ عيني -      أحبُّ إلي من لُبسِ الشُّفوفِ

ملاذ هذه البدويّة هي: الطبيعة البريئة بأفقها الواسع العريض، وبجمالها الربّاني الخالي من الزينة ‏والتكلف والعناء. إن صاحبته شاعرة حقيقية بسيطة، لكنها تعبِّر بصدق عمّا تحسّ به من معنى ‏إنساني عميق. ‏

حين يقف الإنسان عند هذه النماذج الشعرية العالية وما تمثله من إبداع رفيع، فإنه ليعجب ممّا ‏يتردَّد من أوصاف نقدية لنماذج من الشعر المسطَّح في بعض المحافل: "انظر كم هو شاعر ‏مجيد! إنه يصف لك المكان وصفًا دقيقًا إلى الحد الذي يبدو لك كما هو عليه تمامًا". هذا كلام ‏غير جائز؛ لا شعرًا، ولا نقدًا.‏

‏* * *‏

وعلى العكس من هذا فإنَّ الشاعر الذي لا يرى أنَّ الحجر بيد فتى الانتفاضة هو أغلى عليه من ‏كومة ذهب تعدل حجره وزنًا، مشكوك في صدق شاعريّته. ومثله في الإخفاق، الذي لا يرى أنَّ ‏الشهيد يذهب إلى الشهادة راغبًا فيها، لأنه يراها انبعاثًا لحياة أدوَم. ومن هذا استعادة محمود ‏درويش لها مخاطبًا أرض وطنه: (حاولي أن تقتليني.. دفعة واحدة... لا تقتليني بالخُطى ‏المقتربة!/ كوني خنجرًا... لأرى ظلّك في ظلّي... وردًا في رماد!!).‏

في مثل هذا الشعر، لا تفتش أيها القارئ الناقد عن مماثلات ومقابلات. ادخل إلى العمق، احفر ‏تحت الكلمات، تحسَّس النبرات؛ لتبني مكانًا لم ترَه عيناك قط. إنه أرض الشهداء الذين يرغبون ‏في القتل بحب؟ المكان في الشعر غير المكان خارجه. إنه تعبيرعن تجربة شعرية إنسانية ‏طاغية. وأشدِّد هنا على كلمة الإنسانيّة. لعلَّ الإنسانيّة هي التي تُغري الشعراء في أن يتحرّكوا من ‏العرق إلى الجنس. ومن المحليّة إلى الكونيّة، حتى يكون لشعرهم موقع في الإنسانيّة أوسع وأعلى ‏قيمة. كل النماذج السابقة هذا ديدنها!!‏