غالب هلسا والرِّواية العربيّة الجديدة نظرات في "الضحك" و"البكاء على الأطلال" ‏

د. سلطان الزغول

شاعر وناقد أردني

 

 

تشكِّل تجربة غالب هلسا الروائيّة واحدة من أعمق التجارب الروائيّة العربيّة ‏وأغزرها، وأكثرها مراوغة لقارئها الذي يتوه خلال تشظّياتها الزمانيّة والمكانيّة، ‏وتَتابُعها عبر أحلام اليقظة المستمرّة. ما يدفع بها منذ أن أصدر روايته الأولى بعنوان ‏‏"الضحك" عام 1970 إلى عالم الرِّواية العربية الجديدة؛ ففي روايات هلسا تنوُّع في ‏الأشكال والأساليب الفنيّة، كما إنَّها تسبح في فضاءات عربيّة متعدِّدة، لا تفرِّق بين ‏القاهرة أو بغداد أو عمّان، وتنهل من المدينة، مثلما تنفتح على القرية متجاوزة أيّ ‏مقولات تدّعي انتماء الفن الروائيّ لفضاءٍ دون آخر.‏

وُلد غالب هلسا في قرية ماعين قرب مدينة مادبا الأردنيّة في الثامن عشر من كانون ‏الأوَّل عام 1932، وعاش في عمّان نهاية أربعينات القرن العشرين وأوائل ‏خمسيناته، قبل أن يغادرها إلى القاهرة نهائيًّا، حيث عاش ودرس وعمل واعتُقل إلى ‏أن رُحِّل عنها إلى بغداد عام 1976. وما كاد يستقرّ في بغداد حتى خرج منها عام ‏‏1979 إلى بيروت التي بقي فيها إلى أن أُخرج منها إثر الاجتياح الإسرائيلي. ثم ما ‏لبث أن استقرَّ في دمشق إلى أن توفي في الثامن عشر من كانون الأوَّل عام 1989 ‏غريبًا عن مسقط رأسه. وهذه السيرة الغنيّة جعلت روايته خير ممثّل للرِّواية العربيّة.‏

إذا كان الكون السَّردي، بحسب تعبير "أمبرتو إيكو"، يُبنى بشكل طفيلي استنادًا إلى ‏معطيات العالم الواقعي. فإنه يتساءل: لماذا يروقنا التخييل السردي كثيرًا؟ ثم يجيب: ‏إنه يمدّنا، دون قيد أو شرط، بما يسمح لنا بممارسة تلك الملكة التي تمكِّننا في الآن ‏نفسه من إدراك العالم وإعادة بناء الماضي(1).‏

ظلَّت الرِّواية تهرب من الأسس والمواصفات الثابتة، وظلَّت تتجاوز نفسها وتنفتح على ‏آفاق جديدة، كما ظلَّت تنفتح على أشكال التعبير الفنيّة المتعددة عبر العصور، فتنهل ‏من الملحمة والشعر والمسرح والموسيقى والتشكيل، ثم من السينما، تمامًا كما تنهل من ‏نبع الحياة المتدفق دون قيود، ابتداء من الأسطورة الموغلة في القدم، وليس انتهاء ‏بوسائل التواصل الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين.‏

ينقل "كولن ولسن" قول شكسبير: "إنَّ الفنّ يحمل مرآة تعكس الطبيعة"، ليقول: إنَّ من ‏الأدقّ أنْ نقولَ إنَّ الفن "مرآة يرى فيها المرء وجهه هو. ولكن لماذا يريد المرء أن ‏يرى وجهه هو؟ لهذا السبب المهم: إنه حتى وقت رؤيته وجهه لا يعرف مَن هو، ‏والقصة أو الرواية هي محاولة الكاتب لخلق صورة ذاتيّة واضحة"(2). لكنّ هذا لا ‏يعني "أنَّ هدف الرِّوائي خلق صورة ذاتيّة تعبِّر عن سيرة حياته. فذلك أمر سهل بما ‏فيه الكفاية، كما إنه ليس مهمًّا بدرجة خاصة. إنَّ الهدف الحقيقي إسقاط صورة ما ‏يريده، وفي بعض الأحيان فإنَّ ما يريده غير واضح تمامًا"(3). فإذا نظرنا في تجربة ‏غالب هلسا بتمعُّن عرفنا أنه يعرف ما يريده تمامًا، فهو كاتب ملتزم بقضية إنسانية ‏جوهرية، هي قضية الحرية وما يتفرّع عنها أو يرفدها في الاتجاهات كافة، ومنفتح ‏على العالم بأبعاده الأفقية والعمودية، أعني ما يمور من أفكار وفلسفات وانعطافات في ‏محيطه، وما أنتجته الإنسانيّة عبر تاريخها من قيم وأفكار وفلسفات لا يمكن دون ‏إدراكها إدراكُ المحيط.‏

ثم يوضح "ولسن" فكرته، فيؤكد أنَّ خطوة الرِّوائي الأولى هي محاولة خلق صورة ‏للذات، مدركًا أنَّ ما يحاول القيام به هو "خلق مرآة يستطيع بواسطتها أن يرى وجهه. ‏والخطوة التالية أن يفهم أنَّ هدف الأدب ليس تسجيل عالم البداهة، بل العبور إلى ما ‏ورائه، وتحقيق الانفصال عنه... إنَّ رموز الكاتب هي بالأساس فكرته الخاصة ‏بالحرية، وإنَّ عمله يتعلَّق بالرحلة نحو الحرية. وهذه هي آلية الإبداع الأساسية"(4).‏

ولعلَّ مقاربة تجربة غالب هلسا الروائيّة تؤكد أنَّنا أمام كاتب أنجز آليّة الإبداع ‏الأساسية، فهو قد خلق صورة لذاته، بل خلق مرآة استطاع بواسطتها رؤية وجهه ‏واضحًا، في إطار قضايا أمته الكبيرة، وليس في إطار الذات الضيّق، وهو قد عَبَرَ ‏بديهيّات العمل الإبداعي إلى ما ورائها، ووظّف رموزه الخاصة التي شكّلت فكرته ‏الخاصة عن الحرية، أمّا عمله الإبداعي كلّه فيتعلّق بالرِّحلة نحو الحريّة.‏

من العجيب أنَّ هذا الكاتب العربي بامتياز كتب الرواية الجديدة في منتصف ستينات ‏القرن العشرين، وقبل نكبة حزيران التي زلزلت الفكر والثقافة العربيين، حيث انتهى ‏من مخطوطة رواية "الضحك" قبل أن يُعتقل في القاهرة عام 1966(5)، وهي ‏الرواية التي صدرت طبعتها الأولى عن دار العودة في بيروت عام 1970. فهو قد ‏بدأ بالانفتاح على آفاق التَّجديد في الشكل الرِّوائي، وتجاوز الرواية العربية الحديثة إلى ‏الرواية الجديدة مبكرًا، ولعلَّ اطّلاعه على التجارب الغربيّة، نظرًا لثقافته الإنجليزيّة، ‏قد ساهم في هذه الرِّيادة.‏

في رواية "الضحك" تظهر الشخصية الرئيسة بلا اسم، وما يهيمن على السرد هو ‏عوالم أحلام اليقظة التي تنقلنا بين أماكن وشخصيات متباعدة، ومنطق الخوف الذي ‏يغلِّف الأجواء ويضغط على الشخصيات، والتشظي المكاني والزماني، إذ يمتدّ ‏فضاؤها بين القاهرة، حيث كان يعيش الكاتب منذ أواسط خمسينات القرن العشرين، ‏ومعسكر المتطوعين قرب بورسعيد، زمن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ‏وفيه تلقّى هلسا تدريبًا عسكريًّا، وبغداد التي عاش فيها قبل انتقاله إلى القاهرة ردحًا ‏من الزمن، وبلدة أردنيّة نُفي إليها بداية الخمسينات، ونعلم من سيرة الكاتب أنه ‏فرضت عليه الإقامة الجبريّة في مدينة مادبا أوائل خمسينات القرن العشرين، وعمّان ‏حيث أكمل هلسا دراسته الثانوية وعاش نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات. ما يشير ‏إلى نهل الكاتب من سيرته الذاتية في بناء عالم الرواية. وإنْ كان لا يَذكر أسماء تلك ‏الأماكن، فهو يكتفي بإشارات إلى المدينة، والبلدة، والقرية، والمعسكر. أمّا اسم "بغداد" ‏فيظهر وحده خلال التذكُّر.‏

كما أنه يضمِّن هذه الرِّواية وثيقةً أدبيةً تاريخيةً تتعالق مع السرد، مجتزَأة من كتاب ‏‏"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وأخرى توضِّحها من كتاب "الحيوان" للجاحظ، ‏وقطعًا إخباريّة وإعلانيّة من عالم الصُّحف والمجلات والتلفزيون، ناهيك عن الشعر ‏الذي يندمج في جسد الرواية، ولا أقصد اللغة الشعريّة، بل قصيدة نثر يختم بها الجزء ‏الأوَّل من الرواية، والقصص القصيرة فانتازيّة الطابع التي تنشأ عبر سياق السرد ‏على لسان بعض الشخصيّات التي تروي مقاطع من سيرتها الذاتية أو مشاهداتها ‏الغرائبيّة، تنفصل عن جسد الرواية وتتّصل به في الوقت نفسه، ما يُذكِّر بالشكل ‏السردي الذي تقوم عليه حكايات ألف ليلة وليلة، إضافة إلى فنّ الرسالة التي يندمج ‏فيها الشخصي بالعام على لسان بعض الشخصيّات.‏

وظّفت رواية "الضحك" بعض التقنيات السينمائية، كتقنية عين الكاميرا وتقنية القطع ‏السينمائي. كما وظفت الخبر الصحفي، وفنّ الإعلان، والوثيقة الأدبية التاريخية، ‏والمذكرات، وفنّ السيرة، والأغنية الشعبية، والميثيولوجيا الشعبية، والقصة القصيرة، ‏والقصيدة، والرسالة. وبذلك انفتحت على عوالم متعددة اندمجت في السرد وتماهت ‏معه لتعبِّر عن حداثيّة مبكّرة جعلتها خير ممثّل للرواية العربية الجديدة.‏

ما السَّبيل للوُصول إلى كنوز الماضي الدَّفينة؟ ‏

يقول "كولن ولسن" معلقًا على رواية "البحث عن الزمن المفقود": "إنَّ الحلّ الذي ‏يقدمه لنا بروست هو أن نحاول استحضار الماضي، أن نعيد خلقه، وذلك بواسطة ‏الكتابة عنه كتابة مفصّلة، وتكون النتيجة بالطبع رواية عظيمة"(6). هذا ما يكاد ينطبق ‏على تجربة غالب هلسا في رواية "البكاء على الأطلال".‏

في إيماءة خاصة يفتتح هلسا رواية "البكاء على الأطلال" بمقاطع من معلقة امرئ ‏القيس في الذكرى والتفجُّع على الفراق. ثم تبدأ الرواية بعنوان جانبي هو "إيقاع ‏المهباش"، حيث يصوّر السارد العليم الشخصية الرئيسة جالسًا في ضيافة شخصيّتين ‏يُطلق عليهما "الأب والأم"، ومعهما طفلة صغيرة اسمها "كوثر". وهو يدقّ بأصابعه ‏على سطح طاولة الإيقاعَ الذي تستدعيه الذاكرة، وترقص الطفلة على إيقاع ضربات ‏يديه، وهو إيقاع مرتبط بالقرية وعوالمها؛ القصيدة النبطيّة على الرَّبابة، صهيل ‏الخيول، أصوات النساء الثرية وبينهنّ أمّه يصنعن قِرى يتكوَّن طبعًا من المنسف، ‏ونرى "آمنة"، المرأة الأم التي تمتلك حضورًا قويًّا في رواية "سلطانة"، وتمثل مع ‏‏"سلطانة" الصورة المتكاملة للمرأة في عقله وخياله، نرى "آمنة" تأخذ دور (الحاشية) ‏في رقصة "السامر (الدحيّة)" البدويّة المشهورة في الصحراء الأردنيّة، والتي تعبِّر ‏عن الرغبة الجنسيّة في صورتها الأوليّة. وإذا كانت صورة "آمنة" تظهر هنا كومضة ‏في إطار لوحة القرية بتفصيلاتها المتعددة، فإنَّ السارد في رواية "سلطانة" يفصّل ‏دقائق ما يحدث في الرقصة، موردًا كثيرًا من الأشعار، وكيف تردّ (الحاشية) على ‏الذُّكور المحيطين بها شعرًا. ويقدّم "آمنة" بوصفها (الحاشية) النموذج. فهي عصيّة ‏على الهزيمة أمام قائد الجوقة في لعبة الخنجر المعبِّرة عن مقاومة الأنثى الأوليّة ‏لهجوم الذَّكر.‏

من الملامح الدالّة في الرواية محاورة الشخصيّة الرئيسة مع نص تراثي من كتاب ‏الأغاني بعنوان "عائشة بنت طلحة"، وهذا يذكِّرنا بما فعله في رواية "الضحك"، حين ‏نقل وثيقة أدبيّة تاريخيّة لها دلالتها ووظّفها في سياق الرواية، لكنه في "البكاء على ‏الأطلال" لا يقدِّم الوثيقة مجرَّدة، بل يروي القصة بلغته، ويعيش تفاصيل المشهد ‏المروي في الكتاب التراثي. ثم تدخل "عائشة" في حلمه ليخلص إلى أنَّ "الزّمن المدمّر ‏الذي ينقضّ علينا ولا يُبقي على شيء"(7)، هو المحرِّك في استعادة هذه الصورة ‏القديمة، فأين ذهب ذلك الجَمال والشَّغف الذي وصفه أبو الفرج؟ إنه الموت الذي ‏يقضي على أيّ مباهج إنسانيّة. ثم يخلص إلى هذه الحقيقة: "تبيّنتُ آنذاك أنَّ جميع ‏المشروعات الإنسانيّة بلا جدوى، وأنَّ سعي الإنسان كله باطل"(8). كما يحاور نصًّا ‏تراثيًّا آخر حول مفكّرين من أبرز مفكري الخوارج وقادتهم، هما أبو الوازع الراسبي ‏ونافع بن الأزرق، ويفعل ما فعله مع نص أبي الفرج، مركزًا على العلاقة بين الكلمة ‏والفعل وأيهما أجدى. وتظلُّ شخصيَّتا "عائشة بنت طلحة" و"الراسبي" تظهران في ‏تداعياته وتأمُّلاته طوال الرِّواية.‏

يقول "كولن ولسن": الأحلام "تعطينا نوعًا خاصًا من الحرية. إذ إنَّ تجربتنا الإنسانية ‏الأساسية هي الشعور بالحدود. حيث تقيّدنا عشرات الحبال الرفيعة: الجاذبية، والجوع، ‏وغرائزنا، والتوق إلى الأمان"(9). ثم يضيف: "إن حلم اليقظة هو الأساس الصحيح ‏للآداب كافة... الطبيعة والواقعية الاشتراكية والتحليل النفساني والتجربة اللغوية، هذه ‏جميعها مقتربات ممتعة إلى الرواية. إلا أنها ليست مادتها أو جوهرها. والدافع الرئيس ‏للرواية هو ضرورة خلق واقع مرغوب فيه، أي إسقاط صورة للحياة التي تهوى أن ‏تعيشها، ونمط للإنسان الذي تريد أن تكونه"(10).‏

وهذا ما نلمسه في "البكاء على الأطلال"، إذ تتداعى الأحلام والذكريات كأنَّما هي ‏تعويض عن واقع مؤلم، ويبرز فيها التداعي الحُرّ للذاكرة، وتقنية الحكاية داخل ‏الحكاية التراثية، وذلك كله يحدث خلال مسير الشخصية الرئيسة بين السرير ‏والمطبخ، بينما يسيطر البرد الخارجي على المشهد، ويضاف إلى البرد الذي ينمو في ‏داخله من أثر فراق الحبيبة، وإلى الرُّعب وتوقُّع الشرّ والشعور بالغثيان وآلام الفقد ‏والتفجُّع. والبكاء على الأطلال بكاءٌ على الماضي المفتَقَد؛ النساء والأصدقاء، والقرية ‏قبلهما. والماضي عبارة عن نساء في أغلب الأحيان، يظهرن أحيانًا محدّدات بالاسم، ‏وفي أحيان أخرى مجرّدات من الأسماء، لكن الجسد يسيطر على الذاكرة، يختفي ‏المحيط والناس والتفاصيل الأخرى إذا حضرت المرأة، وتعيش النساء مسيطرات على ‏المشهد الذي يُعدّه ليكون زادًا في الذاكرة لأحلام قادمة لا محالة. وربّما كانت الرواية ‏حلم يقظة طويل يستمر، حتى حين يبحث عن ذكريات المقهى الذي كان يجلس فيه ‏جمال الدين الأفغاني تنبني العلاقات عبر الأحلام والذكريات، سواء خلال مسيره أو ‏جلوسه في المقهى. وما يميِّز هذه الرواية هو الانفلات إلى التاريخ أكثر من مرَّة، ‏فعائشة بنت طلحة تراوغه أكثر من مرة، والوازعي كذلك، ثم يظهر أبو نواس، وأبو ‏تمام، وعمر بن أبي ربيعة، وسكينة بنت الحسين، وهو خلال ذلك يبحث عن جمال ‏الدين الأفغاني الذي يشكِّل عنده رمزًا من رموز الحريّة.‏

تمضي التداعيات في "البكاء على الأطلال"، خلال مسير الشخصية الرئيسة في ‏القاهرة، على منطق الذاكرة المختلط بمجال الرؤية، فيذوب الزمن عبر السرد بين ‏ماضٍ حاضر بقوَّة، وواقع ساكن غير مقبول، وتاريخ حيّ في المشهد. ويمكن أن ‏نطلق على السرد في الرواية أنه متشظٍّ، فهو يتشظى بين التلفزيون والمجلات ‏والصحف المعروضة في الشوارع، والأغاني التي تصل أصواتها إلى مجال سمعه، ‏وكُتُب التاريخ والأدب وقصصها ذات الدلالات، والشعراء، والشخصيات التاريخية، ‏و"نيكسون" وعبدالناصر والسادات والعهد الجديد في مصر في سبعينات القرن ‏العشرين، والقرية الحاضرة أبدًا، ذلك كلّه في بانوراما مركزها شخصيّة متشظية ‏بفيض الذاكرة والعلاقات المفتوحة على الاتجاهات كلها. ونرى فيها استخدام أسلوب ‏رواية "الضحك" في نقل أخبار وقصص من التلفزيون والصحف وقصص أفلام ‏سينمائية. ‏

تنضح السخرية من كلّ حدث أو فعل خلال "البكاء على الأطلال"، وتفيض هذه ‏السخرية على المحيط، حتى على الرعب والخوف المتصاعد، وتغلّف الرغبة في ‏الموت للتخلص من السكون المستشري على الرغم من الحركة المحيطة: الذات تمضي ‏عبر الشوارع والأزقة، مشاهد حيّة من السينما والتلفزيون والصحف، وأخبار عن ‏انتحار أشخاص غير معروفين وفنانين مشهورين، وغباء يستشري ويعمّ وسائل ‏الإعلام وما تقدّمه للناس من مواد هلاميّة مائعة. وخلال ذلك لا تملك الشخصية ‏الرئيسة إلا الماضي القديم: "اشتاقَ إلى ماضٍ من قريته جعلته الذِّكرى ذهبيًّا، وإلى ‏ماضٍ تعرَّف عليه من كتب التاريخ. اشتاقَ إلى عالم لأنه أصبح ذكريات قديمة شاحبة ‏مستسلمة"(11).‏

في نهاية الجزء الثالث من "البكاء على الأطلال" يظهر اسم الشخصية الرئيسة، نعرف ‏أنه "خالد" حين يصاب بالهذيان بعد أن يغمى عليه، وهو اسم لافت، ويظهر لأوّل مرّة ‏في الدلالة على الشخصيات الرئيسة في روايات غالب هلسا التي تمثّله ككاتب، وتنهل ‏من ذكرياته الخاصة ووقائع سيرته، لماذا "خالد"؟ هل له علاقة بالخلود، وارتباط ‏بالتاريخ العربي الذي صار مجرَّد أطلال يبكي عليها؟ ربَّما. خاصّة أنَّ الهذيان الذي ‏أصابه قد أثاره وجوده في القاهرة القديمة، ما يتوافق مع التعلُّق بالماضي، كما أنَّ فقد ‏الوعي والشعور باللاجدوى يتوافق مع افتقاد الحب والماضي الجميل بمستوياته ‏المتعددة: الحضارة العربية القديمة، القاهرة في عهد محمد عبده والأفغاني بوعودها ‏الجميلة، والقرية جنّة اليقين والأمان. أمّا حضور الأب، بما يمثله من سلطة، لأخذه بعد ‏أن أصيب بالإغماء، من قلب التاريخ في القاهرة القديمة إلى بيته (بيت الأب الذي لا ‏نعرف له اسمًا في الرواية إلا أنه الأب فقط)، فهو حضور رمزي للأب الحامي على ‏الرغم من قسوته، على الرغم من آرائه التي يفرضها على الآخرين دون نقاش.‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ انظر إيكو، أمبرتو: 6 نزهات في غابة السرد، تر سعيد بنكراد، المركز الثقافي ‏العربي، بيروت- الدار البيضاء، 2005، ص150، 208.‏

‏(2)‏ ‏ ولسن، كولن: فن الرواية، تر محمد درويش، دار المأمون، بغداد، 1986، ص19.‏

‏(3)‏ ‏ المرجع نفسه، ص78.‏

‏(4)‏ ‏ المرجع نفسه، ص179.‏

‏(5)‏ ‏ يورد غالب هلسا هذه المعلومة في مقدمة رواية "السؤال" التي يتحدث فيها عن ‏ظروف اعتقاله، وما حدث لمخطوطة رواية "الضحك"، ويسندها القراءة التحليلية ‏للرواية التي لا تظهر فيها آثار كارثة العرب عام 1967، بينما تتم الإشارة إلى ‏أحداث تاريخية أخرى في خمسينات القرن العشرين، شكلت خلفية للحدث الروائي ‏وأثّرت في الشخصيات. انظر هلسا، غالب: السؤال، دار الوعي، دمشق، ط2، ‏‏1986، ص8.‏

‏(6)‏ ‏ ولسن، كولن: فن الرواية، ص16.‏

‏(7)‏ ‏ هلسا، غالب: الأعمال الروائية الكاملة(2)، البكاء على الأطلال، ط2، أزمنة للنشر ‏والتوزيع، عمّان، 2003، ص32.‏

‏(8)‏ ‏ المصدر نفسه، ص33.‏

‏(9)‏ ‏ ولسن، كولن: فن الرواية، ص79.‏

‏(10)‏ المرجع نفسه، ص120.‏

‏(11)‏ هلسا، غالب: الأعمال الروائية الكاملة(2)، البكاء على الأطلال، ص187.‏