بين السّموع والكرامة..‏ شيء من ذاكرة البطولة

 

‎ ‎د. سالم الفقير

كاتب أردني

 

 

كنتُ حينها لا أزال في مُقتبل العمر، عندما تجنَّدتُ في الجيش العربيّ عام ألف وتسعمئة واثنين ‏وخمسين للميلادية. فأنا من بلد الجبال، من الطفيلة جنوب الأردن، من بصيرا، قرية نائية عن ‏الغنى وتُخمة العيش، لكنَّها غنيّة بالوطن وحُبِّه.‏‎ ‎

كُنّا حينها نسكن بصيرا شتاءً، وعندما يؤذِّن للربيع يكون (القَعِير) وتكون (الرُّمانة) مرتعًا ‏للحلال، ومسرحًا لنا نستنطق فيهما تعاليم الوطن وحُبّه، فحديث العُربان لا يَفتُر وهو يشحذ هممنا ‏لأن نكون شيئًا في هذا الوجود! على أقلّ تقدير هذا ما زرعوه فينا ونحن نفرع الأودية والشِّعاب، ‏لا نلقي بالًا حتى للموت!!‏‎ ‎

كانت الجنديّة تعني لي الكثير؛ فهي طريقي إلى حيث أريد... ولأنني من بلد الجبال كان القادة ‏يتعمَّدون في اختياراتهم أن نكون أوَّل صناديد الجيش ممَّن يقفون على المغافر الحدوديّة: (رجم ‏المدفع والأصيفر) وغيرهما.‏‎ ‎

ولأنَّ طبيعة الحياة العسكريّة تقتضي على الجندي أن يبقى الأشهر الطِّوال يترقَّب شوق الإنسان ‏والمكان، كان لزامًا عليَّ أن أنتقل بأسرتي إلى السّموع(*)، هناك كان الموت يُقَبِّلنا صباح مساء، ‏ونحن وَجِلون في أن تكون العودة إلى أطفالنا على أكتاف الجنود!! بين رصاص ينهش أجسادنا، ‏أو شظايا جعلت من التَّعرف إلينا خطيئةَ القاطن (نقب النُّخْبَار).‏

‎* * *‎

في صبيحة يوم الأحد الثالث عشر من حزيران من عام 1966 كانت عزيمتي تتوقَّد شهادة على ‏صوت القائد عندما خاطبني:‏‎ ‎

‏- حسين عودة السعودي، قائد القسم (106) ما بعد اليوم يوم يا حسين!!‏

‏- حاضر سيدي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله!!‏

كان هذا ردِّي على قائدي، ولم أزد على ذلك..‏

كنتُ حينها قائدًا لقسم (106) وهو مدفع غير مرتدّ، مضادّ للدبّابات، في ذلك اليوم كان الاشتباك ‏حامي الوطيس، وكانت أفئدة الرجال تخلع قلوب الطير وهي تتستَّر بالموت عن الموت! في ذلك ‏اليوم دمَّرتُ وزملائي في المدفعية ثماني دبّابات، ثلاث منهنّ من نصيبي...وأذكر أنَّ آخر قذيفة ‏كنتُ أملكها صوَّبتُها نحو دبّابة العدو، فكنتُ بين موقن بموت أشدّ فتكًا من الحياة!!‏‎ ‎

كنت مُقدمًا على دبّابة العدوّ دون هَوادة لأجده غارقا بدمائه... اقتربتُ منه كثيرًا، كانت يده ‏اليسرى مبتورة من فوق المعصم، ملقاة غير بعيد منه، اليمنى متُهتِّكة فيها ساعة كانت تشير إلى ‏الواحدة والنصف ظهرًا، لكنها كانت متوقفة دون عقرب الثواني، رغم أنني عاينتُ ساعتي آنذاك ‏فكان الوقت صحيحًا!!‏

في تلك المعركة جُرح البطل القائد العسكري بهجت المحيسن واستُشهد عددٌ من الزملاء كان منهم ‏الرائد محمد الهباهبة، وقُلِّدتُ بوسام الإقدام العسكري ورَفَّعني القائد بهجت المحيسن آنذاك إلى ‏رتبة نائب؛ أي رقيب، وأصبحتُ حينها أحمل الرقم العسكري 10915، كواحد من ضباط الجيش ‏الأردني.‏

‎* * *‎

وبقيت المعارك جيئة وذهابًا ونحن نلجها خماصًا ونؤوب منها بطانًا، حتى كانت معركة الكرامة ‏عام 1968، كنتُ حينها قد تمرَّست على الطِّعان والقتال في آن معًا، وكنتُ من الذين تفحَّصتهم ‏القادة وأفردت كناناتهم واختارت منها أصلبهم عودًا وأمرّها.‏

في الكرامة كانت الروح لا تساوي شيئًا، وكانت الدماء تتلوَّن بحمرة الورد، والأجساد تَغدِق علينا ‏تباريح الشَّهادة..‏

ما أذكره أنَّ الماء قد نفد منّي وزملائي ونحن في المعركة، فأرسلتُ أحد الجنود ليأتي لنا بالماء ‏من (جيب ويلز) كانت قريبة منّا..‏

‏-‏ يا أبو حابس!! يا أبو حابس!‏

كان هذا نداء الجندي بعد أن أمطره ضابط من العدوّ بوابل من الرّصاص، وقد نفدت ذخيرة ‏زميلي..‏

ودون أن أركن إلى شيء وجَّهت (الكاربين) صوب العدوّ؛ لأرى فتات الرأس يتطاير منه! أكملتُ ‏طريقي إليه لأجده قد نفق... لم أزد على أن بصقتُ عليه ومضيت!!‏

في (الجيب ويلز) لا أدري ما الذي جعلني أستعين بأحد زملائي ليكتب عنّي:‏

‎"‎في وطني عندما تموت... يكون الموت على حق‎"‎‏!!‏

وضعتُ العبارة في جيبي وعدتُ أدراجي أنهشُ كلَّ الذين أرادوا المساس بنا..‏

ما أذكره أنني كنتُ أقف شهيدًا عشرين عامًا، وستة أشهر، وثمانية عشر يومًا... وذات يوم ‏مددتُ يدي إلى جيبي لأجد الورقة قد تآكَلَتْ، فلم أعُد أقرأ منها إلّا:‏

‏"وطني" و"حق‏‎"‎‏!!‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) السّموع: بلدة فلسطينية تبعد 18 كم جنوب مدينة الخليل.‏