كُلُّنَا سَعْد

قصة: فوزي صالح

كاتب مصري

 

 

 

لا أدري ما الذي جعله يخطر ببالي في ذلك الصباح الداكن، خاصة أنَّ الأحوال لم تكن على ما ‏يرام، ولا مجال البتّة للضحك أو حتى البسمة، ولو على سبيل المجاملة المحضة، قلتُ: "يا أبا ‏صالح.. خيرًا إن شاء الله"، والخير يأتي مع قدوم الواردين، حتى لو كان هذا القدوم باستدعاء ‏الصورة ليس إلّا.. قلتُ: "يا أبا صالح مضى زمانك الجميل، ولم تعُد هناك صحبة، تثير النّقع، أو ‏تسكت الجيب إذا عوى".‏

قال لي "الريِّس حامد"، أو صورته المستدعاة- سيان: يا ابن أخي، لماذا الهمّ والغمّ، وأنتَ ما زلتَ ‏في مقتبل الكهولة، لم يبيَضّ شعرُك، أو يتقوَّس ظهرك، ولم تتلمس التجاعيد طريقها بعدُ إلى ‏وجهك، وأنا في مثل سنِّك، كان الشَّعرُ قد اشتعل شيبًا، وسقطت ثلاث أرباع أسناني، ولم أكن ‏آكل إلّا بلعًا.. يا ابن أخي، لماذا تنظر خلفك، وتحت قدميك، والطريق طويلة، ومَن طالت ‏طريقه، وجبت زيادة خطوه. قالها جَدّي قبل مئة عام، ولا أعرف مناسبتها.‏

كنتُ في مثل نصف عمرك، والحرب الكونيّة الأولى قد انتهت، وثورة عمّنا سعد زغلول تشمل ‏القطر من أدناه إلى أقصاه، قلتُ يا ولد، عمّك الباشا في ورطة، ولا بدَّ من مساندته ولو ببرقيّة، ‏شددتُ ورقة، وطرَّزتها بمشاعري ومشاعر البلد، وقلتُ فيها بوطنيّة خالصة "كلّنا سعد"..‏

غير أنَّ البرقيّة وقعت في يد الخواجة "ينى الإسبرطي"، فوجدها فرصة لا تُعوَّض لقهري، ‏خاصة أنني كنتُ من المقاطعين لزيتونِه وجبنِه وحلاوته الطحينيّة، بعد انحيازه البيِّن للإنجليز، ‏قلتُ إنه وجدها فرصة، وحوَّلها في التوّ واللحظة إلى صديقِه السير "ستانلي" المصيَّت في ذلك ‏الوقت، وصاحب السَّطوة في ربوع القطر المصري، وشقيقه السودان.. ‏

قلتُ له مقاطعًا: "تقصد اللورد كرومر؟". ‏

ردَّ بحدَّة: "لا..".‏

وأكمل: ‏

‏"المهم أنني فوجئتُ ذات ليلة مقمرة، بجيش كامل العدد والعدّة والعتاد يحاصر البلدة، كيف حدث ‏هذا وبهذه السرعة؟ لا أعرف.. المهم أنَّ هذا الجيش العرمرم بأسلحته الثقيلة والخفيفة، جاء ‏خصيصًا للقبض على العبد لله! قلتُ يا حامد الجهادَ الجهادَ، ومَن لم يمُت بالسيف، مات بغيره.‏

أمسكتُ برشاشي ماركة (استكهولم)، واتخذتُ من شجرة توتٍ ضخمة؛ قيل إنَّ عمرها يزيد على ‏خمسمئة عام، أو أكثر، وقيل إنها من العصور المتأخرة للفراعنة، حُكّام المحروسة، أُمّ الدنيا ‏وأبوها! اتّخذتُ من الشجرة المعمِّرة ساترًا يحمي ظهري، وأخذتُ وضع الواثق، طلقات لا تتوقف ‏من جانبي، وقذائف كالسيل من جانبهم، حتى يئسوا من الإيقاع بي، وتساقط العشرات من ‏جنودهم، ولم يجدوا بُدًّا من الجلاء عن المنطقة محمَّلين بخزيهم وعارهم الأزليّ. ‏

ثلاثة أيام بلياليها، والحرب دائرة، وأنا رابض كالأسد لا يغمض لي جفن، ولا تهزّني ريح أو ‏فرقعة، حتى لو كانت إلى جوار أذني، وهم يتخبّطون كالقطط المذعورة، وحقّ هذا الصباح، ‏ظلّت الصحف العالمية تكتب عن هذه الواقعة عشر سنوات، محلِّلة تفاصيلها، وموجِّهة بتدريس ‏خطّتها العبقريّة لطلاب الحربيّة، وكانت عناوين تلك الأيام على شاكلة: "الريِّس حامد يقهر ‏‏(مفردًا) جيشًا بأكمله، ويفكّ الحصار عن قريته شرشابة"؛ و"شمشون زفتى يهدم المعبد ‏على رؤوس أعدائه ويردّهم خائبين".‏

قلتُ: يا ريِّس، (وبطني يكاد ينفجر من الضحك المكتوم)؛ ولكن كتب التاريخ لم تذكر هذه الحادثة ‏أبدًا على الرغم من فرادتها، واستحالة حدوثها، خاصةً كتاب المؤرِّخ ذائع الصيت، عبدالرحمن ‏الرافعي.‏

قال: "هذا صحيحٌ، لأنَّ سعد باشا قرَّبني، وأخفاني في عزبته الريفيّة بـِ(سندابسط) من أعمال ‏مركز زفتى بمديرية الغربية، وكثيرًا ما كان يزورني هناك، وبرفقته عبدالرحمن هذا، ممّا أوغر ‏صدره عليَّ، ومحا اسمي عامدًا متعمدًا من قائمة الشَّرف، ومن سطور ذكرياته عن الثورة، ‏مدَّعيًا أنَّ السير (ستانلي)، اشترط لصدور الكتاب مطبوعًا، أن يمحو كل ما يخص هذه الحادثة ‏تمامًا، وعدم الخوض فيها من قريب أو بعيد، لأنها تمسّ شرف الإمبراطورية التي لا تغيب عنها ‏الشمس، وأُبَّهة التاج العريق".‏

ابتسمتُ رغمًا عنِّي، متأكدًا أنَّ كل ما قيل، جاء على شاكلة: "قال جدي منذ مئة عام".. وسكتُّ ‏‏"مضطرًّا" عن الكلام المُباح.‏