قراءة نقديّة في السلوك التديُّني للمسلم العامي على ضوء محاورة "أوطيفرون"‏

محمد الحنتيتي ‏

كاتب مغربي

 

 

في هذه المقالة يتوخّى الكاتب تحقيق غرضين اثنين: يتمثل الأوَّل في تحليل السلوك التديُّني ‏عند المسلم العامي؛ بما يساعدنا على إدراك تصوُّره للدين والتقوى. أمّا الثاني فيتجسَّد في ‏مقارنة هذا التصوُّر أولًا بفهم اليوناني القديم للدين والتقوى كما جاء في محاورة "أوطيفرون" ‏التي كتبها أفلاطون، ثم ثانيًا الوقوف على مدى استيعاب العامي للمقصد الفعلي للتديُّن في ‏الإسلام. ويلخِّص الكاتب ما قام به أفلاطون؛ من إماطة اللثام عن الفهم السطحي للتديُّن، ‏ليدفعنا إلى استنتاج أنَّ التقوى ترتبط بالمعرفة كفضيلة تمكِّن الفرد من استحضار العقل أثناء ‏تصرُّفاته بما يجعلها منضبطة لنموذج أخلاقي مطلق يهدف إلى تحقيق الخير العام للجميع.‏

 

تمهيد

يُعَرِّف أرسطو طاليس ‏Aristote‏ (384ق.م- 322ق.م) الإنسانَ بالحيوان الناطق، وهذا ‏ما يجعله، ودونًا عن جميع الكائنات، يفكرُ قبل الإقدام على أي سلوك، وغالبًا ما يأخذ تفكيره ‏غايات أفعاله بعين الاعتبار، والتي تخضع إلى مجموعة من المحددات (ثقافية، دينية، ‏اجتماعية، قانونية...). أمّا الأشخاص الذين يسلكون كما اتُّفِق، أي دون خلفية نظرية لسلوكهم، ‏يمكن القول إنَّهم يخضعون للانفعالات مِثلهم مِثل الحيوانات، فتتدخَّل أعراف المجتمعات ‏وقوانين الدول لردعهم.‏

ويعدُّ الدين من أبرز الأيديولوجيات التي تؤطر سلوك الفرد، فَيَتَوَجَّبُ على المؤمن أن يجعل ‏سلوكه منسجمًا والقواعد التي وضعها الدين، عبر حساب ما يمكن أن يترتب عن تصرُّفه ‏بطريقة نظرية قبل أن يمرّ إلى التطبيق، فإن تبدّى له أنَّ سلوكه يتوافق وما يسمح به الدين ‏أقدم عليه، وإن ظهر له أنه مرفوضٌ أعرض عنه.‏

ومنه فإننا أمام تقديرات بشرية قائمة على إِعْمَالِ العقل، واستنتاج ما يمكن أن يترتب عن ‏التصرفات. فالدين جاء في الرسالات السماوية على شكل قواعد كلية، ينبغي على الفرد أن ‏يستنتج منها كيف يسلك.‏

وعلى الرّغم من أنَّ العقلَ أعدلُ الأشياء قسمة بين الناس، كما ذهب إلى ذلك رينيه ديكارت ‏René Descartes‏ (1596م-1650م)، فإنَّ الاختلاف بين أفكار البشر قائم، ومردّه -‏بحسب الفيلسوف نفسه- إلى طُرُقِ استخدام العقل، فينتج عن ذلك تفاوتات كبيرة في الفهم تجَاهَ ‏الموضوع نفسه.‏

وعليه، فإنه ليس هناك فهمٌ واحدٌ للنصوص الدينية، فبالنسبة للقرآن كتاب المسلمين قد نجد ‏ثلاثة تصوُّرات، إذا أخذنا بعين الاعتبار التمييز الذي قام به الفيلسوف المسلم أبوالوليد بن رشد ‏‏(1126م-1198)، حينما بيَّن أنَّ القرآن يتضمَّن ثلاثة خطابات: الأوَّل خطابي تكثر فيه ‏الأمثلة، والثاني جدلي يطغى عليه الحجاج، والثالث برهاني يستخدم لغة عقلانية محضة.‏

ونحن في مقالتنا هذه سنحاول أن نحلل السلوك الديني للمسلم العامي لنكشف عن تصوُّره للدين ‏والتديُّن، مستنيرين في ذلك بمحاورة موسومة بـ"أوطيفرون" كتبها أفلاطون ‏Platon‏ ‏‏(428ق.م- 348ق.م)، كان لها الهدف نفسه، وتوصَّلت إلى نتائج مكّنته من تكوين صورة ‏واضحة عن طريقة تمثُّل اليوناني القديم للتديُّن والتقوى، هدفٌ نسعى نحن أيضًا إلى بلوغه، ‏حتى إنْ تمكَنًّا من ذلك قارَنًّا ما إذا كان فهم العوامِّ من المسلمين للتديُّن يتماشى وما يحفظ للدين ‏والعبد قيمتهما.‏

لكل هذا ستحاول مقالتنا أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما هي أهم الأفكار التي توصَّل إليها ‏أفلاطون في محاورته "أوطيفرون" بخصوص فهم اليوناني القديم للتديُّن والتقوى؟ وكيف ‏يَتَمَثَّلُ المسلم العامي، في عصرنا هذا، التديُّن؟ وهل هناك تشابه بين فهمه وفهم اليوناني ‏القديم؟ وهل يتوافق تَمَثُّلُهُ ذاك والغاية الحقيقيّة للدين؟

 

تلخيص محاورة "أوطيفرون"‏

يُحَاوِرُ سقراط رجلَ دينٍ يدعى أوطيفرون التقاه في رواق الحاكم الملك(1)، ومدار الحوار ‏بينهما حول تعريف مفهوم التقوى، وقد كان سبب مجيء الأوَّل ادِّعاء عام(2) رُفع ضدّه من ‏طرف شاب مجهول يدعى ميليتوس(3)، بينما جاء الثاني متّهِمًا أباه بقتل عبدٍ عن غير قصد.‏

ولمّا علم سقراط بذلك، طلب منه أن يعلّمه من علمه الواسع، لعله ينفعه في إبطال ما رُمِيَ به؛ ‏من أنه فاجرٌ ملحدٌ مفسدٌ للشباب. فسأل رجل الدين المعتدّ بنفسه والمتفاخر بعلمه: ما هي ‏التقوى في رأيك وما هو الضلال؟(4)‏

ليجيبه بأنها فضيلة ترتبط بالمجال الديني، وتتمثل في الوشاية بالظالم حتى لو كان أقرب الناس ‏منك، عكس الفجور الذي هو السكوت عن الحق، فَـ"زوس وهو خير الآلهة وأعدلهم [...] ‏قيد أباه نفسه، لأنه كان يلتهم أبناءه بغير عدل"(5).‏

يُبدي سقراط امتعاضه من هذه الحكايات الشائعة عن الآلهة التي لا تتفق ومفهوم الألوهية، ثم ‏يرفض هذه الإجابة، لأنها لا تشير إلى ماهيّة المفهوم، بل تقدِّم مثالًا عن فعل تقي، في حين ‏أنه يبحث عن المعنى العام للكلمة، الذي يصدق على مجموعة من الحالات الجزئيّة ‏المشابهة(6). فيعيد أوطيفرون إصلاح تعريفه واعتبار التقوى هي ما كان محبوبًا ومقبولًا ‏من الآلهة(7).‏

يدحض سقراط بسهولة هذا التعريف، لأنَّ الآلهة، كما تحكي الأساطير اليونانية(8)، غير متفقة ‏فيما تحب أو تكره، فمفهوم التقوى الذي يوافق عليه زوس باعتباره معاقبة الظالم، يرفضه ‏أورانوس وكرونوس كونهما ظالمان.‏

ويحاول أوطيفرون الإفلات من المأزق الذي تسببت فيه له أسئلة سقراط الحرجة، حيث يخبر ‏هذا الأخير أنَّ الظالم لا يعترف بظلمه، وإنَّما ينكره، وهذا ما فعلته الآلهة، التي تختلف حول ‏مفهوم العدل ومفهوم الجور.‏

لذا يُعدّل سقراط تعريف أوطيفرون، بحجّة أنه يحاول فهم مُحاوَرِهِ، الذي يدَّعي بأنَّ هذا ‏التعريف نفسه الذي كان يقصده، بحيث يكون أنَّ ما يجمع الآلهة على كرهه فهو فاجر، وأنَّ ‏ما يحبونه تقيّ مقدَّس(9).‏

ويشرع سقراط في فحص جواب محاوَرِهِ، عبر محاولة تَبَيُّن لمن الأسبقيّة؟ هل يسبق حب ‏الآلهة المقدَّس أم يأتي بعده؟ وبتعبير آخر، هل تحب الآلهة ما هو مقدَّس أم أنَّ ما تحبه الآلهة ‏يصبح مقدسًا؟ أيهما السبب وأيهما النتيجة؟ ‏

فيكون جواب أوطيفرون هو أنَّ ما تحبه الآلهة يصبح مقدسًا، وبالتالي فحب الآلهة سابق على ‏القدسيّة. فكرةٌ يُبَيِّنُ لنا سقراط خطورتها، لأنه ما على المرء إلا أن يستميل حب الآلهة ‏بالصلوات والقرابين كي تصبح جميع تصرُّفاته مقبولة حتى لو كانت ظالمة للذات وللآخرين. ‏وهنا يتهم أوطيفرون سقراط بأنه هو السبب في اضطراب براهينه.‏

فيقترح عليه فيلسوفنا المساعدة لبلورة تعريف جديد، عبر البدء بطرح هذا السؤال: هل العدل ‏والتقوى شيء واحد أم أنَّ التقوى جزء من العدل؟ أوليس ما هو عادل تقي بالضرورة؟ ثم ‏يقدِّم شعرًا يمجد زوس، مضمونه: أنَّ الناس يقدسون هذا الإله لأنهم يخافونه، ويُفَنِّدُ هذه ‏الفكرة، لأنَّ الناس يخافون من المرض لكنهم لا يقدسونه، فليس دائمًا سبب التقديس هو ‏الخوف، وإنما العكس؛ الخوف ناتج عن التقديس، وبهذا فالعدالة كفكرة مقدَّسة سابقة عن ‏التقوى كخوف واحترام لما هو مقدَّس.‏

ومنه يرى أوطيفرون أنه إذا كانت التقوى ذلك الجزء من العدالة الذي نخدم به الآلهة، فإنَّ ‏باقي أجزاء العدالة نخدم به الصالح العام للناس، أي السياسة والأخلاق.‏

ولغاية اختبار مدى متانة هذه الفكرة الجديدة، يسأل سقراط محاوَرِهِ عن المقصود بالخدمة، هل ‏هنا نتحدَّث عنها بالطريقة نفسها التي نتحدَّث بها عن خدمة البشر لحيواناتهم؟ فخدمة الجياد ‏سياستها، وخدمة الكلاب الاعتناء بها... وهذه الخدمة تكون لصالح الحيوانات، فهذا المفهوم ‏للخدمة يؤدّي إلى نتائج خطيرة، تجعل الآلهة هي مَن تحتاج البشر، والشعائر الدينية تقول ‏العكس.‏

ينفي أوطيفرون أن يكون هذا هو مقصده، بحجة أنه يتحدَّث عن تلك الأنواع من الخدمات التي ‏يؤديها الخدم لسادتهم، فالخدم هم من يحتاجون السادة أكثر مما يحتاج السادة الخدم. وتتمثل ‏الخدمة التي يؤديها البشر للآلهة في تقديم القرابين والتضرُّع بالدعاء وهي لا تفيدهم بقدر ما ‏تسرُّهم، لأن غريزة الآلهة تقضي عليهم أن يُعبَدوا من طرف البشر، والصلاة بهذا المعنى ‏تصبح نوعًا من التجارة فيها أخد وعطاء، حيث يبادلها الآلهة بمنحهم الصحة والرزق والسداد ‏للمصلين.‏

لا يوافق سقراط على هذا التعريف، لأنه ينطوي على فكرة تجعل الآلهة هي مَن تخدم البشر، ‏وتجعل هذه التجارة ضيزى، فالبشر لا يقدِّمون شيئًا يُذكر للآلهة ويربحون الكثير، فكيف يمكن ‏أن نساوي بين التراتيل والمال الوفير؟! ‏

إنَّ هذه التجارة هي لصالح البشر، وتسقطنا في فكرة جعل الآلهة كائنات وُجِدت فقط لخدمة ‏البشر، الذين يعودون إلها بالتضرُّع والدعاء فقط حينما يريدون الحصول على شيء ما، وآلهة ‏مثل هكذا شكل لا يعوّل عليها، فهي كالأداة التي نستخدمها في دور محدَّد، ثم نضعها في ‏مكانها إلى أن نحتاجها مرة أخرى، وهنا يبلغ الكلام منتهاه، حيث يستأذن أوطيفرون منصرفًا ‏لضيق الوقت، وهذه حجّة واهية والسبب الحقيقي هو أنَّ سقراط عرّاه وكشف جهله وفهمه ‏القاصر للدين والتديُّن.‏

وهكذا نكون قد لخَّصنا ما قام به أفلاطون؛ من إماطة اللثام عن الفهم السطحي للتديُّن، ليدفعنا ‏إلى استنتاج أنَّ التقوى ترتبط بالمعرفة كفضيلة تمكِّن الفرد من استحضار العقل أثناء تصرُّفاته ‏بما يجعلها منضبطة لنموذج أخلاقي مطلق يهدف إلى تحقيق الخير العام للجميع. فما هي يا ‏ترى حقيقةُ فهمِ المسلم العامي للدين والتديُّن في زماننا هذا؟ ‏

 

تحليل السلوك التديُّني للمسلم العامي

نحيط القارئ علمًا أننا لا نتحدَّث عن الدين كما هو محفوظ في القرآن الكريم، وإنَّما عن التديُّن ‏عند المسلم العامي، الذي يكوِّن تصوُّره عن هذه الممارسة إمّا: عن طريق قراءته الخاصة ‏للنصوص، أو عبر الاستناد على ما ينشره الدُّعاة والأئمّة، ولعلَّ الفرضيّة الثانية هي التي يلجأ ‏لها السَّواد الأعظم من عوام المسلمين. ‏

ويمكننا أن نكوِّن فكرة تقترب من حقيقة فهم العامي للدين انطلاقًا من تحليل سلوكه التديُّني، ‏فالإنسان، كما صرَّحنا من قبل، يسلك بناء على خلفيّة فكريّة ترسم معالم تصرُّفاته، وهكذا ‏تبينُ الملاحظة أنَّ العامي يركز كثيرًا على طُرُق العبادات، وقد يصل هذا التركيز إلى غاية ‏التشدُّد بخصوص التفاصيل الدقيقة حول كيفيّة أداء الطقس الديني (طريقة الوضوء، كيفيّة ‏الصلاة، أسلوب اللباس، حلاقة الشعر، إعفاء اللحية، عادات الطعام، أسماء الأولاد...).‏

وإنْ تكلَّم عن الأخلاق تحدَّث عنها في إطار وقائع حدثت في الماضي للسلف الصالح بمعزل ‏عن المناخ العام الذي أنتج تلك الوقائع، وأثّرَ في القرارات المتخذة بخصوصها، فيترتب عن ‏ذلك أمران اثنان: ‏

أمّا الأوَّل عجز العامي على النفاذ إلى المقاصد الحقيقيّة للتديُّن، حيث يحصره في الاهتمام ‏المفرط بالشكليّات، فتُؤدَّى العبادات بطريقة ميكانيكيّة في تغييب واضح للعقل، وهذا ما لا ‏يوافق عليه الدين نفسه كما سنبيِّن بعد قليل. ‏

وأمّا الثاني عيش هذا المؤمن العامي في تلابيب رجال من زمن غير زمانه، ومحاولة محاكاة ‏سلوكاتهم، وهي سلوكات مرتبطة ببيئتها وخاضعة لها، ومرهونة بشروط سياسية وثقافية ‏وأيديولوجية واقتصادية خاصة بعصر السلف، ولا يمكننا أن نجد كلمة لوصف ما يقوم به ‏العامي هنا غير القول بأنه تصرُّف رجعي.‏

ويُسَجَّلُ كذلك أنَّ التديُّن عند الجمهور تحوَّل من عبادة إلى عادة، فالعامي قد لا يكترث للعبد ‏الذي لا يصلّي، بالرغم من أنَّ الصلاة هي عماد الدين وهي ثاني أركان الإسلام، بينما يؤاخِذ ‏العبد الذي لا يصوم، لذا يخاطر بعض المسلمين المرضى بالصَّوم خوفًا من لمزات المجتمع.‏

ولعلَّ الدليل الأوضح على هذا التحوُّل؛ ما أضحى يقع خلال عيد الأضحى، حيث إنَّ مجموعة ‏من العباد، خوفًا من سلطة المجتمع، يلجؤون إلى الاقتراض للقيام بهذه السنّة (الأضحية)، وقد ‏يكون القرض مقابل فائدة، فأيّ عبادة هذه التي تتمّ عن طريق اقتراف إثم الربا؟ ‏

وهكذا نستنتج أنَّ التديُّن، الذي يركِّز كثيرًا على الطقس التديُّني دون استحضار العقل، يقف ‏عند حدود ظاهر الدين، ولا يستطيع أن يدرك جوهره، ممّا يجعله غير قادر على تَجْوِيدِ ‏سلوكات العبد في علاقاته بالغير، ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين اثنين: ‏

أمّا الأوَّل فيتمثل في أنَّ قراءة العامي للنص الديني عاجزة على الانتقال من المثال إلى الفكرة، ‏ممّا يؤكد فشل مدارسنا في ترسيخ الكفايات لدى التلاميذ... ‏

فالنص القرآني متضمِّن لثلاثة أساليب خِطابية؛ الأول خَطابي، والثاني جدلي، والثالث ‏برهاني. ونعتقد بأنَّ المغزى وراء ذلك هو مساعدة العبد على التدرُّج في فهم النص، وليس ‏كما ذهب ابن رشد إلى اعتبار أنَّ الأسلوب الأوَّل موجَه للعامّة، والثاني للخاصّة، والثالث ‏لخاصّة الخاصّة، لأننا نعتبر بأنَّ القرآن جاء ليجمع المسلمين حول مفهوم واحد عن الله والدين ‏بما يدفعهم إلى التوافق لا إلى التفرُّق إلى ثلاث وسبعين فرقة، زد على ذلك، فنتائج بحوث علم ‏نفس النموّ أثبتت أنَّ الفرد إبان عمليّات تعلُّمه يمرّ عبر هذه الأطوار؛ حيث يبدأ بالتعلم عبر ‏المشخّصات ثم يمرّ إلى التعلم بالأمثلة قبل أن يصل إلى مستوى التجريد.‏

وأمّا الثاني فيتجسَّد في عدم قدرة خطابات دعاة وأئمّة المسلمين على مساعدة العوام على هذا ‏الانتقال المرجو، كونها خطاباتٍ غالبًا ما تقف عند حدود البكاء على الأطلال، ولا تحفِّز العبد ‏على استخدام عقله، على الرغم من أنَّ الدين ندب كثيرًا إلى التدبُّر والنظر العقلاني، فما هي ‏الغاية وراء دعوة الشرع إلى استحضار العقل خلال العبادة؟

 

من الفهم الظاهري إلى جوهر الدين

إنَّ تغييب العبد للعقل، وحصره للطقس التعبُّدي في حركات آليّة تتكرَّر دون خشوع وتدبُّر، ‏أمر يجعله يبتعد عن الغاية الفعليّة للدين، المتجسِّدة بقوَّة في قول النبي محمد(ص): "إِنَّمَا ‏بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَق"(10)، لماذا؟ ‏

لأنَّ العامّي على الرّغم من تأديته لهذه الطقوس، فإنها لا تتمثَّل في سلوكاته إبان علاقاته ‏بالغير، وبالتالي فتديُّنه لا يحسِّن من أخلاقه، وما التخلُّف الذي تعيشه جلّ الدول الإسلامية ‏على جميع الأصعدة إلا دليل على ذلك، إلى درجة أنَّ الخصام صار يتسرَّب بين المصلين إلى ‏داخل المساجد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ مقصد التدبُّر هو تحقيق إنسانيّة الإنسان، ‏التي لا تتمّ إلا عبر التجرُّؤ على استخدام العقل.‏

وبالتالي، فإنَّ الفهم السطحي للتديُّن من لدن غالبيّة عوام المسلمين، يجعلنا نستنتج أنهم يقتربون ‏من فهم اليوناني القديم نفسه للدين والتديُّن والتقوى كما كشفه أفلاطون. ‏

فَهْمٌ يجعل الدين تجارة؛ طرفيها بائعٌ ومُشترٍ، والبضاعة هي العبادات، بينما الثمن هو الرزق ‏والصحة في الدنيا، ودخول الجنّة في الآخرة، وهذا فهم قاصر للدين.‏

أمّا حضور لفظ التجارة في بعض الآيات؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُم عَلَى ‏تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيم}(11)، فيمكن فهمه في إطار الصور البلاغيّة التي يزخر بها ‏القرآن، أي أنَّها تعبير مجازي أريد به حثّ المسلمين على العبادات التي تنفعهم، ولا تنفع الله ‏أو تضرّه في شيء.‏

ومنه فإننا معشر المسلمين ندخل الجنة برحمة من الله تعالى لا بأعمالنا، التي يُراد منها تدريب ‏النفس على التدبُّر، وتربية الجسد على الصبر، وطمأنة الوجدان...‏

وإدراك هذه المسائل لا يتم إلا عبر إعمال العقل أثناء التديُّن، ولعلّ هذا الدعاء يدعم ما قلنا: ‏‏(اللَّهُمَّ إِنَّ مَغْفِرَتَكَ أَوْسَعُ مِنْ ذَنْبِي وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي)(12).‏

والله عز وجل دعا إلى هذا الأمر في الكثير من آياته كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي ‏الأَبْصَار}(13)، ومثل قوله أيضًا: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا خَلَقَ اللهُ ‏مِنْ شَيء}(14)، وانطلاقًا من هاتين الآيتين يخبرنا ابن رشد أنَّ الشَّرع دعا إلى اعتبار ‏الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به(15).‏

والمقصود بالاعتبار هو أخذ العبرة عبر إعمال العقل، وهذا ما تؤكده الآية الثانية، وبالتالي ‏يصير التديُّن وجوبًا حضورٌ للعقل خلال العبادات، ودون ذلك يسقط العبد المسلم في فهم ‏سطحي للدين.‏

والله عز وجل بيّن في آيات أخرى أنَّ مَن يعرفه حق المعرفة ويخشاه إنما هم العلماء بقوله ‏تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}(16)، وتُعرَف هذه الفئة بقدرتها على استعمال ‏العقل، وقد يكون هذا تشجيعًا على ضرورة استخدام العبد لعقله وعدم اكتفائه بالتقليد الأعمى، ‏ويمكننا أن ندعم قولنا بهذه الآية القرآنية كذلك: {الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى ‏جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ ‏النَّار}(17)، والتي تقرِّر أنَّ البارئ عزّ وجلّ ربط الذِّكر -أي الدعاء- بالتفكُّر أي باستخدام ‏العقل. ‏

 

خلاصة

نعتقد بأنَّ الدين جاء لينتقل بالإنسان من دائرة الحيوانية إلى دائرة الإنسانية، أمر لا يمكنه أن ‏يتم إلا عبر تحفيز العبد وتدريبه على استعمال عقله، لذا فقد دعانا الشَّرع في مجموعة من ‏المواضع إلى التدبُّر واستعمال العقل سواء في الحياة العامة أو أثناء أداء العبادات، وبالتالي ‏فكل تغييب للعقل خلال الطقس التديُّني من شأنه أن يجعل من هذا الأخير تجارة كما بيَّن ذلك ‏أفلاطون في محاورته "أوطيفرون" حيث يصبح العبد التقيّ هو الذي يتقن حركات الصلاة، ‏والله أعرَف وأعلَم.‏

 

الهوامش والمصادر والمراجع:‏

‏(1)‏ ‏ حيث يوجد قاضٍ متخصِّص في النزاعات الدينية. وللمزيد انظر الهامش رقم 2 ص 35 من ‏كتاب محاكمة سقراط لأفلاطون، ترجمة د.عزت قرني، دار قباء للطبع والنشر والتوزيع ‏القاهرة، ط2، 2001.‏

‏(2)‏ ‏ يبين عزت قرني في الهامش رقم 3 الفرق بين الادعاء الذي يتخذ صبغة عامة تهم الدولة؛ ‏كقضايا الدين مثلًا إن كانت الدولة تجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، والاتهام الذي ‏يتخذ صبغة شخصية، ومنه فسقراط رُفع في حقه ادعاء عام أما أوطيفرون فيتهم أباه بالقتل.‏

‏(3)‏ ‏ هناك محاورة تدعى "الدفاع" تتحدث عن هذه الواقعة، وهي مترجمة إلى اللغة العربية من ‏طرف د.عزت قرني، دار قباء للطبع والنشر والتوزيع القاهرة، ط2، 2001، ومترجمة من ‏طرف زكي نجيب محمود في إطار سلسلة ميراث الترجمة العدد 1773، المركز القومي ‏للترجمة، القاهرة، 2012.‏

‏(4)‏ ‏ أفلاطون، محاكمة سقراط، (محاورات "أوطيفرون"، "الدفاع"، "أقريطون")، ترجمة وتقديم ‏د.عزت قرني، دار قباء، ط2، القاهرة، 2001، ص42.‏

‏(5)‏ ‏ المصدر نفسه، ص42.‏

‏(6)‏ ‏ من بين أهداف الفلسفة السقراطية البحث عن تحديد دقيق للمفهوم باعتباره تصورًا كليًا تشترك ‏فيه مجموعة من الأفراد، لذلك كتب أرسطو: "أمران اثنان علينا أن ننسبهما إلى سقراط وبحق: ‏التأسيس عبر إعطاء الخبرة الأولية. ثم إرساء المفاهيم العامة". انظر كتاب أطلس الفلسفة، ‏لبتر كونزمام وآخرون، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، لبنان، ط1، 2001، ص37.‏

‏(7)‏ ‏ المصدر نفسه، ص44.‏

‏(8)‏ ‏ انظر كتاب أنساب الآلهة، لهيزيود، ترجمة صالح الأشمر، منشورات الجميل، بيروت، لبنان، ‏ط1، 2015.‏

‏(9)‏ ‏ أفلاطون، محاورات أفلاطون (أوطيفرون، الدفاع، أقريطون، فيدون)، ترجمة زكي نجيب ‏محمود في إطار سلسلة ميراث الترجمة، العدد 1773، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ‏‏2012، ص44.‏

‏(10)‏ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان الحديث رقم 7978؛ والسنن الكبرى حديث رقم ‏‏20782، شعب الإيمان لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق محمد بسيوني زغلول، ‏دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ.‏

‏(11)‏ سورة الصف، الآية 10.‏

‏(12)‏ أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث ‏رقم: 1994، 1/728. كتاب المستدرك على الصحيحين، للإمام الحاكم محمد بن عبدالله ‏النيسابوري (405هـ) تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ‏‏1411هـ/ 1990م.‏‎ ‎

‏(13)‏ سورة الحشر، الآية 2.‏

‏(14)‏ سورة الأعراف، الآية 185.‏

‏(15)‏ أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من ‏الاتصال، تقديم وتعليق د.ألبير نصري نادر، ط2، دار المشرق، لبنان، 1968، ص28.‏

‏(16)‏ سورة فاطر، الآية 28.‏

‏(17)‏ سورة آل عمران، الآية 191.‏