الرِّواية الشفويّة ‏ في الدِّراسات التاريخيّة المعاصرة

. إيهاب محمد زاهر ‏

مدرِّس في قسم التاريخ/ الجامعة الأردنيّة

 

 

إنَّ كتابة تاريخ العرب الحديث والمعاصر يتضمَّن شكلًا من أشكال المقاومة؛ مقاومة ‏التشويه الذي يتعرَّض له الفكر والتراث العربي الإسلامي، كما أنه وسيلةٌ للحفاظ على ‏الهويّة العربيّة، ويبدو أنَّ هذه المهمّة ليست بالسهلة، نظرًا لأنَّ الأرشيف التاريخي ‏العربي مُبعثر ومسلوب؛ هذا الواقع المُرّ يجعل المؤرِّخ الواعي لا يستطيع القفز عنه، ‏وإنَّ واجبه الوطني يحتِّم عليه في هذه الحالة أن يعتمد على الرِّواية الشفويّة في كتابة ‏التاريخ العربي المعاصر، والحفاظ عليه من الضّياع، فالرِّوايات الشفويّة أكملت وما ‏زالت تُكمل ما تجاهلته الوثائق الرسميّة أو المصادر التاريخيّة والاجتماعيّة السابقة.‏

 

حظيت الرواية الشفوية باهتمام الباحثين في تدوين التاريخ المعاصر لأيّة أمّة أو شعب، ‏فالرواية الشفويّة أصبحت متمِّمة ولازمة لتوكيد ما ورد في الوثائق الرسمية الصادرة ‏عن الحكومات، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يجب على المؤرخ أن يعتبر تلك الرواية ‏بديلًا عمّا ورد في الوثائق لأيّ سببٍ من الأسباب؛ فقد يتأثر الراوي بالهوى، فيذكر ما ‏يحلو له من وقائع مع بعض المبالغة، خاصةً إذا كان مناوئًا لسياسة حكومته التي ‏وقعت الأحداث في زمنها، وأن يميل إلى الانتقائيّة، وهنا يتطلب من الباحث تقصي ‏الحقائق، وأن لا تدفعه حماسته لقبول روايةٍ بعينها لمجرد أنها لاقت هوىً في نفسه، ‏فلا بد من تدقيقها وتمحيصها؛ وفي حال الشك في صدق روايةٍ ما، فعليه تجنبها، حتى ‏لا تُحسب عليه، فهو المسئول أولًا وأخيرًا عمّا أورده من أحداثٍ تاريخية.‏

ويُعتبر التاريخ الشفوي منهج بحث مهمّته دراسة الماضي من خلال الكلمة المحكيّة ‏المحفوظة في الذاكرة الإنسانية، والمنقولة مشافهةً من خلال روايات الأفراد ‏وذكرياتهم عن أحداث حياتهم، وخبراتهم ومشاهداتهم، خاصةً تلك التي شاركوا فيها ‏شخصيًا، أو كانوا مجرد شهود عيان عليها.‏

وقد عُرف التاريخ الشفوي أو الرواية الشفوية منذ القدم، ولا زالت الأحاديث وسيلة ‏ضرورية لنقل المعلومات والأخبار والتجارب بين الشعوب، وعلى الرغم من ‏الابتكارات الجديدة التي تطلُّ علينا يومًا بعد آخر، خاصةً اختراع وسائل الطباعة، ما ‏زال الناس حول العالم يستخدمون الرواية الشفوية في نقل المعلومات والأخبار ‏والمعارف.‏

وأمّا المخطوطات التي تتناول التاريخ الإسلامي العام والتاريخ الحديث على وجه ‏الخصوص، والتي كتبها ودوَّنها بعض المؤرخين والعامة، فقد وصلتنا عن طريق دور ‏الوثائق العربية والإسلامية ومن خلال دور الوثائق الأجنبية المختلفة، وهذه ‏المخطوطات هي روايات دوَّنها المؤرخون عبر الروايات الشفوية للأهالي الذين ‏عاصروا الأحداث، ومما يؤكد ذلك ما دوَّنه المؤرخ ابن تغري بردي في كتابه ‏‏"النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة"، وما دوَّنه المؤرخ محمد بن إياس في ‏كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، والأمير حيدر الشهابي في كتابه "الغرر ‏الحسان في تواريخ أهل الزمان"، المعروف باسم "تاريخ الأمير حيدر الشهابي"، ‏وطنوس الشدياق في كتابه "أخبار الأعيان في جبل لبنان"، وشيخ المؤرخين ‏المصريين عبدالرحمن الجبرتي في تحفته الرائعة "عجائب الآثار في الوقائع ‏والأخبار" المعروف باسم "تاريخ الجبرتي"...إلخ.‏

والتاريخ بصورةٍ عامة هو كل ما يحيط بنا، في حياتنا وفي مجتمعاتنا، راسخٌ في ‏الذكريات الحية للناس التي مرت بالتجارب، والذين يخبروننا بما نجهله من معلوماتٍ ‏عن وقائع لم نعاصرها، فلكلٍ منهم رواية شخصية عن حدثٍ قد عاصره أو كان فعَّالًا ‏في إنجازه، خاصةً تلك الروايات التي ألمَّت بالشعوب العربية، مثل ذكرياتهم عن فترة ‏الانتداب البريطاني والحروب العربية- الإسرائيلية مثل عام 1948م، وما ترتب عنها ‏من ضياع فلسطين، أو العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة، وحرب عام ‏‏1967م، التي ترتب عليها احتلال الأراضي العربية وضياع ما تبقى من أرض ‏فلسطين.‏

إنَّ كتابة تاريخ العرب الحديث والمعاصر يتضمَّن شكلًا من أشكال المقاومة؛ مقاومة ‏التشويه الذي يتعرَّض له الفكر والتراث العربي الإسلامي، كما أنه وسيلةٌ للحفاظ على ‏الهوية العربية، ويبدو أنَّ هذه المهمة ليست بالسهلة، نظرًا لأنَّ الأرشيف التاريخي ‏العربي مبعثر ومسلوب؛ هذا الواقع المُرّ يجعل المؤرِّخ الواعي لا يستطيع القفز عنه، ‏وإنَّ واجبه الوطني يحتِّم عليه في هذه الحالة أن يعتمد على الرواية الشفوية في كتابة ‏التاريخ العربي المعاصر، والحفاظ عليه من الضياع.‏

وعلى الرغم من أنَّ مصطلح التاريخ الشفوي يبدو متناقضًا في ذاته، لأنَّ التاريخ ‏بمعناه الضيِّق عند بعضهم يعني الكتابة، والمؤرخون عامةً متحيزون للمصادر ‏المكتوبة، فالرواية الشفوية تبدو المواقف منها متباينة، وبعض المؤرخين يرفضون ‏الاعتراف بها كمصدرٍ من مصادر المعرفة التاريخية وذلك لسببين؛ الأول: اعتمادها ‏على الذاكرة التي هي عُرضة للقصور والخطأ، والثاني: أنَّ التاريخ الشفوي، وتحديدًا ‏تاريخ الحياة، هو عمليات تجري على الأحياء في حين أنَّ التاريخ هو دراسة الماضي.‏

والمهم في الروايات الشفوية أنها أكملت وما زالت تكُمل ما تجاهلته الوثائق الرسمية أو ‏المصادر التاريخية والاجتماعية السابقة، فتلك الوثائق أو المصادر أخبرتنا بالكثير عن ‏حياة المشاهير والعظماء والمتنفّذين، وعن الحوادث الكبرى في التاريخ، لكنها تعمَّدت ‏تجاهل الناس العاديين ومساهماتهم التي كان لها دورٌ بارزٌ في صنع تلك الأحداث. ‏وبما أنَّ التاريخ عامةً يدوِّنه مؤرخو الحكومات المختلفة، حيث يدوّنون إنجازات تلك ‏الحكومات، فإنَّ الرواية الشفوية وُجدت لتعطي المهمّشين حقّهم، ولتعزِّز الفراغ الذي ‏يدعم الدراسات التاريخية.‏

خلاصة القول، إنَّ جمع الروايات الشفوية وتوثيقها عمل بالغ الأهمية، لأنه يحفظ ‏خبرات وتجارب كانت ستُنسى أو تتحوّل -في أحسن الأحوال- إلى أساطير وخرافات ‏بفعل تناقلها مشافهةً من شخصٍ إلى آخر، ومن جيلٍ إلى جيل. ‏

الرواية الشفوية إذا أُحسن استخدامها سوف تشكّل مصدرًا لا يقل أهمية ولا دقة عن ‏المصادر المكتوبة، مع مراعاة تحرّي الدقة فيما يُنقل على لسان الرُّواة، وإلّا فإنها ‏يمكن أن تفقد أهميتها، بل قد تكون وبالًا على المتلقي؛ ففي حال إساءة استخدامها فإنّنا ‏بذلك نسمح لبعضهم بنقل روايات إمّا تافهة أو مُختَلَقَة وسوف تتناقلها الأجيال على ما ‏فيها من عيوبٍ ونقص. ‏

 

المراجع:‏

‏(1)‏ مدلل، وليد: بحث بعنوان: "موضوعات التاريخ الشفوي وأهميتها" في كتاب: ‏محاضرات في منهجية التاريخ الشفوي وتقنياته، إصدار مركز التاريخ الشفوي ‏بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية، ط1، غزة، 1426هـ (مايو 2005م)، ص17.‏

‏(2)‏ شاهين، رياض: "مقدمة في التاريخ الشفوي" في كتاب: محاضرات في منهجية ‏التاريخ الشفوي وتقنياته، إصدار مركز التاريخ الشفوي بكلية الآداب بالجامعة ‏الإسلامية، ط1، غزة 1426هـ (مايو 2005م)، ص7.‏

‏(3)‏ أبو النحل، أسامة، الرواية الشفوية في الرسائل العلمية الخاصة بتاريخ فلسطين ‏المعاصر، جامعة الأزهر، غزة، 2006م، ص5-8.‏