صورة الأب في رواية "جسر بضفة وحيدة" ‏ للكاتبة هيا صالح

موسى إبراهيم أبو رياش

كاتب أردني

 

 

تميَّزت رواية "جسر بضفة وحيدة"، بالعمق والتنوُّع، وتعدُّد مستويات القراءة، وطرح ‏أسئلة عاصفة حول الموت والحياة والماورائيّات والطاقة والموسيقى والأبوّة والحب ‏والفن والخيال والتغيُّر وقوّة الإيحاء وقراءة الأفكار والذكريات وغيرها من الأسئلة ‏والموضوعات الشائكة. وتستعرض هذه المقالة صورة الأب في الرِّواية من خلال ‏النماذج التي تناولتها، وهي: الأب الحنون، والأب الغائب، والأب المتسلِّط، والأب ‏الفاسد.‏

 

تُعدُّ رابطة الأبوّة من أقوى الروابط الإنسانية وأنبلها وأشرفها، وتحظى بالقدسية في ‏كثير من المجتمعات؛ فالأب سبب الوجود ورب الأسرة، والقدوة والنموذج الأول، ‏وهو السند والظهر، والملاذ الذي يوفر الحماية والأمان، ويقابل بالاحترام والتقدير، ‏ويتسم بالهيبة والإجلال. وهي من الروابط التي توافقت عليها الأديان والمجتمعات ‏والأعراق، وتتناغم مع الفطرة الإنسانية، والقيم الأخلاقية، والعادات والتقاليد التي ينشأ ‏عليها البشر في كل الأزمان والأماكن على مر التاريخ. ولا يستطيع الإنسان التخلي ‏عنها أو التنصل منها؛ فهي رابطة دم لا تنفك ولا تُستبدل.‏

وقد حظيت رابطة الأبوّة والعلاقة بين الأبناء والآباء بحضور كبير في الإبداع على ‏مختلف فنونه وأشكاله، تأكيدًا لأهمية هذه الرابطة وتأثيرها الكبير والعميق على مسيرة ‏الأبناء، سواء أكانت هذه العلاقة قوية وإيجابية أم واهنة وسلبية. ومن الأعمال التي ‏تناولت هذه الرابطة: رواية "الأب" لـ"يورج أكلين"، ورواية "الأب" لـ"دانيال ستيل"، ‏ورواية "الأب الخالد"‏‎ ‎لـ"بلزاك"، ورواية "أين نذهب يا بابا؟" لـ"جون لوي فورنييه"، ‏ورواية "دفاتر الوراق" لجلال برجس، ورواية "خطف الحبيب" لطالب الرفاعي، ‏ومسرحية "الملك لير" لـ"شكسبير"، وغيرها الكثير في الرواية والقصة والشعر ‏والأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية.‏

وقد برزت هذه الرابطة بشكل لافت في رواية "جسر بضفة وحيدة" للأديبة الأردنية ‏هيا صالح؛ من خلال معظم شخوصها، إذ أشارت الرواية إلى هذه العلاقة بإيجاز أو ‏إسهاب لكل شخصية فاعلة فيها. وقد تفاوتت نماذج الأبوة في الرواية كثيرًا، لتعبِّر ‏بموضوعية عن نماذج مجتمعية واقعية موجودة، وتستعرض هذه المقالة صورة الأب ‏في الرواية من خلال النماذج التي تناولتها:‏

 

الأب الحنون

ويمثله في الرواية اثنان: "صلاح" زوج "سامية"، وأبوها. أمّا "صلاح" فهو مهندس، ‏مثقف، يحب زوجته "سامية"، ويتقبَّل تقلباتها وغموضها وغرابة تصرفاتها، وعلاقته ‏مثالية مع طفليه "خالد" و"عمر"؛ فإذا انشغلت زوجته أو كانت مُتعَبة، يحضِّر طفليه ‏للمدرسة، ويجهِّز حقائب الطعام لهما، ويوصلهما إلى المدرسة، ويعيدهما، وإذا عادا ‏إلى البيت برفقة أمهما يسرع بعناقهما وتقبيلهما، ويساعدهما في دراستهما، ويشرف ‏على عشائهما قبل ذهابهما إلى النوم. ويوم مات جدهما انتحارًا طلب من زوجته أن ‏تبقى معهما في البيت ولا تخبرهما بشيء.‏

وعندما مات كلبهما، شاركهما الحزن عليه، واصطحبهما لشراء كلب جديد من النوع ‏نفسه، وعندما سألته "سامية" عن ذلك، وأنه سيذكِّرهما دائمًا بكلبهما السابق، أجابها: ‏‏"لا بأس من تذكُّره، لقد جمعتهما معه ذكريات جميلة، ولا بأس لو استعاداها مع كلبهما ‏الجديد.. نوع من الاستمرار عبر الذكريات، كما أنَّ هذا سيجعلهما ينظران لموت ‏الكلب السابق على أنه أمر لا بد من تقبُّله.."(ص98).‏

فالأب "صلاح" يشارك العناية بطفليه وتربيتهما وتدريسهما، ويشاطرهما أحزانهما، ‏ويحرص أن لا يتأثرا بموت الجد خاصة وأنه مات انتحارًا وما يستتبع ذلك من ‏تساؤلات يصعب الإجابة عنها بسهولة، كما أنه اشترى لهما كلبًا من نوع كلبهما الذي ‏مات، وبرَّر ذلك برأي منطقي جميل لا يخلو من فلسفة لطيفة. والأهم أنه كان قدوة ‏لأطفاله في تقدير ظروف أمهم، والمبادرة بتخفيف الأعباء عنها، وتحمُّل تقلّباتها ‏وتصرُّفاتها، بتفهُّم ورحابة صدر.‏

أمّا والد "سامية"، فهو معلم للغة العربية، فلسطيني الأصل، يعمل في الموصل. ‏اضطرّ للعودة إلى عمّان بعد سقوط بغداد عام 2003، وبعد سنوات، تدهورت صحته ‏بفعل مرض السكري، وما لبث أن توفي، ولحقته زوجته بعد فترة قصيرة.‏

كانت "سامية" وحيدة والديها، ممّا اضطرّها لتحمُّل المسؤولية، وتقدير الظروف، ‏تقول: "فرض شعوري بالنقص عليّ أن أكون على قدر تطلعات أمي وأبي، لأنه ما ‏من أحد يمكنهما أن يودعا فيه أحلامهما غيري"(ص32)، وكانت تحظى بعناية مبالغ ‏فيها من والدها، ولكن ذلك لم يمنع من تمتعها بشخصية مستقلة وهادئة، قادرة على ‏التكيف بسرعة، والاعتماد على الذات. وتقديرًا لتعلقها بالتصوير أهداها والدها كاميرا ‏حديثة مع دخولها عامها الثاني عشر، ممّا ساعدها على تنمية هوايتها، وأخذت تصوِّر ‏كل ما يسترعي انتباهها، حتى اتخذته حرفة لها بعد تخرُّجها في الجامعة.‏

وبسبب حبها لأبيها، وعلى الرغم من حبها لـ"سالم" ووعدها له، إلا أنها وافقت على ‏شاب من أقرباء والدها، فأمام "سالم" سنوات طويلة ليقدم على الزواج، وكل ذلك ‏مرهون بموافقة أسرته التي تظن "سامية" أنها لن تحدث، ولذا اتخذت قرارها حبًا ‏بوالدها: "شعرتُ بحاجة والدي لرؤيتي بثوب الزفاف الأبيض قبل أن يغادر الحياة، لم ‏يصرِّح مرَّة بذلك، لكنني كنت قادرة على قراءة إشاراته وفهمها، كما وجدت أنَّ هذه ‏الخطوة قد تحسِّن من الوضع النفسي لوالدتي"(ص63)، وتبرِّر ذلك لـ"سالم": "الأمر ‏خارج عن إرادتي.. أريد استعادة بعض الفرح الذي هجر بيتنا منذ مرض أبي. أريد ‏تحقيق رغبته"(ص64). كما أنها قررت تأجيل دراستها الجامعية، ولكن الموت لم ‏يمهل أباها، فقررت فسخ الخطوبة والعودة إلى الجامعة.‏

أثَّرت وفاة أبيها وأمها كثيرًا عليها، تقول: "رحيل أبي ولحاق أمي به شكّلا منعطفًا ‏حادًا في حياتي، أصبحت وحيدة تمامًا، غير أني لم أشعر بالوحدة بقدر ما شعرت ‏بالعجز والقهر"(ص72). وتصوِّر شعورها بالفقد والخسارة: "أفكر في أمي وأبي ‏كثيرًا، أشعر كل مرة كما لو أنهما تركاني خارج البيت وأغلقا الباب عليهما محتفظين ‏بجزء مني لا أستطيع الاستغناء عنه"(ص94). وكثيرًا ما تستذكر والديها بألم وشعور ‏بالضياع والعجز: "أشعر كما لو أنني محبوسة في قفص الماضي ولا أستطيع الخروج ‏منه، ربما بدأ حبسي عندما وقع ذلك الخطأ الذي غيَّر مسار حياة والديّ وقضى على ‏حلمهما بعدد من الأطفال.. حُبست هناك، ورغم الأبواب المشرعة أمامي لم أجرؤ ‏على الخروج"(ص93).‏

 

الأب الغائب

ويمثله في الرواية والد "عمار"، جار "سامية" في الموصل، وفتى أحلامها وحب ‏حياتها، كان مثقفًا، ويمتلك مكتبة منزلية، تقول "سامية": "أثارت كتب والده فضولي، ‏فهي تختلف عن كتب والدي التي تدور حول الدين وقواعد اللغة. كنت أتصفحها كأنها ‏كنز؛ طبعات قديمة، أوراقها صفراء، وأغلفتها مهترئة بفعل الزمن، وموضوعاتها ‏تتنوّع بين الأدب والفكر والفلسفة"(ص38)، ذهب للقتال في حرب الخليج الأولى، ولم ‏يعُد، ولا يدري أحد مصيره، تطمئنه "سامية" أنه سيعود بدليل أنهم لم يجدوا جثته بعد. ‏

غياب والد "عمار"، حمَّله مسؤولية كبيرة، تقول "سامية": "تلقى معاملة خاصة من ‏أمه بوصفه (سيد البيت)... لا بد أن شعور عمار بالمسؤولية صقل شخصيته على ‏نحو مبالغ فيه"(ص41). وكان يتألم لفقد والده، ويتوهم أو يتخيل أحيانًا أنه يراه؛ ذات ‏لقاء مع "سامية"، يخبرها أنه رأى والده حقيقة وليس حلمًا: "رأيته حقيقة، لمست يده، ‏كانت دافئة، لم نتحدث كثيرًا، لكنه أعطاني مفتاحًا صغيرًا وقال لي إنه مفتاح خزانته ‏في الكتيبة التي التحق بها، وطلب مني أن أجلب أغراضه منها.. اتصلتُ بزميل له ‏ليحصل لي على تصريح لزيارة الكتيبة والوصول إلى خزانة أبي، لكنه قال إن عليّ ‏أن أنتظر إلى أن تهدأ الأمور، فالأوضاع لم تستقر بعد"(ص47). تُعلِّق "سامية" على ‏ما سمعت: "لم أصدِّق كلمة ممّا قاله، لكني لم أشأ أن أجرحه أو أحرجه؛ لا يمكنني أن ‏أفعل هذا مع شخص يعاني ألم الفقد"(ص47).‏

وفي عمان، يخرج عمار مع سامية، ويغيب فوق جسر غريب، ثم يعود، ويخبرها أنه ‏قابل والده، وأعطاه الحقيبة التي طلبها من خزانته، تسأله سامية عن الجسر الغريب ‏المخيف الذي رأته، فيخبرها: «إنه المكان الذي يمكنك اللقاء بالراحلين عبره.. إنهم لا ‏يموتون حقًا، بل يعبرون الجسر فقط»(ص175).‏

الأب الغائب منذ الطفولة، يبقى ملاكًا في نظر طفله، طيفًا نورانيًا، حلمًا يعاوده، ‏وأُنسًا يلازمه، ولذا ليس غريبًا أن يتوهم عمار أنه رآه وحدثه ونفذ أوامره، فالحنين ‏الجارف، والحرمان الحارق قادر على إحضار الغائبين، ولقاء الموتى.‏

 

الأب المتسلِّط

وهو في الرواية والد "نرمين" صديقة "سامية" في المدرسة ووالد أخيها "سالم" الذي ‏أحبَّ "سامية"، وأخذ منها عهدًا أن تنتظره للزواج، لكنها خذلته، فانتكس وتدهورت ‏صحته النفسيّة.‏

كان والد "سالم" سياسيًّا معارضًا، ومتسلطًا على أولاده، تقول سامية: "والده جرّاح ‏مرموق ومعارض سياسي، وما زالت صورة (جيفارا) المعلقة بحجم جداريّة عند ‏مدخل بيتهم حاضرة في ذهني. كان يفرض على العائلة نظامًا صارمًا في الأكل ‏والنوم والخروج من البيت والعودة إليه. قال سالم مرّة لي إنه يشعر أنني أكثر حرية ‏منه رغم كوني فتاة، وإنَّ سلطة والده تحرمه من الحياة التي يعيشها ‏أصدقاؤه"(ص54).‏

وتبرِّر "سامية" عدم انتظارها لـ"سالم"، بأنه لا يملك أمر نفسه، وأنَّ والده لن يوافق، ‏وكذلك أسرته. ولا تذكر "سامية" أسباب الرفض. وحدثت قطيعة بين "سامية" ‏و"نرمين" و"سالم"، وفوجئت "سامية" لاحقًا أنَّ والد "سالم" المعارض عُيّن سفيرًا في ‏دولة آسيوية، ولمّا استغربت ذلك تقول لها زميلتها "نهى": "ربّما تغيَّر.. الجميع ‏يتغيَّرون"(ص107).‏

والد "سالم"، نموذج للأب المتسلط والمتعنت الذي يتحكم في حياة أولاده بحسب ‏قوانينه وقواعده، ممّا يؤدّي إلى ضعف شخصيّاتهم وضياعهم، والذي ينتهج ‏المعارضة كوسيلة لبلوغ مآربه، وهو نموذج سيئ للأب الذي يسعى لتحقيق ذاته ‏ويطمس ذوات مَن حوله ولو كانوا أولاده.‏

 

الأب الفاسد

ويمثله في الرواية والد "صلاح" (زياد طاهر)، ولم تبيِّن الرواية طبيعة تعامل الأب ‏مع ابنه عندما كان طفلًا، ولكنها أبانت عن رفض الابن لأبيه وعدم التعامل معه أو ‏العمل معه إلا في الحدود الدنيا التي تفرضها حقوقه كأب؛ وذلك بسبب فساد الأب في ‏عمله.‏

بنى والد "صلاح" نفسه من الصفر حتى أصبح صاحب شركة مقاولات كبيرة، لكنه ‏لجأ إلى أساليب قذرة ليحقق ما يريد؛ يحدِّث "صلاح" زوجته "سامية": "هل تعلمين، ‏لا أراه عصاميًا كما يردّد الآخرون، إنه جشع واستغلالي، وكل ما تعلمه في الحياة هو ‏كيف تؤكل الكتف.. أساليبه كلها وسخة... لقد سمعته، كنتُ في الإعدادية وقتها، يتفق ‏مع أحدهم ليدمر المقاول الذي أكرمه وجعله رئيسًا على عمّال البناء. اتفقا على أن ‏يغشّا في كميات الإسمنت والحديد المخصَّصة لبناء مشروع كبير لأحد البنوك، وبعد ‏أن نفّذا مخططهما وشيا بالمقاول لدى إدارة البنك، وكشف التقرير الهندسي أنَّ هناك ‏تلاعبًا في مواصفات البناء. حمّلوا المسؤولية للمقاول المسكين، وكتبت عنه الصحف، ‏وانتهى به الأمر إلى الإفلاس، ثم حصل والدي على قرض ميسَّر من البنك نفسه ‏لإتمام البناء نفسه وفق المواصفات المطلوبة"(ص116)، ويخبرها أنه صارحه بذلك، ‏بعد شجار بينهما، وأكد له أنْ لن يعمل معه ولو بقي بلا عمل طوال حياته. كما أنه ‏يقوم بصفقات مشبوهة وعطاءات غير قانونية، وحاول أن يستقطب "سامية" للعمل ‏معه من أجل دخول المعترك السياسي، إلا أنها لم تقبل، وما لبث أن مات فجأة منتحرًا ‏بالرصاص.‏

تصفه "سامية" بقولها: "لم أرتح يومًا للتواصل معه، ونفرت من طريقته في العيش، ‏فهو رغم وضعه الاقتصادي الذي تحسَّن بسرعة الضوء، لم يتمكن من تطوير نفسه، ‏يصرخ بألفاظ نابية، ويرمي الكلام الجارح دون مراعاة لشعور الآخرين، ويبيح لنفسه ‏أحيانًا التدخل في شؤوننا الخاصة.. يلقي على مسمع صلاح كلّما التقينا تلميحات ‏جارحة: (هذا الرزق لك بعد موتي، لكنك لست حريصًا عليه)"(ص100).‏

صفات هذا الأب وأخلاقيّاته وتعاملاته الفاسدة، كان لها وقع سيئ على ابنه، تقول ‏‏"سامية": "أشعر بالتعاطف مع صلاح، لا بد أنه عانى من هذا الأمر كثيرًا، ليس سهلًا ‏أن يفقد الإنسان معنى القدوة التي يمثلها والده، هذا يشبه أن يضيِّع البحار ‏بوصلته"(ص116)، ولذلك طلب منها "صلاح" أن لا تتعامل معه، وعدته، لكنها ‏ساعدته مرة للحصول على صفقة فأهداها استديو مجهَّزًا.‏

قبل انتحاره بفترة قصيرة، رغب بالزواج من سكرتيرته التي تصغره كثيرًا، فشعر ‏‏"صلاح" بالألم، خاصة وأنه فقد الأم، يقول لـ"سامية": "باركتُ له خطوته، وغالبتُ ‏نفسي كي أظهر فرحة زائفة! تعلمين كيف هو ذلك الإحساس"(ص99). وبعد انتحاره ‏تتكشف فضائحه، فقد كان يعتدي جنسيًا على سكرتيرته الجديدة، واضطر لخطبة ‏‏"سمية" لأنها حامل بطفله. ‏

تخلّى "صلاح" عن إرث والده وترك إدارة شركته لأخته الكبرى التي كانت تعمل مع ‏والدها، تقول "سامية": "أراد أن ينأى بنا عن أموال والده، وواصل عمله المعتاد ولم ‏يتغير شيء في إيقاع حياتنا"(ص137).‏

إنَّ هكذا أب يشعر ابنه بالعار والخذلان، وأنه حمل ثقيل، وقربه مشكلة، والعلاقة معه ‏مخزية ومعيبة بحقه، ولكن "صلاح" حافظ على خيط معاوية مع والده، وتحمّل ‏مسؤولية إجراءات الدفن وتقبل العزاء فقد كان بارًا بوالده الذي عقّه وجرحه كثيرًا.‏

إنه نموذج فاسد للأبوّة بكل فجاجة، ففي العادة، يُظهر الأب أحسن ما لديه أمام ‏أولاده، ويخفي عيوبه، ويستر نقائصه، ولا يطلع أولاده على فساد أعماله، إلا أنَّ والد ‏‏"صلاح" كان يتبجّح بذلك ويفتخر، ولنا أن نتصور أي معاناة كان يعيشها "صلاح"، ‏وأي صراعات كانت تعتمل في دواخله، وكيف استطاع أن يتكيّف بين أب حرمه حقه ‏بالأبوة الدافئة، وأبوّته تجاه أطفاله التي اتّسمت بالحنان والحب ونظافة اليد.‏

‏***‏

تميَّزت رواية "جسر بضفة وحيدة"، بالعمق والتنوُّع، وتعدُّد مستويات القراءة، وطرح ‏أسئلة عاصفة حول الموت والحياة والماورائيات والطاقة والموسيقى والأبوّة والحب ‏والفن والخيال والتغير وقوة الإيحاء وقراءة الأفكار والذكريات وغيرها من الأسئلة ‏والموضوعات الشائكة، وكل ذلك حول الشخصية الرئيسة "سامية" والشخصيات التي ‏ارتبطت بها، أو كانت لها علاقات معها.‏

والرواية الصادرة عن دار "الآن ناشرون وموزعون" وبدعم من وزارة الثقافة في ‏عام 2021، تقع في 198 صفحة، وتُعدُّ إضافة مميزة للروائية والناقدة وكاتبة ‏السيناريو هيا صالح، التي صدر لها في النقد: "سرد الحياة، 2010"، "المرجع ‏وظلاله، 2010"، "الخروج من الذات، 2012"، "أبواب للذاكرة، 2013"، "المسافة ‏صفر، 2014". بالإضافة إلى حوالي ست عشرة قصة للأطفال. ونالت مجموعة من ‏الجوائز منها: جائزة ناجي نعمان الأدبية 2013، وجائزة النص المسرحي الموجَّه ‏للطفل من الهيئة العربية للمسرح 2013، وجائزة أفضل كتاب عربي للطفل/ معرض ‏الشارقة الدولي للكتاب 2013، وجائزة ناصرالدين الأسد للدراسات النقدية 2016، ‏وجائزة الدولة الأردنية التشجيعية في حقل الآداب 2017، وجائزة كتارا للرواية ‏العربية 2018 عن رواية "لون آخر للغروب"، وحصلت روايتها "شقائق النعمان" ‏على جائزة كتاب العام لليافعين، ضمن جوائز "اتصالات" التي ينظمها المجلس ‏الإماراتي لكتب اليافعين 2020‏‎.‎‏ وهي ناشطة ثقافية وعضو لجان تحكيم وهيئات ‏ثقافية مختلفة.‏