آليّات البناء الفنّي لمجموعة "مسكوت عنهم"‏ للقاص عمّار الجنيدي

 

 

د. مسلك ميمون ‏

ناقد وأكاديمي مغربي

 

إنَّ القاص عمّار الجنيدي في مجموعته القصصية "مسكوت عنهم" لا يسرد الأحداث حسب، ‏ولكن يجعل القارئ يستنطقها، ويغوص بحثًا وتأملًا، في أسبابها الموضوعية والذّاتية.. بل ‏تتحول القراءة إلى انشغال فلسفي، واجتماعي، وسياسي.. أساسه صيغ أدبيّة قصصيّة، تُشعر ‏بموهبة متميّزة في السّرد الأردني، تتطلّب البحث والدّراسة، وبخاصّة فيما يتعلق بالسميوتيقا ‏النّصية، وأنظمة الدّلائل التي لا تستبعد الإيحاء ودواعي التّخييل والتأمُّل. ومن جانب آخر فإنَّ ‏اللافت في اختيار وتحديد العنوان عند القاص عمّار الجنيدي، أنَّ العنوان يأتي بشحنة من ‏الإيحاء متعدّدة الأبعاد والجوانب، تحمل على التساؤل والفضول المعرفي، فضلًا عن التأثير ‏والتأويل.‏

 

منذ نشأته الأدبيّة كان وما زال هائمًا في آفاق الشّعر، وسراديب القصّة، محاولًا التّمرُّد على ‏جنس لصالح جنس آخر نزولًا عند نصيحة والده الذي أشار عليه بأنْ يتمسّك بما يؤهله أن ‏يكون متفرّدًا ومتميّزًا.. ولكنه أخفق في أن يتمرّد على أحد الجنسين. ربّما الأمر يعود كما قال: ‏‏"لم أكن واعيًا لطبيعة التّجنيس الأدبي لما أكتب، وظللت أتجاهل هذه القضية لأنّني منذ البداية ‏كان يهمّني أن أكتب ما بداخلي من هواجس مشروخة، وكان الوقت قد فات أن أختار بين ‏الشّعر وبين القصّة لأنّهما كانا متداخلين عندي، إذ وجدتني منخرطًا فيهما"(1).‏

وعن شخصيّات سرديّاته وعن تمرُّده المستمر قال: "إنّه ممّا لا شك فيه أنَّ الأبطال الذين ‏يذرعون مساحات قصصي هم أشخاص منتخبون، ذوو إمكانات أثيرة في نفسي، إلّا أنَّ ما ‏يجمعني معهم: أنّنا جميعًا مهجوسون بمحاولة الخروج من الواقع الذي يكبّل ويحجّم من ‏طموحنا واندفاعنا، لكنّنا مؤمنون في قرارات أنفسنا أنَّ المجتمع حشَرَنا في أتون العادي ‏والمُملّ. الأهل والعشيرة والمجتمع تواطؤوا على رفضي كمتمرّد، وكصعلوك، وكعاشق، لذا ‏فإنّني سأموت وأنا ناقم عليهم جميعًا، لكنَّهم جميعًا قبلوني كمبدع. (يا للغرابة!)"(2).‏

 

البناء الفنّي لمجموعة "مسكوت عنهم"‏

أولًا- الغلاف

الوجه الأمامي هيمن عليه البياض، في الأعلى بالأسود اسم القاص "عمّار الجنيدي"، أسفله ‏بالأحمر عنوان المجموعة "مسكوت عنهم"، وفي الوسط، أسفل العنوان، ملامح وجه رجل من ‏مادّة ما، يُعلن الصّمت برفع سبّابته إلى شفتيه. أمّا في ظَهر الغلاف، نجد صورة للوجه ‏الأمامي للغلاف مصغَّرة، بجانبها اسم القاص بالأسود، وأسفله عنوان المجموعة بالأحمر، ‏وأسفل ذلك فقرتان من نص "هرولة".‏

المجموعة أُدرجت تحت تصنيف: قصص قصيرة وقصيرة جدًا، أمّا الإهداء فكان كالتالي: 

‏"إلى غيمَةٍ غَسَلَتْني بِتَمَرُّدِها، بعد أن تكالَبَ الحُقراءُ على قلمي". إهداء ينمّ عن اعتراف ‏بالجميل، وفي الوقت ذاته يكشف عن معاناة، ومكابدات.. عرفها القاص ممَّن نعتهم ‏بـِ"الحقراء". 

 

ثانيًا- عناوين المجموعة

 

المجموعة تتكوَّن من خمسة وثلاثين نصًا. عناوينها: منها أربعة عشر عنوانًا نكرة، كلّها ‏أسماء، منها سبعة بصيغة المفرد. تليها عشرون عنوانًا معرَّفة كلّها أسماء، وهي معرّفة سواء ‏بألـ أو بالإضافة. منها اثني عشر عنوانًا مفردًا، وبذلك يكون عدد العناوين المفردة في ‏المجموعة تسعة عشر عنوانًا، يليها خمسة عشر عنوانًا مركّبًا، منها ما جاء في جملة اسميّة ‏مثل "الحزام الأسود"، ومنها ما جاء في شبه جملة مثل "عندما يكون الخروج مستحيلًا"، ‏ومنها ما جاء في جملة استفهاميّة مثل "لماذا يبكي المعلم؟".. وينفرد نص من دون عنوان، ‏‏(...) أو عوّضته نقط حذف، وهي تقنية تدعو المتلقي ألا يكون مستهلكًا فقط، بل عليه أن ‏يشارك في كتابة النّص، ذلك بوضع عنوان يراه مناسبًا لفكرة النّص. وفي ذلك دليل فهمه ‏واستيعابه. 

ــ إيحاء العناوين: ‏

اختيار العنوان عند القاص عمّار الجنيدي لا يكون اعتباطيًّا، أو كما اتفق، فهو يدرك أهميته ‏ودوره في العمل القصصي باعتبار أنّه: "مقطع لغوي، أقلّ من الجملة، يمثل نصًا أو عملا ‏فنّيًا عبر ارتباطه باللّغة، فهو أولى الإشارات اللّغوية إلى مسارات النّص لتسمه وتحدّده، ‏وتغري القارئ بقراءته"(3)، بل يخضع لمراقبة ذاتية فنّية، أو هكذا يشعر القارئ؛ فالقاص لا ‏يهدف أن يلخص العنوان محتوى النّص، أو يكشف بعض أسراره وخباياه، بل العنوان عنده ‏في علاقة رفيعة ووشائجيّة ومكمّلة للنّص، ولكن هو في حدّ ذاته نصٌّ موازٍ. حقًا أبعاده ‏اللّغوية أو التّركيبية والدّلالية تساعد على فهم واستيعاب فكرة النّص، ولكن تبقى للعنوان -في ‏موازاته بالنّص- خصوصيّة بنيويّة فضلًا عن الدّلالة المعجمية، ولكن الشّيء اللافت في ‏اختيار وتحديد العنوان عند القاص عمّار الجنيدي، أنَّ العنوان يأتي بشحنة من الإيحاء متعدّدة ‏الأبعاد والجوانب، تحمل على التساؤل والفضول المعرفي، فضلًا عن التأثير والتأويل.‏

لنتأمل عنوان المجموعة "مسكوت عنهم"، العنوان ليس عنوان نص في المجموعة، فلو كان ‏كذلك، لأسعف بمقاربة دلالية، ولكن وهو بصيغته النكرة، يثير الحيرة، فتنثال الأسئلة: 

مَن هؤلاء المسكوت عنهم؟ ولماذا لزم السّكوت عنهم؟ ألأنّهم أجرموا ولهم مَن ينافح عنهم؟ أم ‏ترى هم مستضعفون لا يملكون جاهًا ولا سندًا؟ ‏

والمعروف أنَّ "المسكوت عنه" هو ما لا يتطرّق إليه المبدع مباشرة وبخاصّة ما يشكّل طابو ‏في الجنس أو السّياسة أو الدّين.‏

 

ثالثًا- تقنية الكتابة (‏Writng technique‏)‏

لا شكّ أنَّ لكلّ قاصٍّ أو كاتب طريقته، وأسلوبه، ونمط كتابته.. وفي ذلك يكون الإبداع، وفي ‏ذلك يتنافس المتنافسون، لأنّ وحدة الكتابة تؤدي إلى النّمطية، وبالتالي أُفول نجم الإبداع. ‏والقاص عمّار الجنيدي يكتب القصّة معتمدًا أسلوب الحكي، الذي لا يَحيدُ عنه. وهذه مسألة ‏يغفل عنها الكثير من القصاصين الذين يقعون عن غير شعور منهم في ما يسمّى التقريرية، ‏فالقصّة ليست تقريرًا إخباريًّا ولا ينبغي لها –فنيًّا- أن تكون كذلك. 

‏- الحكي (‏diegesis‏):‏

‏"الحكي" لغةً سرد الحكايات. أمّا في الاصطلاح النقدي فهو أسلوب من أساليب الكتابة السّردية ‏كالقصة أو الرّواية. والحكي لا يستقيم إلا بقصّة أو حكاية.. وبطريقة هي السّرد. وذلك ما ‏يعتمده القاص عمّار الجنيدي، فهو إحساس قِرائي ينتابُ المتلقي من أوّل النّص إلى آخره. ‏فمثلًا في نص "الشّاعر يدفع الثمن" يبتدئ النّص كالتالي: "صانع السّيوف الذي سلخ أربعين ‏عامًا من حياته، أصابته الدّهشة بمسّ، يوم أخبرته العرّافة أنَّ ابنه "سوفوخليس" سيكون له ‏شأن العظماء في مستقبله. ‏

من عادة الرومان أن يعرفوا طوالع أبنائهم الذكور فيذهبون بهم إلى العرّافات ضمن طقوس ‏معيّنة، ففي منتصف ليلة يومه السابع، يحمل الأب ابنه الذكر إلى العرّافة لتنظر له مستقبله ‏بواسطة نجمه الذي يقول كلّ شيء عن برجه؛ ففي عُرف التنجيم أن كلّ كوكب مسؤول عن ‏نجم يُقرأ بواسطته طالع الإنسان وخفايا مستقبله". وينتهي النّص كالتالي: "في تلك اللّحظات ‏كان الكاهن يشقُّ طريقه صوب الإمبراطور ليُعلِمَهُ أنَّ الحاكم قد قَتَلَ الشّاعر "سوفوخليس" ‏وزوجته، لأنّه ضبطهما معًا في دار الحاكمية". فالنّص فيض من الحكي، والتخييل والتناص، ‏والرّمز.‏

‏ 

‏- الوعي الزائف (‏False consciousness‏)‏

قليل من التعلم والثقافة، أو احتلال مناصب الأشراف والتسيير بطريقة أو أخرى، لا يعني ذلك ‏وعيًا، بل ذلك لا يعنيه حتى لدى من أوتوا حظًا من الثقافة والعلم، لأنّ الوعي، وإن اختلف ‏الفلاسفة في تحديد مفهومه(4)، فهو يعني فيما يعنيه الانفتاح على الذّات وعلى الآخر، ‏ومحاولة إدراك مستجدّات العالم. وبالمقابل هناك الوعي الشّقي الزّائف؛ وهو المهيمن، والأكثر ‏سطوة واستحواذًا.‏

ومن العجب أنَّ السّخرية تأتي نتيجة سوء الحال والمآل، وكأنَّ الإنسان يرفض الخنوع ‏والاستسلام، كنوع من التمرُّد والاحتجاج على ما هو كائن، وأساسها التّناقضات والمفارقات ‏الحياتية، فهي المضحك المبكي أو (الكوميديا السّوداء).. والقاص عمّار الجنيدي إنْ مالَ إلى ‏السّخرية في جلّ كتاباته القصصية فذلك لأنّه إنسان عانى ويُعاني في صمت وجلد.. فوجد ‏متنفسًا؛ أنْ يسخَرَ من وضع يطوِّقه ويمنعه من الانطلاق.. كما فعل أدباء من قبله(5).‏

فالقاص الجنيدي وظّف السّخرية في أكثر من نص، إيمانًا منه أنَّ للسّخرية دورًا تأثيريًّا أكثر ‏من أيّ كلام جاد، وهو ما نلمسه في نص "أوغاد":‏

‏"كم أحبُّ مديرَ المدرسة، كم يؤثر فيّ إحساسه المرهف؛ لقد أشاح بوجهه عن المناظر ‏المروّعة التي دأبت على بثّها‎ ‎شاشات التلفزة العربيّة منذ أكثر من أسبوعين. ‏

صور ومشاهد مطوّلة تكاد لا تنتهي عن المذابح والمجازر؛ ترتكبها أميركا وإسرائيل بشكل ‏مستمر بحق الشعوب العربية في العراق وفلسطين ولبنان. ‏

لم تكن عنده القدرة على التّحديق بأكوام اللّحم المهروسة والدّماء التي تسيح في كلّ مكان ‏مختلطة بتراب الأرصفة وبقايا المنازل المهدّمة فوق رؤوس أصحابها: ‏

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.‏

شاهدتُهُ مرّة وهو يبكي الدموع الحارقة عندما وقّع العرب صكوك السَّلام مع إسرائيل، فأخذ ‏يسبّ ويلعن رداءة الزمن الذي أجبر العرب على القبول بشروط الآخر".‏

أمام هذا التأثر والانفعال، لرؤية الدماء المسفوحة والجثث المهروسة، تنتهي القصة بما يخرق ‏أفق انتظار القارئ، بسخرية لاذعة تكشف الوعي الزائف:‏

‏"دخل إلى غرفته. رفع سماعة الهاتف: ‏

ـ مرحبًا يا أم جابر.‏

ـ أهلًا، صوتك حزين ومرتبك.‏

ـ نعم يا أم جابر، فالمناظر البشعة التي شاهدتها قبل قليل‎ ‎قد حرّكت في نفسي الاشمئزاز ‏والقرف، لقد قرّرَت الإضراب عن أكل اللحم.‏

ـ وماذا تريد أن تأكل إذن.‏

ـ هل يوجد لدينا سمك!".‏

 

ـ التناص (‏Intertextuality‏)‏

التناص: ممارسة نصية عرفت في الدّرس اللّساني. عرّفته الناقدة "جوليا كريستيفا" بقولها: ‏‏"إنه ترحال للنّصوص وتداخل نصيّ ففي فضاء نص معيَّن تتقاطع وتتنافي ملفوظات عديدة ‏مقتطعة من نصوص أخرى"(6)، أو "هو ذلك التّقاطع داخل التعبير مأخوذ من نصوص ‏أخرى"(7)، وقد كانت "جوليا كريستيفا" صاحبة السّبق العلمي في تحديده كمصطلح. أمّا ‏كمفهوم، فهو قديم نجده في الّتّراث العربي بأسماء مختلفة: الاقتباس، التضمين، والسرقات ‏الأدبية، والإشارة، والتلميح(8).‏

وقد وظّف القاص عمّار الجنيدي التناص في نص "الشّاعر يدفع الثمن"؛ قصة بطلها الشّاعر ‏الإغريقي "سوفوخليس"(9)، حقًا أنَّ التناص لم يكن متطابقًا، وإنّما كان بتصرُّف أو جزئي، ‏وبخاصّة في وفاة "سوفوخليس"، فالقصة ترسم حالة المثقف، وما يعانيه من وسطه الثقافي. ‏فـ"سوفوخليس" كان شاعرًا من طبقة العوام، رومنسيًّا، كثير الوصف، ما جعل بنات الطبقة ‏العليا يتنافسن لكي يحظين ببعض شعره في وصفهنّ والتغزُّل بهنّ.. وهو الشّيء الذي أثار ‏غيرة شعراء آخرين من النّبلاء، وبخاصّة ما ناله من حظوة عند الإمبراطور.. فاستكثروا ‏عليه الشّعر، الذي كان حَكرًا على طبقة الأشراف والنّبلاء، فرغم تميّزه وفنّية شعره ومكانته.. ‏لحقه الأذى من منافسيه فدبّروا مؤامرة قتله.‏

ولقد استعان القاص بأسماء أشخاص وأمكنة ليحدّد معالم التناص، فالشخصيات: (سوفوخليس، ‏الرومان، ليليانا، الإمبراطور الروماني هدريان)، أمّا الأماكن: (ديكابوليس، شارع الأعمدة، ‏معبد أوتيليوس، عجلون، دير إليوس، عبلين، المسرح الشمالي).‏

 

ـ الوصف (‏DESCRIPTION‏)‏

الوصف، أو ما يعرف نقديًّا بالخطاب الإنشائي في القصّة القصيرة، وفي عملية الحكي عمومًا ‏له أهمية بالغة في نسج الحدث وتركيبه وإظهاره وفهمه وإيصاله، واستيعابه في نسق فنّي ‏يضفي على النّص واقعيّة من التخييل الممكن والممتع.‏

‏ 

‏ ــ وصف المظهر الخارجي للشّخصية (‏the prosography‏)‏

من نص "كذبة" نقرأ: "بقامته المديدة وجسمه النّحيل الخشن وشماغه الأحمر المتهرئ؛ وقف ‏أمام القلعة كالطود الشامخ. أحسستُ بزهوه وهو يشمخ برأسه إلى الأعلى صوب البرج المتهدِّم ‏من قمّته. تنهّد وزفر ما في صدره من هموم، وابتسامة خفيفة تشق طريقها إلى شفتيه ‏الجافتين".‏

ومثال آخر على وصف المظهر الخارجي للشخصية نجده في قصة "الديك": "أتاح له وجودها ‏معه في المصعد أن يتأمّلها على استحياء مشوب بالارتباك: ركبتان بيضاوان تنحسر عنهما ‏تنورة زهرية اللون مشروخة على الجانب الأيمن، من نفس لون القميص المنفوخ من منطقة ‏الصدر كحبتي رمان جرشيّتين. لَمح نظرات الوَلَهِ والإعجاب بشخصيّته حدّ التهوّر".‏

‏ 

ــ وصف المكان (‏topography‏)‏

من نص " كذبة" نجد ما يلي: "لم أحضر إلى هنا منذ أربعين عامًا، كل شيء هنا قد تغيّر. كل ‏شيء هنا يبدو مختلفًا، كأني بالقلعة حجمها يتناقص، كأني بها تغوص في الجبل". و"كان لهذه ‏القلعة تاريخ عظيم. لقد عاش فيها عشرات الشعراء أيام حكم المماليك، وأبشع المذابح في ‏التاريخ ارتُكبت هنا بين جدران هذه القلعة".‏

 

ـ الثنائيّة اللغويّة (‏L’inguistic duality‏)‏

أعتقد أنَّ الجمع بين لغتين في نص إبداعي سردي، حتّى وإن كانت اللّغة الثّانية مجرّد لهجة، ‏‏(‏dialict‏) أو نطق دارج عامّي محلّي، يخلق مشاكل في الفهم والاستيعاب لدى المتلقي الآخر ‏من خارج دائرة القطر الواحد، بل أحيانًا داخل القطر الواحد إذا كانت اللّهجة أو بعض ‏مفرداتها محليّة جدًا، وغير رائجة.‏

وهذه مسألة أخذت مساحة كبيرة في الجدل النّقدي بين راغب ورافض، كما نالت حظًا وافرًا ‏من النّقاش والدّراسة في علم الاجتماع اللّغوي، وكان دائمًا الإشكال هو الحوار في القصّة ‏القصيرة والرّواية.. ولم ينته الجدل إلى حلّ، وتُرِك الأمرُ لمدى حِكمة المُبدع وذكائه، وتقنيته ‏في الكتابة. ففي مجموعة (المسكوت عنهم) لعمّار الجنيدي، يأبى القاص إلا أن يوظِّف الثنائيّة ‏اللغويّة في الحوار بخاصّة، فتارة يأتي الحوار بالعربية الفصحى وتارة بلهجة عامية، وتارة ‏أخرى يزاوج بينهما.. ولكن تبقى النّصوص التي اعتمدت العربية الفصحى في الحوار مُهيمنة ‏على باقي النّصوص في المجموعة: خمسة وعشرون نصًا. بينما النّصوص التي جاء حوارها ‏باللّهجة العامية: خمسة. ومثلها النّصوص التي زاوج القاص الحوار بين الفصحى واللّهجة ‏الأردنية.‏

 

ـ تعدُّد الصّيغ (‏Plimodality‏)‏

قصص المجموعة، أو أي مجموعة قصصية لا ينبغي أن تكتب نصوصها وفق نسق موحد، ‏بل في الغالب ينبغي تعدُّد الصّيغ وأساليب الكتابة. يقول "جرار جنيت" فيما يخصّ الصّيغة، ‏هي: "اسم يطلق على أشكال الفعل المختلفة التي تستعمل لتأكيد الأمر المقصود، وللتّعبير عن ‏وجهات النّظر المختلفة التي ينظر منها إلى الوجود أو العمل"(10)، لأنّ الفكرة في حدّ ذاتها، ‏تفرض طريقة أدائها وإيصالها.. وهذا ما نلمسه في نصوص مجموعة "مسكوت عنهم". فقد ‏نوّع وعدّد القاص في صيغه القصصية:‏

‏ 

‏1 ــ صيغة الخطاب المسرود: هو خطاب يرسله المتكلم إلى المتلقي سواء كـان مباشرًا أي ‏‏(شخصيّة) أو إلى المروي له في الخطاب القصصي كالذي نجده في قصة "أوغاد" (كم أحبُّ ‏مديرَ المدرسة، كم يؤثر فيّ إحساسه المرهف؛ لقد أشاح بوجهه عن المناظر المروّعة التي ‏دأبت على بثّها‎ ‎شاشات التلفزة العربية منذ أكثر من أسبوعين...). ‏

‏2 ــ صيغة المسرود الذاتي: ويتمثل في الخطاب الذي يتكلم عنه المتكلم عن ذاته، أو عن ‏أشياء حصلت له في الماضي‎.‎‏ كالذي نجده في قصة " الكذبة": (لم أحضر إلى هنا منذ أربعين ‏عامًا، كلّ شيء هنا قد تغيّر. كلّ شيء هنا يبدو مختلفًا، كأنّي بالقلعة حجمها يتناقص، كأنّي ‏بها تغوص في الجبل).‏

‏3 ــ صيغة المنقول المباشر‎:‎‏ ويتمثل في نقل معروض مباشر، من طرف المتكلم، وهذا ‏المتكلم ليس بالمتكلم الأصلي، وينقل الكلام كما هو دون تغيير كالذي نجده في قصة، ‏‏"هرولة": (في ركن منزوٍ من القاعة الكبيرة، جلست بهدوء متحفز، جال بصرها في أرجاء ‏القاعة، كأنّما لتتأكد أنّها الأنثى الوحيدة في هذا المكان. ولمّا تأكدت، خالجها شعور بالرّهبة ‏وتسرّب إليها ضيق مقيت، خاصّة وهي ترى الحاضرين ينهبونها بنظراتهم).‏

‏4 ــ صيغة المنقول غير المباشر: وهو مثل الخطاب المنقول المباشر، لكن هناك فرق حيث ‏إنَّ المتكلم الناقل للكلام لا يحتفظ بالكلام الأصلي، فيقوم بنقله على طريقته أي بشكل خطاب ‏المسرود‎.‎‏. كالذي نجده في قصة "أبو عقيل يحرث الأرض": (تلعثم عقيل مدركًا أنَّ سنوات ‏عمره التسعة لن تقنع أباه بما سيبرر تأخره في السهر إلى ما بعد منتصف الليل، وبتلقائية ‏الأطفال عندما تحاصرهم الأسئلة المحرجة: التفّ على سؤال أبيه بجواب على سؤال آخر لم ‏يكن بحسبان أبيه).‏

وهناك صيغ أخرى تمازجت فيها الصيغ الأربع، أو بعضها، بفنيّة تغري بالقراءة والتأمل.. ‏وبخاصّة أنَّ أغلب النصوص اعتمدت الحوار طريقًا للأداء والإيصال.‏

إنَّ القاص عمّار الجنيدي في مجموعته القصصية "مسكوت عنهم" لا يسرد الأحداث حسب، ‏ولكن يجعل القارئ يستنطقها، ويغوص بحثًا وتأملًا، في أسبابها الموضوعية والذّاتية.. بل ‏تتحول القراءة إلى انشغال فلسفي، واجتماعي، وسياسي.. أساسه صيغ أدبيّة قصصيّة، تُشعر ‏بموهبة متميّزة في السّرد الأردني، تتطلّب البحث والدّراسة، وبخاصّة فيما يتعلق بالسميوتيقا ‏النّصية، وأنظمة الدّلائل التي لا تستبعد الإيحاء ودواعي التّخييل والتأمُّل.‏

 

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ القبس (حوار أجراه مؤيد أبو صبيح مع القاص)‏

‏ ‏https://alqabas.com/article/246783‎

‏(2)‏ ‏ من الحوار نفسه.‏

‏(3)‏ ‏ علوش سعيد، معجم المصطلحات الأدبية، ط1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1988، ‏ص155.‏

‏(4)‏ ‏ انظر: الوعي ــ ‏https://ar.wikipedia.org/wiki

‏(5)‏ ‏ الجاحظ في "البخلاء"، وأبوالعتاهية، والحطيئة، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، محمد ‏الماغوط، وجلال عامر، ومحمود السعدني، وأحمد مطر، وأحمد فؤاد نجم، والأديب الفلسطيني ‏إميل حبيبي، وأحمد رجب، وأحمد بهجت، وهاشم السبع، وفخري قعوار، ولطفي ملحس، ‏ومحمد طملية وموليير وتشيكوف وبرنارد شو وغوغول...‏

‏(6)‏ ‏ جوليا كريستيفا، علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2، 1997، ‏ص21‏‎.‎

‏(7)‏ ‏ ربى عبدالقادر الرباعي، البلاغة العربية وقضايا النقد المعاصر، دار جرير للنشر التوزيع، ‏الأردن، ط1، 2006، ص203‏‎.‎

‏(8)‏ ‏ انظر: دراسة عبدالفتاح داود كاك سنة 2015: "التناص دراسة نقدية في التأصيل لنشأة ‏المصطلح ومقاربته ببعض القضايا القديمة- دراسة وصفية تحليلية".‏

‏(9)‏ سوفوكليس (‏Sophocle‏) ولد حوالي سنة ‏‎496 ‎ق.م‎. ‎في أثينا‎ ‎وتوفي سنة ‏‎405 ‎ق.م‎. ‎أحد ‏أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريقية.‏

‏(10)‏ مصطفى منصوري، الصيغة السردية في النقد العربي الحديث من كتاب النقد العربي ‏المعاصر المرجع والتلقي، ملتقى في المركز الجامعي خنشلة ‏‎22/23 ‎‏ مارس 2004، ‏ص114.‏