ماء كنعان ‏

 

شعر: سلطان الزغول

شاعر أردني

 

 

 

•ابتهال أوَّل

أي "عناةُ" التي تتمايل في تشرين

يندلق شعرها فوق رؤوس الغابات

يتمدّد في السهول

أوقدي نارك في انتظار كانون

ليخرج "بعل" من غياهب "موت"‏

وينفخ ريح الأمل في الأرض العطشى

أي "عناةُ"‏

أيّتها الأمّ المرغوبة المخشيّة

أيّتها العاصفة الهادئة

تنفّسي الغياب لتزفري الحضور

تناولي من قمحنا الأثير

وأعطنا الأمل

ليشرق الربيع من جديد.‏

‏ ابتهال ثان

يا "موت" ‏

يا حاضرًا وغائبًا

يا ساكنًا وراحلًا

يا مُطلقًا

يا غاضبًا

ارفق بنا قليلًا

وهب لنا من بعلنا

غيثًا يعيد زرعنا

ماءً يجوب حقلنا

يحيي رماد أرضنا.‏

‏ ابتهال ثالث

ندهناك يا "بعلُ"‏

يا أبانا المبجّل

يا ساكن الأرواح

يا مُعمّد القلوب

سألناك أن تأتي..‏

أوقدنا نيران الحياة في انتظار عصفك البهيّ

أشعلنا حقولنا بأمل التجلّي

فهبْ لنا رؤيتك

أشعل برقنا برمحك السماويّ

لنتبتّل في انتظار مائك المُنْصَبّ ذهبًا في الأرض ونُجلّ كرمك

أعطنا لنُرضي جلالك يا ابن السماء المغطّى بالغيوم..‏

لينطلق العشب في الحقول فتيًّا يُمتّع عينيك

لتسكن الجديان إلى وديانها الخصيبة

وترقص العصافير على خرير مائك العذب.‏

‏ نشيد الخصب

ما إن نوّمتُ جديانكِ في زرائبها

وقطفتُ من الحقل محاصيلكِ الوفيرة

حتى دعوتُ بعلكِ ليفترش بقايا الفول الأخضر

ويتمتَّع بالفريك الطريّ مشويًّا على ناركِ الأليفة

أي "عناةُ"‏

يا سيّدة الجبال

يا رفيقة المتعبين

لملمي شعرك لتطلُعَ الشمس

وينضج قمحُكِ ‏

ها هو يتماوجُ بغنجٍ مع هبّاتِ هوائكِ الطريّة

وينوسُ الأمل مع دقّات قلبكِ لرؤية الأقحوان يفرشُ السهول

مع زفرات وشهقات بعلكِ المستلقي في أخضرك الغنيّ

تُحيطهُ موسيقى الينابيع وخطوُ المها الخفيف إلى الماء

يعصِمُها الفرح بالخصب

والأشجار المندلقة بالثمر الكثيف.‏

‏ لقاء بعل

حين صحا "بعلُ" يتمطّى

سألته أن يكتب سيرة الماء

أن يسكب الذكريات في عبِّ الدالية

لأرتّبها وأبني له العريش

لأظلِّلَهُ في تموز القادم

داعبَ شعر ذقنه اللامع بدهن الزيتون

وبشَّ في وجهي

ثم انطلق في السهول.‏

‏ نشيد التراب

ها هو "بعلُ" يَشْرَقُ بشعرِكِ

أيّتها الأم "عناة"‏

دعي شفتيه تطوّقان سواد الغابات الكثيف

لينفجر الأخضر يزهو بالثمر

أي "عناةُ" الدالية

أي "عناةُ" اللّوزات

أي "عناةُ" التفّاح دون عقدة الخروج

ها هي جنّتكِ على درب الينبوع

تنفجر بالثمر طريًّا طازجًا

التينات تغتسلُ بالنّدى في محيطها

والسّرو الكثيف يُزنّرها

وأنا أندهشُ من كثافة الحضور

وبراءة النرجس

وانسياب الطّير فوق رأسي

وانزلاق الدنان بين أصابع "بعل" العظيم

لتروي التراب

هذا التراب مملكتكِ

هذا التراب سكني

هذا التراب صوت المحبّة يتثنّى في حلقي

هذا التراب لي..‏

بل أنا لهُ.‏

‏ قصة المحبّة

سأحكي لكِ عن المحبّة

المحبّة فراشة تنحدرُ بفرح نحو الضوء

المحبّة سراج البصير وضوء الرّائي

حينما كشفت المحبّة الغطاء

ابتدأ فعلُ الخلق

حين سكنتُ إلى الرُّؤية

جاءتني الرُّؤى

حين حضرتِ عبر غيمك المحمّل بالغواية

داخَ "بعلُ" وأطلق رعدَه في البراري

فانكشف عن هطل ثقيل

فأجاءها المخاض تحت شجرة الجوز

وانولدَ التاريخ ناصعًا

قبل أن تلوّنَهُ الحروب والممالك

حينما كانت الطيور إخوة

وكان البوم أليفًا

قبل أن يُطوِّق السياجُ البستان.‏

‏ حِملٌ ثقيل

بعد عشاء أولمتُ لهُ فيه ضلوع القلب

أنكرني قبل صياح الدّيك

ونبذني خلف الأسوار

فرأيت "عناةَ" تجوب الحقل

ثم انتبذت كهفًا تحت التلّة

وانتظرت غيم الصُّبح يروحُ

لتُجَدِّل من ضوء الشمس الدفءَ

وتريق بريق الكلمِ على كتفيَّ

كنتُ أنوء بحملٍ ما أثقله! فدنوتُ

ثمّ تدانيتُ

وارتعش القلبُ

ومشى الحقلُ إليّ

أتعبني الصّمتُ ولم أنطق

قالت: كنْ ماء الينبوع

وتدفّق في الدحنون

واسكن نوّار اللوز

ثمّ تمايل سنبلة في سهلي

وفِضْ في الصّيف سنابل لا تنضُب

فإذا جاءك أيلولُ تنفّس عبق الغابة واسكن أخضرها

لتعود جدائل تغمُرُ خصري

فإذا انبعثت ريحٌ طرت بعيدًا

لتعود إلى الحقل شرابًا للعشب وللأزهار

صرتُ الغابة إذ بعثتني

وأنا الغابةُ والغابةُ سرّي

يا سرّ الغابة..‏

يا غابة سرّي

يا سرّ الغيم إذا حبلت بالغيم "عناةُ"‏

يا غيم "عناةَ" الناهدَ فيَّ..‏

في الحقل السحريّ

في قلب الغابة.‏

‏ نورٌ أخضر

الضّحى يملأ خصرها بالمسرّة

والنهارُ قصير

والخدود اخضرّت بتناول قربان الشجرة المباركة

بعد انتهاء تشرين..‏

في أواخر كانون

ينضجُ القربان الأخضر..‏

يغدو نورًا شرقيًّا

يكشف في الليل العتمة.‏

يعجن "موت" العتمَ ويشكّله

تخرج كائنات مخيفة

تنكمش القرى في سكون أواخر كانون

تخرج "عناةُ" بنورها الهادر

فتزيحُ العتمَ وتسأل الماء أن يسخو هذا الموسم

ليعيد تشكيل الأرض

خضراء من جديد

لتلدَ نورًا يتبعهُ نورٌ من فوقه نور

من بين الأنوار الحبلى بالآمال

جاء الشاعر يكتب للأرض قصيدتها

لكنّ الأرض قصيدة

قبل الحرف وبعد الحرف

قبل العرس الكونيّ الخالد

قبل "البعل" وبعد "عناة".‏

‏ نشيج عناة

يا "بعلُ".. يا بعلي

عُدْ لامرأتك

هذا الليل طويل موحش

انزع عنكَ الخدرَ الكونيّ

وتنفّس عبق الفجر القادم

هل تملك إلا أن تغلب "موت"؟

أن تخرج لي وإليّ؟

أن تحرث حقلي ليكون الكون؟

‏ رُجوع

أعدّي لنا المائدة

اشتقت للزيت مغمّسًا بالقمح والشعير

طال العتمُ روحي

وتُهتُ في الظلمة السفليّة طويلًا

لكنّني أعود حاملًا رمح المحبّة‏

لأكتب سيرة الماء

لأرويَ جدائلكِ الغابات

أعدّي النّار.. ها قد أتيت

وعُدّي على أصابعكِ الشاحبات ليالٍ معدودات

لأعود بالبرق فتستعيدَ ضوءها الجدائل

‏"عناةُ" الحبيبة.. ها قد أتيت‏

لن يطول الانتظار.‏