إربد: حاضنة الثقافة الموسيقية الأردنية.. عاصمة الثقافة العربية

د. صفاء حداد 

 

لم تكن إربدُ يومًا إلا حاضنة للثقافة الأردنية، ولم ينقض عصر أو تمر مرحلة، إلا وقد وثّق ‏أبناؤها في سِفر الثقافة الأردنية اسمَ إربد بحروف من ذهب. وقد تقصّدتُ هنا الاكتفاء بكلمة ‏ثقافة، دون مسايرة لأيّ من اتجاهات الفصل والوصل التي تتصدر مؤخرا بعض أحاديث الثقافة؛ ‏فغالبًا ما باتت الثقافة في بلادنا تُجيّر لصالح الأدب، ونادرًا ما تُجرّ بشق الأنفس لصالح الفنون، ‏وبعيدًا عن الخوض بهذه الجدليّة لا بدّ من الاعتراف بأنَّ الأدب هو روح الثقافة، والفن مرآتها ‏أمامَ نفسها، وصورتها وهويتها التي تُعرف من خلالها للعالم أجمع، صورتها الصادقة الناصعة، ‏التي ينأى بها الفن عن تأثيرات أي اختلاف في اللغة والعادات والتقاليد، والتباينات العرقية ‏والمجتمعية وغيرها.‏

شكّلت مدينةُ إربد، عبر تاريخها الأردني العربي المشرّف، خيرَ مثال لامتزاج متوازن ما بين الأدب ‏والفن في بوتقتها الثقافية الغنيّة، وجعلت من توأمة الشعر والموسيقى نموذجًا حقيقيًا، يؤكّد المكانة ‏الرفيعة التي حظي بها الشعر في إطار الثقافة العربية؛ وصادقت أيضا على أوّل أدوار الموسيقى ‏التي جاءت لخدمة الشعر ومرافقته في وحدة وانسجام من خلال الغناء؛ فكان منها الأديب، ‏والشاعر، ومن رحمها ولد الملحن والمغني، وفي مذكّراتها الكثير مما أنجز هؤلاء نصًا ولحنًا ‏وغناء.‏

وبرغم حداثة الدولة الأردنية بمساحتها الجغرافية الصغيرة، إلّا أن التنوع الجغرافي والسكاني الغني ‏الذي تتمتع به قد عزّز تنوع الأنماط الموسيقية الغنائية الفلكلورية في إطار الثقافة الموسيقية ‏الأردنية، فنجد للغناء الريفي ألوانه، وللغناء البدوي خصائص تميّزه، وللغناء البحري هُويته ‏ورونقه.‏

ولطالما اقترنت الثقافة الموسيقية الأردنية بالموسيقى الشعبية الأردنية والعربية، وقد كان لموقع ‏إربد على خارطة الأردن خصوصية، جعلت منها بيئة خصبة للتفاعل الثقافي والفني على ‏الصعيدين المحليّ أولا، والعربيّ ثانيًا. إنَّ في تراثها الموسيقي ما يشهد على مئة عام من عمر ‏الدولة الأردنية، وفي حاضرها ما يذكّر أنها جزء لا يتجزأ من أرض الأردن، وأنها قطعة نفيسة ‏من سهول حوران، وأنَّ من فلسطين والعراق لها أحبة وزوّار، ومنها مرور الأحبة بين هذا وذاك.‏

ولطالما كان لأهل إربد نصيبٌ من التراث الأردني الغنائي الزاخر، فقد عرف أهلها مختلفَ ألوان ‏الغناء في مناسباتهم وأفراحهم، واقترن الغناء بمختلف طقوس الفرح ووثقها؛ كما اقترن بالأعياد ‏والاحتفالات الدينية والوطنية، وأغاني العمل، واتخذت الأغنية الوطنية مكانةً مميزة في ذائقة ‏مجتمعها.‏

وكجزء من الثقافة الريفية الأردنية عرفت إربد ألوانًا من الغناء الشعبي العربي الذي اشتُهر في ‏الدول المجاورة، كغناء الدلعونا، والعتابا، والمواويل، والزّلاغيط (التي تُعرف بالمهاهاة في الأردن) ‏وما يتبعها من زغاريد، وغيرها. وقد أدت المرأة دورًا هامًا في إضفاء تنوعٍ فريد على الفلكلور ‏الغنائيّ الريفي، من خلال التراويد الريفية التي أبدعت في بنائها وأدائها والحفاظ عليها، لتغدو من ‏أبرز مقومات الاحتفال في مختلف المناسبات، فأغنتها من فكرها ومشاعرها، ووثقت فيها فخرها ‏بوطنها وعشيرتها وأهلها، فرحها وحزنها، فرددتها وأسهمت بذلك في حفظها ونقلها من جيلٍ إلى ‏جيل.‏

في إربد تقترن الموسيقى الشعبية بأشهر أنواع الرقص الشعبي وهي الدّبكة، وقد رافقت الدّبكات ‏الشّعبيّة الغناء الفلكلوري في المناسبات، وغناء الدّلعونا وزريف الطول وغيرها، وقد عرف المجتمع ‏الإربديّ تنوّعًا في الدّبكات من حيث الأداء والمرافقة الموسيقية العزفيّة، ومن هذه الدّبكات ما ‏نشأت في الشمال، ونُسبت إليه، ومنها: الشماليّة، والرّمثاويّة. كما برع العديد من أبنائها في ‏العزف على مختلف الآلات الشعبية كالربابة والشبابة أو المجوز، بالإضافة إلى الآلات الإيقاعية ‏الشعبية كالطبلة (الدّربكة).‏

من إربد.. روّاد التراث الثقافي الموسيقي الأردني

يحيلنا الحديث عن الثقافة الموسيقية الأردنية إلى الحديث عن روّاد الحركة الموسيقية، بناة ‏أرشيفها الفلكلوري، ومؤسسي نهضتها حتى عهدٍ قريب. ‏

ولعلّ من أبناء إربد من كانوا أوائل رعاة الإبداع الثقافي الشامل، الذين تجاور الإبداع الأدبي- ‏بانسجام- مع الموهبة والإبداع الموسيقي في فكرهم وذائقتهم الفذّة. ومن أبرزهم كان عقيل أبو ‏الشعر، الأديب والروائي والمؤلف الموسيقي الأردني، المولود في بلدة الحصن في محافظة إربد ‏عامَ  1890م.‏

درس عقيل في مدرسة دير اللاتين التي أُسست عام 1885، وأُرسل للدراسة في القدس، حيث ‏درَس علوم الكهنوت في مدرسة الساليزيان (الإكليريكية)، وتعلّم العزف على آلة الكمان؛ ثم ابتُعث ‏للدراسة في روما حيث نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة والموسيقى. واستطاع أن يشق طريقه ‏الموسيقي بنجاح في أوروبا، إذ اشتُهر بمؤلفاته الموسيقية ذات الروح الشرقية النابعة من بيئته ‏الأردنية، وليصبغ على قوالب التأليف الموسيقي العالمي نكهة الموسيقية الشرقية، فكان من أوائل ‏روّاد هذا الاتجاه في التأليف الموسيقي.‏

وفي الوقت الذي لم تكن تعرف فيه الموسيقى في الأردن معهدًا أو مسرحًا أو منبرًا إذاعيا، كان ‏روّاد الموسيقى وعشاقُ الغناء يجدون ضالتهم في اجتماعات بسيطة حول أحد الموهوبين ‏المعروفين، في أماكن لم تكن تتعدى غالبًا صالونات الحلاقة، حيث كان صالون فتحي الطشلي ‏في إربد أحد أبرزها إلى جانب صالون "أبو إدريس" في عمان.‏

وقد حظيت إربد ومجتمعها الذوّاق للفن، في حقبة الثلاثينيات، من القرن الماضي بانتقال ألفرد ‏سماوي (1913– 2002) للإقامة فيها، وهو موسيقي وعازف عود أردني، وأوّل من علّم العزف ‏على آلة العود في شمال الأردن. كان سماوي العازف الوحيد على الآلة المذكورة في مدينة إربد ‏عام 1935م، وقد حباهُ الله بحنجرة ذهبية ومهارة في العزف، كما تتلمذ على يديه نخبةٌ من محبّي ‏الموسيقى والغناء، من أبرزهم الفنان الأردني توفيق النّمري.‏

وفي عام 1927 شهدت إربد ولادة شاعر الربابة الفنان عبده موسى (1927- 1977) "مطرب ‏الصحراء العربية"- كما أُطلق عليه-، وقد نشأ فيها وتعلّم العزف على آلة الربابة. وفي إربد بزغت ‏موهبته الفذّة في العزف والغناء، حيث كان لحضور الموسيقى وآلة الربابة في ثقافة المجتمع الذي ‏نشأ فيه دورٌ مهمٌ في بروز هذا الاتجاه الفني لديه؛ وقد اشتُهر عبده موسى بفنّه بين أهلها قبل ‏عمله في الإذاعة.‏

وبرز كذلك عَلَمٌ أردني في الغناء والتلحين والعزف وتأليف النّصوص الغنائية، وهو الفنان توفيق ‏النمري (1922 – 2011)، ابن بلدة الحصن في محافظة إربد؛ الذي أبدع خلال‏‎ ‎مشواره‎ ‎الفني‎ ‎الطويل أغنيات تجاوزت سبعمئة‎ ‎وخمسين أغنية، وقد ارتبط‎ ‎اسمه‎ ‎بالأغنية‎ ‎الأردنية، أغنى أرشيفها ‏التراثي حتى اعتُبر‎ ‎فارسها بحق، كما قدّم العديد من الألحان لكبار المطربين الأردنيين والعرب.‏

ومن الموسيقيين الأردنيين الذين ترعرعوا في رحاب إربد، كان الموسيقي والملحن إميل حداد، الذي ‏نشأ فيها، وأحب الموسيقى، فكانت بداياته العزفيّة من خلال مشاركاته في مختلف المناسبات ‏والاحتفالات في مدينة إربد. سافر بعدها إلى القاهرة لدراسة الموسيقى فكان أوّل أردني يحصل ‏على شهادة في تخصص الموسيقى العربية، وهو أوّل معلّم لآلة القانون في الأردن؛ كما عمل ‏رئيسًا لفرقة الإذاعة والتلفزيون، وقدّم العديد من الألحان والمؤلفات الموسيقية الرائعة.‏

في إربد أحد أشهر مشاغل صناعة العود في الأردن، الذي يعود لزهدي الطشلي الذي عمل في ‏بيع الآلات الموسيقية وصيانتها، ثم احترف صناعة آلة العود في ورشة خاصة منذ عام 1987.‏

من إربد برزت على الساحة الغنائية الأردنية مجموعة من الأصوات الشابة ممن قدموا الأغنية ‏التراثية، وقدموا أروع الأغنيات الوطنية. كما تضم الحركة الموسيقية في إربد عددًا من الجمعيات ‏والفرق الموسيقية التي عُنيت بالفلكلور الأردني والغناء العربي، منها: فرقة إربد للموسيقى العربية ‏التي تأسست أواخر عام 1994، وجمعية فرقة المهابيش الأردنية في لواء المزار الشمالي، وفرقة ‏الرمثا للفلكلور الشعبي الأردني وغيرها. ‏

كان لأبناء إربد دورٌ بارزٌ في بناء الأغنية الأردنية، ومن وطنية شعرائها تغنت أروع الأغنيات، ‏ومَن أجدرُ من المرحوم وصفي التل لنتحدثَ عنه في هذا المجال؟! وهو الغنيُّ عن التعريف في ‏حضرة قيم العروبة والشهامة والوفاء، ولعلّ فيه القدوة والمثال الأصدق في الوعي بقيمة الفن ‏والموسيقى، والدراية بخصوصية دور الأغنية وأهميتها في التكوين الثقافي للمجتمع؛ فما كان- ‏رحمه الله- يتوانى عن تدعيم دور الأغنية، وتعزيز مكانة القائمين عليها، لتكون جزءًا من ‏الخطاب الوطني الأردني في مختلف الظروف، ورسالة الشعب الأردني التي تحمل  موقفه ‏الواضح الصادق في أحلك المواقف.‏

أسهم وصفي التل إلى جانب حابس باشا المجالي والشاعر حسني فريز – رحمهم الله جميعًا- في ‏كتابة واحدة من أشهر الأغنيات الوطنية وهي "تخسى يا كوبان" التي غنتها الفنانة سلوى العاص، ‏كما أبدى الحرص الشديد على اكتمال هذه الأغنية نصًا ولحنًا وغناء، وتابع إنجازها حتى ‏تسجيلها، فبقيت هذه الأغنية شاهدًا حيّا على المرحلة، ووطنية الموقف، وشجاعة الرجال. وكم ‏نحن اليوم بحاجة لمن يقتدي فيعيد للأغنية الأردنية حقها في الرعاية الحثيثة، فتستعيد عهدًا ‏نفتقده اليوم!‏

واليوم، تفتخر مدينة إربد بنخبة من أبنائها من موسيقيين عازفين ومطربين، حيث أن التوجه نحو ‏التعليم الموسيقي الأكاديمي وافتتاح المعاهد الموسيقية المتخصصة قد أسهم في الكشف عن ‏المواهب الموسيقية ودعمها. وقد كانت مدينة إربد سبّاقة في احتضان أولى بوادر هذا التطور ‏الثقافي الفني الموسيقي، يوازيه التطور الأكاديمي، حيث كانت جامعة اليرموك في إربد أولى ‏الجامعات الأردنية التي عُنيت بالثقافة والفنون، وأسهمت بدعم الحركة الثقافية والفنية الأردنية، كما ‏رفدت الحركة الفنية عامة والموسيقية خاصة بنخبة من المبدعين، فكانت أولَ جهة حكومية ‏تصدر شهادات أكاديمية بدرجة بكالوريوس في الأردن، وذلك عامَ 1981 لخريجي قسم الفنون ‏الجميلة التابع لكلية التربية والفنون آنذاك.‏

وبالتزامن مع احتفالات الجامعة بيوبيلها الفضي خلال العام الدراسي 2001/2002 تمت هيكلة ‏تخصصات الفنون الجميلة في إطار كلية الفنون الجميلة بأقسامها الأربعة: الموسيقى، والدراما، ‏والفنون التشكيلية، والتصميم. وقد واصلت الجامعة دعمها للتطوير الأكاديمي في مجال الموسيقى ‏من خلال طرحها لبرنامج الماجستير في الموسيقى بدءًا من العام الدراسي 2004/2005. كما ‏تجدر الإشارة إلى تأسيس الفرق الموسيقية التي تُعنى بمواهب الطلبة العزفية والغنائية في مختلف ‏الجامعات في إربد.‏

في إربد مواقع أثرية عريقة في تاريخها، وأخرى ساحرة في طبيعتها، لكنّها متواضعة في ‏مهرجاناتها، والحقيقة أننا بحاجة لإتاحة الفرصة المناسبة لأن يقوم الفن والموسيقى بدورهما ‏الحقيقي، الذي قُدّر للفن أن يقوم به ليؤدي رسالته الحقيقية السامية؛ وعلينا الاعتراف بأهمية ‏تعزيز تلك المهرجانات ودورها في التعريف بالمواقع الأثرية والتاريخية والطبيعية الرائعة في إربد، ‏من خلال تخصيصها بمهرجانات سنوية تأخذ أولويتها وضمان ديمومتها في صفحات التقويم ‏الثقافي السنوي في الأردن.‏

قبل اختيارها عاصمةً الثقافة العربية، فقد استحقت إربد بتاريخها العريق، وبمؤسساتها الثقافية ‏المتعددة وسيرة أبنائها الأدبية والاجتماعية والفنية، أن تكون أولَ عاصمة للثقافة الأردنية عام ‏‏2007. ولا بدَّ أن نكون واقعيين في الحديث عن الحركة الثقافية الموسيقية في إربد اليوم، وأن ‏نعترف بأنَّ تباطؤ عجلة النشاط الموسيقي قد حوّرت من صورتها وأخذت بها إلى منحى أكثر ‏تقليدية، وباتت صورتها تقترن بالتراث على حساب التجديد والابتكار، وكأنَّ الزمنَ الثقافيّ ‏الموسيقي في إربد قد توقف بها وبروادها عند حدٍّ.‏

وكم تسعدنا كل تلك المرجعيات التي نفتخر بها وبمؤلفيها، ممن قضوا شهورًا وسنينَ في البحث ‏والجمع والتوثيق، فنجد تاريخ إربد حاضراً بأدق تفاصيله التاريخية والجغرافية. وكم تغتني تلك ‏المرجعيات ببيانات تتناول التكوين السكاني بأدق التفاصيل، والتعليم والزراعة والتجارة وغيرها؛ ثم ‏يظهر الفصل الثقافي خجولًا بين كل تلك الصفحات، ليضعنا أخيرًا أمام غياب التوثيق الشامل ‏للحياة الثقافية والفنية والموسيقية، يبرره الأسف بسبب ندرة ما توافر في الأرشيف هنا، أو التعذّر ‏بانتساب جلّ الثقافة الموسيقية اليوم إلى النمط الفلكلوري، وغيرها من المبررات هناك.‏

وبناءً على ما سبق، فإنه لا بدَّ من الاعتراف بالحاجة الملحة للاهتمام بالتراث الثقافي العام، ‏والبحث في الموروث الموسيقي في إربد وتوثيقه؛ وهو ما تنبّهت إليه وزارة الثقافة مشكورة، حيث ‏أطلقت مؤخرا وبالتعاون مع اليونسكو مشروع حصر التراث غير المادي في إربد؛ وفي ذلك تأكيد ‏على أن اختيار إربد لتكون عاصمة للثقافة العربية اليوم لن يكون مجرد مرحلة، وإنما خطوة واثقة ‏نحو توثيقٍ للتراث الثقافي بمختلف أوجهه، وتأسيسٍ لديمومة العمل الثقافي والفني، وتعزيز مختلف ‏أشكال الأنشطة الثقافية الأدبية والفنية فيها، لتبقى إربد حاضنةً للثقافة الأردنية العربية الأصيلة.‏