محمود المطلق أحد الشعراء المنسيين

‏"مُدافعًا عن الحرية وكرامة الإنسان"‏

ذكريات حرب                                             ‏

في مدن كثيرة لا تُشبهنا، تحتضن مبدعيها ومفكريها، وتُظلل شعراءها وكُتابها. وفي كنفها، يتوسد المريض، ‏ويستند في جناحها المتعثر.. وعند انطفاء جذوتهم، تُلملم أعمالهم، وتُنقب عن إنتاجاتهم المتبعثرة هنا وهناك، ‏لحراستها؛ فهم هُويتها الثقافية، ومَعالمها الحضارية، فترتقي  بإرثها الزاخر في هؤلاء الخلّاقين الذين منحوها ‏العظمة والسيادة في العالم..‏

في مدن كثيرة لا تُشبهنا، تحرص الجهات المعنية المتمثلة بالوزارات الثقافية والمجالس العلمية على صون هذه ‏الموروثات، ورعايتها كما يليق بها، فتطلق أسماء صانعي مجدها على متاحف، أو مراكز أبحاث، أو كراسي ‏جامعات... وغيرها؛ لتحفظ ذكراهم، وتُخلد عطاءاتهم، بوصفهم وتدًا وطنيًا ثقافيًا.. ‏

‏ في بلاد تُشبهنا، هناك المنسيون بإنتاجاتهم الممهورة بتعبهم وكدّهم واجتهاداتهم، وأعمالهم التي فُقدت، إمّا بسبب ‏الإهمال بقصد أو من غير قصد، أو ضياعها بين جهات لا مبالية  بقيمة هذه الثروة الأدبية..‏

‏ الشاعر محمود المطلق أحد هؤلاء المنسيين..‏

 

ولِد الشاعر محمود المطلق قناة في أرابيلا - إربد عام 1918، بعد أنّ اتجه والده إليها قادمًا من درعا - كان ‏شمال الأردن المعاصر يتبع منطقة حوران - بصفته موظفًا عثمانيًا في بداية العقد الثاني من القرن العشرين ‏المنصرم 1914، وتنقلّت العائلة بين إربد والمزار الشمالي في مواسم الحصاد حتى استقرت في أرابيلا لأسباب ‏معيشية، وتوافر المدرسة لأبنائها. (ما زالت أجزاء من البيت قائمة في منطقة تل إربد – شارع علي خلقي ‏الشرايري).‏

التحق محمود المطلق بمدرسة الحصن، ثم ارتحل إلى ثانوية السلط، وحصد المرتبة الأولى بتفوقه عام 1939م. ‏وأوردت ابنة أخيه الدكتورة عيدة مصطفى المطلق في ندوة (أوراق الروّاد) التي عقدها كرسي عرار للدّراسات ‏الثقافية والأدبية في جامعة اليرموك ما رواه لها في عدم إرساله في بعثة خارجية لاستكمال تعليمه كما جرت ‏العادة المتعارف عليها في الإدارة الأردنية مع الأوائل والمتفوقين، وقال: "في تلك السنة، كانت الحكومة الأردنية ‏تعاني من صعوبات جمّة، ولمّا تخرج خمسة وعشرون طالبًا من مدرسة السلط عام 1938، أرسلت الوزارة ‏الثلاثة الأوائل دفعة واحدة وهم (خليل السالم، حمد الفرحان، وصفي التل) وفي العام الذي يليه، والذي تخرجت ‏فيه، كان المقعد مشغولًا من قِبلهم..". ‏

بعد حصوله على الشهادة الثانوية عُيّن في ديوان وزارة المعارف الأردنية مُعلِمًا بين مدارس السلط والحصن وإربد ‏والعقبة وكفرنجة... وغيرها؛ ثم مديرًا في مدرسة الحصن. وما لبث أن استقال من الوظيفة إثر إشكالية مع ناظر ‏المعارف (سمير الرفاعي) في ذاك الوقت، فتحوّلَ إلى كلية الحقوق في دمشق، إلّا أنّه قفل عائدًا بعد مرور عام ‏على دراسته بعد تعرضه إلى إهانة من قبل جندي سنغالي من جنود المستعمر الفرنسي المتواجد في بلاد الشام ‏حينها.‏

حظي الشاعر محمود على إجازة مزاولة مهنة المحاماة بتفوق بعد خضوعه للامتحان الذي أعلنت عنه وزارة ‏العدل للراغبين فيها، وافتتح عدة مكاتب في إربد، وعجلون، وعمان الذي اشترك فيه مع الشاعر مصطفى وهبي ‏التل – عرار الذي ترك المكتب لالتحاقه بوظيفة عامة، إلّا أنّ العلاقة توطدّت بينهما حتى رحيل الأخير إلى ‏مثواه الأخير عام 1949.‏

‏(أم صخر): محمود شاعر بالفطرة.. ومحامٍ لم يخسر قضيةً قط

تزوج محمود مطلق من ليلى الروسان التي تسترجع الحدث قائلة: "نمت العلاقة بين والدي أحمد سودي الروسان ‏‏- شيخ لواء الشمال- الذي كان منفيًا من الجيش البريطاني، ومحمود الذي كان يعمل بالتدريس في العقبة، ‏ويقضيان معظم الوقت عند المختار مع عدد كبير من الأصدقاء، وقد خصّه والدي بالرعاية والمحبة، مُستمتعًا ‏بوقته معه، وعندما وصل إلى والدي خبر ولادة أختي، طلب إليه أنّ يسمّيها، فقال له: (طلقة)، فسأله عن ‏السبب، قال: أُطلقت بالأمس أول طلقة في حيفا ويافا.. ولمّا ولدتُ في 1943 أعاد والدي الكرّة، وطلب إليه أنّ ‏ينتقي اسمًا، فاختار (ليلى)، لأنني ولِدتُ ليلًا. ‏

من جانب آخر، كانت علاقته مع أخي زهير الذي لجأ إليه في القضية التي واجهته مع الجمرك قوية وطيبة، ‏وعندما انتهت القضية، دعاه أخي إلى الغداء، وفي الطريق أخبره أنّه يبحث عن زوجة، فعرض عليه أختي، ‏فحسما أمرهما لزيارة بيت خالتي التي كنا نقيم عندها، وحينما رآني وأنا أقدم له القهوة، قرّر أنّ يتزوجني. وافقت ‏دون تردد، فقد أحببته منذ النظرة الأولى. تزوجنا  في 1954، وأنجبنا؛ صخر، زهير، وائل، عمّار، وابنتي ‏سلمى التي رحلت قبل عشر سنوات. كان محمود يكتب شعرًا شعبيًا يخاطب الإنسان باللغة العربية، كما كان ‏صديقه (عرار) حاملًا الهم الوطني، وقدّ عُرِف عنه غزارة  الشعر، وعذوبة الكلام، وجمال الوصف، وحملت ‏معظم قصائده لمسات إنسانية عميقة، والهم القومي والوطني، كان يعشق الطبيعة، ويسترسل في وصف كل ‏جميل تراه عيناه، وينقلها في الوريقات الكثيرة التي  يحتفظ بها، وكان يُدوّن كلَّ شيء في حياته، ويجيد العزف ‏على الربابة، فقد سمع المطربة سميرة توفيق تغني (شيلوا احبابنا شيلوا..) فأعجبه اللحن وكتب قصيدة طويلة ‏ومنها: ‏

‏   كفّ عن شدوه البلبلُ                                            وانقضى عهده الأولُ          ‏

ومضى في دروب النوى                                              هائمًا تائهًا يسألُ

ما لأحبابنا نقضوا عهدهم                                     وعدُوا وما أنجزوا وعدهم

شيّلوا قبلما نحتسي شهدهم                                       وابتهلنا إلى الله لا رُدهم  ‏

وعلى المستوى الوظيفي، بقي محتفظًا بمهنة المحاماة التي عشقها ثلاثين عامًا، ولم يتخلَ عن الضعفاء، ولم ‏يكن يهنأ إلّا بعد استرداد حقوق الناس إليهم. أذكر أنّ "محمود" لم يخسر قضيةً قط، وفي عامَ 1976 رحل ‏بسرطان رئوي، لنفقدَ أجمل الناس.."‏

نضاله السياسي.. وحياته العملية‏

دخل الشاعر محمود المطلق المعترك السياسي ناشطًا ومناضلًا، مُدافعًا عن الحرية وكرامة الإنسان، وشارك ‏شفيق إرشيدات وضيف الله الحمود في إصدار صحيفة الميثاق التي أُلغي ترخيصها في 1957 (حل الأحزاب ‏وإعلان حالة الطوارئ في البلاد)، وعُرِف بأشعاره وكتاباته عندما نشر قصيدته (في الحلم) في العدد الأول في ‏صحيفة (الرائد) 20 – 6 – 1945:  ‏

‏     يا رُبَّ ظَبيٍ قد حظيتُ به               عيناه من يأسٍ ومن أملِ

‏     في ليلةٍ رقص السرورُ بها                ثَمِلًا على الأفواه والمقلِ

‏      قلت: الوفاءُ فإنني لَغب                  والدَّينُ أضحى فائتَ الأجلِ

‏     قال: اتَئد يكفي على مهلٍ               فالخيرُ كلُّ الخيرِ في المهَلِ

‏       قلتُ: اغتفر فالبرُّ أطيبه                 ما كان مبذولًا على عجلِ

‏      إنَّي لعمرك جدُّ مضطرمٍ                 وبغير عطفِك ضيّقُ الحِيَلِ

 

 

ويستكمل القصيدة قائلًا:‏

‏   فالجسمُ من لقياك مرتعشٌ               والنفسُ من ذكراك في شُغُلِ

وفراقُك المقدورُ أورثني                         مللًا على مللٍ على مللِ

إنيَّ ومن أهوى على جَمَلٍ                      والسقمُ حلَّ بذلك الجملِ

وأنا ومن أهوى على جبلٍ                      نشتو وما زلنا على جبلِ

رُحماك ربّي لا أُجنُّ به                        إنَّي لغادٍ منه في خَبلِ  ‏

ترشح للانتخابات النيابية في 1954، ولم يحالفه الحظ بسبب نشاطاته السياسية، وتم اعتقاله أكثر من مرة بتهمة ‏الانتماء للحزب الشيوعي، وتنقل بين سجون الأردن عدة مرات، واضطر في آخر الأمر اللجوء إلى دمشق في ‏خمسينيات القرن الماضي، مع شفيق ارشيدات، وصالح الدلقموني، ونذير رشيد، وعلي الحياري، وغيرهم...؛ ‏وخلال السنوات السبع التي قضاها (أبو صخر) في سورية، عمل محررًا في إحدى الصحف السورية. ‏

عندما شكّل وصفي التل حكومته الأولى أصدر قرار عفو عن السياسيين والمنفيين، وأرسل أخاه (مريود) ليأتيَ ‏بمحمود وعائلته من الشام. وعند وصولهم إلى الرمثا، تم اعتقاله، والتحقيق معه، وسجنه، ولمّا زاره وصفي التل، ‏انتهى الأمر بخروج محمود حرًا.‏

أعاد محمود افتتاح مكتب المحاماة في إربد، ونابلس، وعمان، وواظب على الكتابة  الشعرية  والمقالات، رافضًا ‏عددًا من المناصب الرفيعة التي عرضها وصفي التل عليه في وزارته مثل؛ (رئيس محكمة التمييز) مُعلِلًا: "لا ‏أطيق أنّ يمر يوم أضطر فيه لتنفيذ قانون غير دستوري، أو الخضوع لأمر أو توجيه لا يتوافق مع مبادئي ‏وقناعاتي.." أو (مدير عام للمطبوعات والنشر) أو (مدير الإذاعة) قائلًا: "إنّها وظيفة لمن يقبل أنّ يكون مِقصًا ‏أو ساطورًا يقطع كلمة غاضبة هنا أو هناك، أو فكرة مرفوضة، فهم يريدون مني أنّ أكون مِقصًا أو جلادًا ‏للكلمة، وسجانًا للحرية، ومحرقة للكتب."‏