الرّق والحرّية في رواية (فستق عَبيد) لسميحة خريس

‏*سلام أمين رحال‏

‏* باحثة وكاتبة أردنية.‏

المقدمة

يُعدُّ الرّق من أبرز القضايا التي نشأت قديمًا تحتَ أسبابٍ سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، تتناول فئةً ‏معينة من المجتمع استُضعِفت في الأرض، وهو أحد تركات الاستعمار الذي ظهر لدى المُستعمَرات ‏كخدمة إلزاميّةٍ يقدمها العبدُ بشكل قسريّ لسيدِه، تَطمَحُ إلى إذلال هذه الفئة من الناس وتحوّل حياتهم ‏إلى عمل بلا أجر، وقد ظهرت صور متعددة للعبودية تسلب من الإنسان حريته، بل قد تحوّل الأمرَ ‏إلى معاملة العبيد كالبضائع والسّلع من أجل المتاجرةِ بهم واستغلالهم، ليصبح العبدُ فيما بعد ملكًا ‏لسيّده.‏

إنَّ فرضَ الهيمنةِ الَّتي مارستها الدول الإمبرياليّة تجاه الدول المستضعفة أدى إلى استغلالها ‏واستعبادها؛ لذلك ظهر نقد (ما بعد الاستعمار) الذي يقوم على دراسة آداب المُستَعمَرات، فهي اتَّخذَت ‏من الكتابة وسيلةً من أجل تشكيل نقد مقاوِمٍ تَرُدُّ به على الدول الإمبرياليَّة وتدافع عن نفسِها، وهو نقد ‏يقوم على تحليل الخطاب وقراءته بطريقة مختلفة؛ من أجل الكشف عن معانيه المضمرة، وبيان لغة ‏القوّة والإخضاع فيه، لمناهضة هذا الفعل الدكتاتوري.‏

وعليه فقد تناولت الدّراسة رواية (فستق عبيد) للأديبة سميحة خريس نموذجًا للتحليل، وهي روايةٌ ‏موضوعُها الرّق في السّودان، من خلال تقديم حكايةٍ أو حَبكةٍ روائيَّة تكشف بعض ما تعرضَّت له ‏الأُسَر السّودانية من استرقاق في حِقبة الاستعمار، وأتاحت الرّواية حيّزًا لأولئك المستعبَدين؛ لإيضاح  ‏الطرق المتنوّعة التي وقعوا من خلالها في العبودية.‏

أولًا: الاستلاب:‏

على الرغم من الالتباس الذي أثاره المصطلح إلّا أن المقصود بالاستلاب هو: "وصف فعل الإقصاء أو حالة ‏الإبعاد... لوصف عملية نقل ملكية أي شيء من طرف إلى آخر، خاصة نقل حقوق أو ممتلكات أو أموال"(‏ ‏)، ‏فإنَّ خلع الإنسان عن وطنه، وتغريبه عنه يسهل مَهمّة التوسُّع على المُستَعمِر.‏

‏1-الاستلاب الروحي:‏

يظهر الاستلاب الروحي في الرواية بشكل يوضح كيفية سقوط الإنسان في العبودية، وتحديدا هذا ما حدث مع ‏الجد (كامونقة) حينما أراد الهرب من محاولة الاتجار به؛ عن طريق القفز فوق سور مزجّج فقال: "هناك اكتشفت ‏وضاعتي، روضوني وكسروا زهوي، في غفلة عن نفسي والدنيا، بت عبدًا"(‏ ‏)؛ إذ وصف أنه لا يملك أي قدرة على ‏اختيار مصيره بنفسه فهو دون سابق إنذار بات عبدًا بل هو يعكس حالة من الخضوع والامتثال التام، والانصياع ‏لكل ما يتعرض له من ذل.‏

وظهر هذا الجانب لدى حفيد الخادمة (آوا)، قائلًا: "عبد يكتسب قوة خفية من انصياع سيده لملذاته"(‏ ‏) فهو يرى ‏بأنّه يكتسب قوته من حاجة السيد له وتلبية ملذاته، أي أنه يشعر بفائدته وذاتيته في هذا العمل بناء على حاجة ‏سيّده له، لكنه سرعان ما اكتشف العقلية الاستعمارية في سيده؛ ثم حاول التخلص من هذا الامتثال فقال: " كأني ‏أبحث عن منفى مؤقت ألتقط فيه أنفاسي وأحرّر جسدي المكبل كما روحي"(‏ ‏).‏

‏2- الاستلاب الاقتصادي:‏

نلاحظ في الرواية هذا التماهي بين الاستلاب الاقتصادي وفخ العبودية؛ لأنَّ حاجة الإنسان الملحَّة إلى توفير ‏أولوياته الأساسية تجبره على أن يترك استقلاله ويذهب باتجاه العبودية، وتقديم نفسه مقابل أمور زهيدة تبقيه حيّا،  ‏فقد قال (سارماغو) عن  قضية إلغاء العبودية: " كما أعود ببعض الرقيق رغم صدور قانون يمنع الرق ويستبدله ‏بما يسمونه العمل بالسخرة وبموافقة العامل"(‏ ‏)، وهو صورة أخرى للرق أو بالأحرى هو رق بمسمى مختلف، من ‏خلال " الاغتراب عن ناتج العمل، الاغتراب عن العمل ذاته" (‏ ‏)، وإن مثل هذا النوع  تطرق إليه كارل ماركس ‏في حديثه عن مخاطر الرأسمالية؛ إذ يشير إلى أن العامِل يَعمَلُ أكثَرَ من اللازم، ويتقاضى أقل من المفروض، ‏‏"ويقتني بذلك وسائل المعيشة الضرورية للحفاظ على نفسه"(‏ ‏).‏

‎3‎‏- الاستلاب الدينيّ:‏

عبَّرت الرواية عن موقف المُستَبِد في اتخاذه الدّين وسيلة ذرائعية من أجل السيطرة على أذهان النَّاس وكسب ‏ولائهم، وتمظهر هذا الاستلاب في الرواية من خلال استثمار الدين لمصلحة المُستَعمِر أو القُطب المهيمِن بشكل ‏أعم، من خلال فصل الإنسان عن فكره، وتعطيل دور العقل وتغييبه، ويحدث ذلك عندما يقتنع المؤمن بأن كل ‏ما يدور حوله ما هو إلا من شدَّة إيمانه، فيرضى بالظلم والقهر والجوع، على أن هذه أمور تعد سبيلًا إلى الجنَّة.‏

‏ وعليه فإنَّ هذا الخطاب الديني يحتوي على نسق يسعى نحو إخضاع الناس بشكل يضمن تشكيل أتباع كثر ‏يلبون رغبة جهة معينة، وظهر ذلك في الرواية حينما قال الخليفة لتاجر السمسم (التيجاني): "الجنة للفقراء"(‏ ‏)، إذ ‏نلاحظ  في كلامه خطابًا نقيضًا يكشف لنا بنيات القوة، بل هي طريقة استثمر بها الدين من أجل فرض سيطرته ‏على العبيد؛ ليقنعهم بأنَّ الفقر هو سمة لأصحاب الجنة، وهذه الطريقة تضمن للمُهيَمِن سيطرته مقابل تقبُّل ‏الآخر للهزيمة التي يعيشها على أنها تحمل خيرًا له فيما بعد.‏

‏4- الاستلاب العسكري:‏

يكتسب الحديث عن الاستلاب ذكر أنواع أخرى، ونقف هنا عند الاستلاب العسكري الذي ظهر من خلال نتائج ‏سلوكية للتحرر من عبء الاغتراب كان متمثلًا في نشاطات تهدف إلى تغيير المجتمع بالإصلاح أو التمرد، ‏ولعلَّ هذا المفهوم ما هو إلا انتقال الإنسان من سلطة إمبريالية مباشرة إلى أخرى بمسميات تضليلية تحمل ‏شعارات أخرى.‏

إننا في حديثنا عن الاستلاب العسكري نتناول (كامونقة) الذي حاول جاهدًا أن يلتحق بالجيش هربًا من حياة ‏العبيد، فقال: "ركبني عفريت اسمه الجهاد، وأنا ما عرفت قبل النوم أنَّ علي أن أجاهد جنديًا؛ أقتل الإنجليز أو ‏المصريين، وأسلِّم بالكامل للخليفة المهدي"(‏ ‏)، وهنا نلاحظ انتقال سلطة العبد  من سيده  تاجر السمسم إلى ‏الخليفة (النجومي)؛ فكان يسعى إلى أن يحصل على الحرية مع زوجته (اللمون)، فقال: "سأذهب وإيّاها إلى ‏المعسكر وسيتم إعلاننا رجل وامرأة حرّين"(‏ ‏)، وهو يرى في انضمامه العسكري وسيلة أخيرة تقدم له الحرية التي ‏يحلم بها، فإن" مبدأ الامتلاك يقود حتما إلى الملل والقرف، وبالتالي إلى إشعال فتيل الطاقة الهدامة في الإنسان ‏على شكل حروب"(‏ ‏)، وعليه فإن التحرّر قد  يضمِرُ تبعية بارزة بمسمّيات مختلفة، وهذا ما يشكّل الخيال والوهم ‏بالحرية الذي يؤدي بدوره إلى التنفيس، وعدم تشكيل قوّة مضادّة لكل ما هو إمبريالي.‏

ثانيا: صور العبودية:‏

إنَّ تواطؤ القوى الاستعمارية قد اعتمد في تشكُّله على أساليبٍ متشعّبة من أنواع الاستلاب؛ إذ مورِسَت العبودية ‏في شتى أشكالها التي تتجه مباشرة نحو التفرقة العنصرية، وفي هذا السياق تعدَّدت صورها وتسمياتها مما له ‏علاقة بتقييد حرية الفرد، ومنها: "  العمل القسري،‎ ‎والزواج القسري، وبيع الأطفال والنساء أو استغلالهم، وعبودية ‏الدّين، والاتجار بالبشر، وهي أشكال منتشرة في إطار العولمة الاقتصادية"(‏ ‏)، ونتوقف بما سيأتي أمام تمثيل ‏بعض هذه الصور في رواية (فستق عبيد).‏

‏1-عبودية اللون:‏

سلَّطت سميحة خريس الضوء على قضية الَّلون؛ انطلاقًا من بيئة روايتها السودانية المرتبطة بشخصيات من ‏ذوي البشرة السوداء؛ وذلك لأنَّ السود قد تعرضوا إلى الفصل العنصري "الأبارتايت"(‏ ‏)، تتمثل في فكرة غير ‏إنسانية وهي أنَّ الأبيض هو اللون الطبيعي، والأسود هو الشاذ، قد أوضح الكاتب النيجيري (ريمي كابو) أصل ‏هذا التمييز، في قوله: "عندما حدثت العبودية وُجد نمط يعتبر الأسود جنسًا إفريقيًا أدنى يُنظر إليه بوصفه أقلَّ ‏ذكاء، بينما الرجل الأبيض يُنظر إليه باعتباره أسمى"(‏ ‏)، ولذك كان هذا الفصل العرقي واللوني موجودًا بشكل ‏كبير؛ لأنه يوضح تلك النظرة العامة التي يرسّخها الرّجال البيض (المستَعمِرون) تجاه ذوي البشرة السَّوداء ‏‏(المُستَعمَرون).‏

‏2- العبودية الجنسية:‏

ظهرت مشاهد الهيمنة الذكورية ضد النساء؛ بل إن المسألة وصلت إلى حد المتاجرة بهنَّ، إذ كشفت الرواية ‏مجموعة من الممارسات اللاحقوقية المتخذة ضد النّساء التي يشكلها الرّجل، فأشار عبد الله الغذامي إلى الهيمنة ‏الذكورية في هذا السياق:" ولكن الثقافة بوصفها صناعة بشرية (ذكورية)" تبخس المرأة حقها ذاك وتليها إلى كائن ‏ثقافي مستلب"(‏ ‏)، وهذا ما ظهر في الرواية من ممارسات تسلب حق المرأة، خاصة تلك الموجودة في سوق ‏النخاسة: "قلّب البائع امرأة في مقتبل الكهولة رافعا الغطاء عن صدرها وردفيها وسترها مجددا في طرفة عين"(‏ ‏)، ‏فهذا المشهد يتحدث عن بائع يربطه بالمرأة ثمنها، فإن المُجتَمع الذكوري قد مارس الاستعمار الجندري على ‏النساء، "ولقد حدث أن المؤسسة الثقافية الذكورية ازدادت قوة واتساعًا مع نشوء المقاومة النسوية لها؛ لأنَّ الأخيرة ‏تستمد وسائلها من خطاب الهيمنة ذاته"(‏ ‏)، فإنَّ ظهور مقاومة تجاه أي قطب إمبريالي يضاعف القوة المهيمنة ‏التي تتطلب تعزيز جانب المقاومة بشكل فعال يتماهى مع أفكار المُستَعمِر الإمبريالية.‏

‏3- عبودية العَمَل:‏

تتجلَّى عبودية العَمَل في إخضاع البشر والسيطرة عليهم، وعدم منحهم حقوقهم الّتي تترتب على الجُهد الإنساني ‏في عمله المَبذول، وقد" ظهرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين هجمة مفترسة من المصطلحات التي تم ‏ترويجها في الخطاب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي"(‏ ‏).‏

ومن المشاهد التي تعكس مظاهر عبودية العمل هو مشهد (رحمة)؛ فعندما أخذتها الخادمة (آوا) لتعلمها نظام  ‏العمل في البيت، فتقول رحمة: " تشرح لي نظام البيت الكبير الذي يرتكز على تقديم خدمات متواصلة للسيد ‏والسيدة، كما تشرح نظام الحقل وجني العنب وعصره وتعبئته في البراميل"(‏ ‏)، ومن الواضح أنَّ التاجر  يشتري ‏عبيدًا يُستغلّون في العمل القسري مقابل المأوى والمأكل، فهذه العقلية الاستعمارية  تسعى إلى إشغال الإنسان ‏بمتطلبات حياته الأساسية حتى ينسى أمر عبوديته: "إنَّ علينا أن لا نضيع وقتنا في ترديد ذلك الشعار القائل بأن ‏الجوع مع الكرامة خير من الخبز مع العبودية. فإنّما يجب أن نقتنع بأن الاستعمار عاجز عن أن يوفر للشعوب ‏المستعمَرة الظّروف المادّية التي يمكن أن تنسيها اهتمامها بالكرامة"(‏ ‏).‏

تتحدث رواية( فستق عبيد) عن القسوة التي تسلكها سيدة القصر (كارولينا) مع الخدم أو العبيد، بتناولها فكرة ‏اضطهاد المرأة على المرأة، فتسرد الخادمة (آوا)، قائلة:"إذا تأخرت أوريانا عن مائدة الافطار، وإذا تبقَّعت الملعقة ‏الفضية بسمرة خفيفة، أو وقعت قطرة ماء على شرشف الدانتيلا المخرم، كل شيء، أي أمر، مهما صغر يمكن ‏أن يكون مقدمة لانفجار غضبها في وجهي أو وجه زوجها"(‏ ‏)، فإنّ السيدة تُعدُّ أنموذجًا مصغرًا للإقرار السلطوي ‏الذي يحاول أن يتملّك الآخر ويفرض سلطته، وتقتضي عبودية العمل القسري أن يتلقى العَبد أقسى العقوبات، ‏ومعاملته بطريقة خالية من الإنسانية.‏

ثالثا: اللغة السردية:‏

اللغة هي البنية الأساسية في كل عمل أدبي من منظور عام؛ وهي ركيزة مهمة يستند عليها النص ليتشكل البناء ‏الفني من حبكة، ووصف، وسرد، وتصوير للأحداث، فإنَّ " اللغة في الكتابة الروائية هي كل شيء؛ هي أساس ‏العمل الروائي؛ وهي مادة بنائه : إذا نزَعتها، أو نزعت شيئًا منها، هار البناءُ، وتهاوت أركانه شظايا"(‏ ‏)؛ إذ ‏تتمتع اللغة بأهمية كبيرة داخل العمل الإبداعي، لكسب النص الأدبي فرديته.‏

‏1- اللغة الإخبارية:‏

يقصد بها اللغة التقريرية المتمركزة حول الإخبار،" وهو ما يقابل الخبر في كلام العرب حينما نقسمه إلى إنشاء ‏وخبر"(‏ ‏) التي تهدف إلى نقل الحدث بلا أي طريقة فنية، هي" نقل وسرد الأحداث دون تعميق أو تفسير ‏واضح"(‏ ‏)، ومثال على توظيفها في الرواية:‏

‏"فقد تمكن أنصار المهدي من السيطرة على الخرطوم ودحروا الإنجليز والمصريين وحكموا الدنيا التي يعرفها على ‏أرض السودان، وراح الناس من كل القبائل والجهات يقدمون ولاءهم للمهدي الذي أنقذهم"(‏ ‏)، إذ نلاحظ الأسلوب ‏التقريري الخالي من الثيمات الفنية والروائية، بل هو كلام خبري بحت يرشدنا إلى حال السودان بعد انتصار ‏أنصار المهدي على الجيوش البريطانية، والمصرية وتقليدهم سياسة الحكم.‏

ومن الجدير بالذكر أنَّ عمل سميحة خريس في مجال الصحافة قد ترك أثرًا كبيرًا في اكتسابها لهذه المهارة في ‏توظيف اللغة الصحفية داخل أعمالها الروائية، التي أكسبتها صبغة ثقافية محملة بالعديد من الأحداث السياسية ‏المتعلقة بأقاليم عدة منها السودان، ومثال ذلك: ‏

‏" أنجز المهدي الأول فتوحاته العظيمة ووطد أركانه في البقعة وضم الخرطوم وقطع رأس مبعوث بريطانيا ‏العظمى ((غوردن))"(‏ ‏)، إذ بات من الواضح أن اللغة الصحفية ترتكز على مهمة نقل الخبر دون المحاولة في ‏استظهار قدرة الكاتب الجمالية بالاستغناء عن الأساليب البلاغية الفنية.‏

‏2- جدل الفصيحة والعامية:‏

لقد ظهرت ازدواجية اللغة في الرواية من خلال حضور اللغة الفصيحة المتمثلة باللغة الشعرية والصحفية مع ‏اقترانها بالعامية، وهذا التوظيف العامي في الرواية لا يقلل من قيمة النص الإبداعي، وإنما هو محاولة لتوافق ‏الشخصية مع الحوار؛ وذلك لأن اللغة تعبّر عن مكانة الشخصية وحيثياتها الاجتماعية، "والحق أن مسألة ‏المستويات اللغوية داخل العمل السردي تعني، في المذهب النقدي المتسامح، أن الكاتب الروائي عليه أن ‏يستعمل جملة من المستويات اللغوية التي تناسب أوضاع الشخصيات الثقافية والاجتماعية والفكرية"(‏ ‏)، فإن ‏اختلاف طبقات الشخصيات هو أمر يلزم الكاتب أن ينوع في أساليبه الحوارية؛ لإيصال القضية المرجوة من ‏الرواية بشكلها الأنسب.‏

عكست العامية في الرواية (فستق عبيد) دور الشخصيات في حوارها بينها؛ كي تتناسب وطبيعة حياتهم، وإن هذا ‏التمازج اللغوي كان له دور في تقريب العدسة نحو هموم الناس وحياتهم الواقعية المشحونة بمقابلات ضدية ‏وصراعات مستمرة، بل إنَّ الكاتبة سميحة خريس قد  أخذت بعين الاعتبار فردية الشخصية بما يتناسب معها؛ ‏لتدخل في صلب الحياة الإفريقية، الأمر الذي يمكّنها من تصوير معاناتهم بأفضل صورة ممكنة؛ لتتحدث عن ‏ثالوث العرق والطبقة والجنس، فإن الغاية من اللغة كما يقول هومي بابا: " هو التفجير  وليس حشر كل شيء ‏في البنية القائـمة (بشرحه وتبسيطه) وتحويله إلى ما يمكن أن يقال مباشرة"(‏ ‏).‏

وفي مشهد يجمع الجد (كامونقة) مع أحدهم:‏

‏"أعمل ليك حجاب يخلي النسوان ما يشوفن غيرك، واللي تريدها تريدك تباريك مثل ظلك، تمشي وراك مثل ‏غنماية"(‏ ‏)، فهذا النص  يعكس خطابًا مهيمنًا في جزئـياته،  يكشف مطلب الرجال في محاولتهم لاستحواذهم ‏على النساء، وتكشف اللثام عن سياقات مليئة بالإخضاع؛ فإنَّ النصّ يحمل في مجمله جملة من الممارسات ‏المضادة بين ثنائية الرجل والمرأة، التي تعكس الاضطهاد النوعي والنظرة الدونية إلى المرأة؛ إذ تشترك هذه ‏الثيمات الذكورية مع أدوات الاستعمار في إخضاع الآخر؛ حيث كان المجتمع الأبوي يضطهد المرأة بحجة "على ‏أنها ببساطة مسألة ثقافية وتحدث داخل الأسرة"(‏ ‏).‏

رابعا: تقنيات الزمان:‏

إنَّ علاقة الزمن بالجانب السردي علاقة ملازمة لبعضهما، من خلال وجود أنواع زمنية متنوعة داخل الإطار ‏السردي ذكرها بورنوف وويلي: "زمن المغامرة، أو زمن الحكاية...زمن الكتابة...زمن القراءة"(‏ ‏)، ولكن من المهم ‏هو أن ندرك ما إذا كانت هذا الرواية قائمة على الخيال أو على الواقعية تعكس حال الإنسان وقضاياه الشائكة ‏وتبلورها في نسق روائي إبداعي يتمخض عن تجارب حيوية:‏

‏1-الزمن الاسترجاعي:‏

هو الزمن الذي يعيد به الكاتب الشخصية إلى الوراء من خلال استذكار أحداث قد وقعت معه، على أن الفرد في ‏الرواية "ينظر دومًا إلى الخلف إضافة إلى تطلعه إلى الأمام وهو يعيد، بفاعلية، تركيب الماضي على ضوء كل ‏قطعة صغيرة جديدة من المعلومات"(‏ ‏)، فهي تقنية تؤدي إلى انقطاع وظيفة السرد؛ ليعود الراوي إلى نقطة أقدم ‏يريد أن يقدم إضاءة حولها، من أنواعه:‏

أ-الاسترجاعي الخارجي:‏

استخدمت الكاتبة في رواية ( فستق عبيد) تيار الوعي في تداعي الذكريات وربطها بالحاضر، وأعادتنا إلى بدايات ‏الجد (كامونقة) في تشكيل عبودية لاحقة عانى منها؛ ففي أحد المشاهد كان مجتمعًا مع أبناء قبيلته وعائلته ‏يسرد بداية رحلته الصعبة، وكيف وقع في شباك الصيادين؛ إذ يسرد أحداثًا في الماضي تساعد المستمعين أن ‏يفهموا كيفية وقوعه في العبودية:  " دفعت بنا المجاعة جموعًا وأفرادًا لاجتياح البلدات القريبة...عندها كنت فتيًا ‏قويًا، شهيتي مفتوحة لاقتحام العالم، خرجت باحثًا عن رزقي وقدري، لا أنتظر معجزة سماوية، ولكني أتعامل ‏بحماقة مع الدنيا...الخ"(‏ ‏) ، فنلاحظ عودة الجد (كامونقة) إلى الوراء؛ ليسترجع أحداثا قد حصلت معه تكشف ‏التفاصيل المتعلقة بالقضية الأساسية التي يسردها، وهي الوقوع في العبودية، ولعلَّ الغاية من هذا الاسترجاع هو ‏العودة لبعض الأحداث السابقة التي تملأ الفراغات، والاسترجاع الخارجي "يحتاجه الكاتب كلما قدم شخصية جديدةً ‏على مسرح الأحداث ليعرف ماضيها وطبيعة علاقتها بباقي الشخصيات الأخرى"(‏ ‏).‏

ب-الاسترجاع الداخلي :‏

لقد ظهر الاسترجاع الداخلي بكثرة في قلم سميحة خريس، خصوصًا لدى شخصية (آوا)، مربية (كارولينا) صاحبة ‏القصر، التي كبرت وأرهقها الزمن لتأتي (رحمة) وتتولى عنها مهام تنظيف القصر فعندما التقت (آوا) بالعبدة ‏الجديدة (رحمة) تذكرت نفسها عندما جاءت لأول مرة إلى القصر في صورة  تعيد نفسها، تقول: "عندما وقع ‏نظري على البنت الجوهرة رحمة كأني رأيت نفسي"(‏ ‏)، ثم تذكرت كل الأحداث التي مرت بها من قهر وظلم من ‏قبل (كارولينا)، " رغم أن كارولينا تتصرف كما لو أن المزرعة لها كما في الماضي، لم تكن ممتنة، بل غاضبة ‏على الدوام، تفقد أعصابها إذا تُرِكت النافذة مفتوحة، وإذا زاد الملح في المرق...الخ"(‏ ‏)، فإن الخادمة تعبر عن ‏حالة الهيمنة غير المبررة التي تمارسها سيدتها لتعكس المعاناة المستمرة من جيل إلى جيل ومن عبد إلى آخر ‏عبر  "إدخال مقاطع توضيحية عن فترات زمنية سابقة"(‏ ‏).‏

‏2- الزمن الاستباقي:‏

ظهر في بداية الرواية بشكل مفاجئ حينما تحدث (كامونقة)، بقوله: "كضاب وإلا عيوني ما بتشوف"(‏ ‏)، وفي ‏هذا سرد استباقي يوغل في المستقبل، ويعكس القصة التي نقلها إلى قبيلته قاصدا مراحل وقوعه في فخ العبودية، ‏وفي مشهد آخر ظهر الزمن الاستباقي في النص الإبداعي بشكل يوضح الانتقال من الزمن الحالي إلى ‏المستقبل، قالت (رفمة) أو (رحمة) بشكل مفاجئ من فتاة تضحك مع جدها إلى قولها: "تقدمت خطواتي في قلب ‏السفينة، صار الرجلان اللذان أعرف على يميني، تخطيت نظراتهما المترقبة وتنفست بعمق"(‏ ‏)، ففي هذا المشهد ‏صورة مستقبلية خاطفة لـ(رحمة) التي صعدت السفينة بشكل مباغت أسهم في تسريع الزمن، قبل مشهد هروبها ‏من الرجلين،  ولعل الغاية من هذا الاستباق هو أخذ القارئ نحو التنبؤ بالمستقبل الذي ستعيشه بعض ‏الشخصيات ومن ثم العودة تدريجيًا إلى الأحداث السابقة.‏

خامسا: فضاء المكان:‏

تناولت الرواية دور المكان بوصفه حيزًا يعكس صراع الشخصيات، وتصوير إحساسها تجاه فقدانها له، فالمكان  ‏يمثّل هُوية الأمم وحضاراتها، الذي يسعى المهيمِن أن يسيطر عليه بشتى الطرق، و" يفهم الفضاء في هذا ‏التصور على أنه الحيز المكاني في الرواية أو الحكي عامة"(‏ ‏)، "(‏ ‏)، وله أهمية كبيرة في إعطاء الشخصيات ‏صفة الواقعية في الرواية؛ وذلك لأنَّ الأحداث التي تتشكل في الإطار السردي تقتضي وجود مكان يمثل التقاء ‏ثنائية القوي والضعيف، وتتمحور مهمة المكان في كونه يحمل هوية الإنسان وثقافته. ‏

 

 

الهوامش

وليمز، ريموند  : الكلمات المفاتيح، ص43.‏

‎(‎ ‎)‎خريس، سميحة : فستق عبيد، ص10.‏

‎(‎ ‎)‎‏ المصدر نفسه، ص 230.‏

‎(‎ ‎)‎‏ المصدر نفسه، ص230.‏

‎(‎ ‎)‎المصدر نفسه، ص 158.‏

‎(‎ ‎)‎‏ مساعدية، لزهر: نظرية الاغتراب من المنظورين العربي والغربي، ص28.‏

‎(‎ ‎)‎‏ ماركس، كارل :الرأسمالية، ص309-310.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق ص34.‏

‎(‎ ‎)‎المصدر نفسه، ص38.‏

‎(‎ ‎)‎‏ المصدر نفسه، ص39.‏

‎(‎ ‎)‎‏ فروم، أريك :الإنسان المستلب، ص18.‏

‎(‎ ‎)‎‏ الليموني، رمضان عيسى: أمراء الاستعباد الرأسمالية وصناعة العبيد، ص46.‏

‎(‎ ‎)‎‏ هو الفصل القائـم على اللون بين السود والبيض...انظر آشكروفت، بيل، وجاريث جىيفيث وهيلين تيفين: ‏دراسات ما بعد الكولونيالية، ص66.‏

‎(‎ ‎)‎العزب، عايدة: قرن الرعب الإفريقي، ص8.‏

‎(‎ ‎)‎‏ الغذامي، عبد الله: المرأة واللغة، ص17.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص18.‏

‎(‎ ‎)‎‏ الغذامي، عبد الله: النقد الثقافي، ص46.‏

‎(‎ ‎)‎الغذامي، عبد الله: النقد الثقافي، مرجع سابق، ص64.‏

‎(‎ ‎)‎خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص 135.‏

‎(‎ ‎)‎‏ فانون، فرانز: معذبو الأرض، ص168-169.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص152.‏

‎(‎ ‎)‎‏ مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، ص257.‏

‎(‎ ‎)‎‏ برنس، جيرالد: المصطلح السردي، ص51.‏

‎(‎ ‎)‎‏ قبيلات،  نزار مسند : البنى السردية في روايات سميحة خريس، ص185.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق،  ص25.‏

‎(‎ ‎)‎المصدر نفسه، ص 26.‏

‎(‎ ‎)‎مرتاض، عبد الملك،  في نظرية الرواية، مرجع سابق، ص104.‏

‎(‎ ‎)‎‏ بابا، هومي: موقع الثقافة ، ص33.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص14.‏

‎(‎ ‎)‎لومبا، آنيا: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ص37.‏

‎(‎ ‎)‎‏ مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، مرجع سابق، ص182.‏

‎(‎ ‎)‎مارتن، والاس : نظريات السرد الحديثة، ص168.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص10.‏

‎(‎ ‎)‎‏ بوطيب، عبد العالي :إشكالية الزمن في النص السردي، ص135.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص148.‏

‎(‎ ‎)‎المصدر نفسه، ص151.‏

‎(‎ ‎)‎‏ مارتن، والاس: نظريات السرد الحديثة، مرجع سابق، ص170.‏

‎(‎ ‎)‎‏ خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص5.‏

‎(‎ ‎)‎‏ المصدر نفسه ، ص73.‏

‎(‎ ‎)‎‏ لحميداني، حميداني: بنية النص السردي، ص 53.‏

المراجع

‏1.‏ وليمز، ريموند (2007) : الكلمات المفاتيح، ترجمة: نعيمان عثمان، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب.‏

‏2.‏ خريس، سميحة (2018) : فستق عبيد، ط2، دار الآن ناشرون وموزعون، عمان- الأردن.‏

‏3.‏ مساعدية، لزهر(2013): نظرية الاغتراب من المنظورين العربي والغربي، د. ط، دار الخلدونية للنشر والتوزيع، القبة القديمة- ‏الجزائر.‏

‏4.‏ ماركس، كارل(1985):الرأسمالية، ترجمة فهد كم نقش، د.ط، دار التقدم، موسكو.‏

‏5.‏ ‏ فروم، اريك(2003) :الإنسان المستلب، ترجمة: د.حميد لشهب، شركة نداكوم للطباعة والنشر، (د.ن).‏

‏6.‏ الليموني، رمضان عيسى ( 2016): أمراء الاستعباد الرأسمالية وصناعة العبيد، ط1، ‏E-Kutub LtdK، شركة بريطانية ‏مسجلة في انجلترا برقم:7513024.‏

‏7.‏ آشكروفت، بيل، وجاريث جىيفيث وهيلين تيفين(2010): دراسات ما بعد الكولونيالية،  ترجمة: أحمد الروبي، وأيمن حلمي، ‏وعاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، القاهرة- مصر.‏

‏8.‏ العزب، عايدة(2014): قرن الرعب الإفريقي، ط1، دار البشير للنشر والتوزيع، مصر.‏

‏9.‏ الغذامي، عبد الله (2005) : النقد الثقافي، ط3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب.‏

‏10.‏ فانون، فرانز(2015): معذبو الأرض، ترجمة: سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ط2، دار مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة- ‏مصر.‏

‏11.‏ مرتاض، عبد الملك(1998) : في نظرية الرواية، د.ط، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون ‏والآداب-الكويت.‏

‏12.‏ برنس، جيرالد (2003) : المصطلح السردي، ترجمة: عابد خزندار، ط1، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة- مصر.‏

‏13.‏ قبيلات،  نزار مسند، (2010) : البنى السردية في روايات سميحة خريس، ط1، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان- الأردن.‏

‏14.‏ بابا، هومي‎)‎‏2004‏‎(‎‏: موقع الثقافة، ترجمة: ثائر ديب، ط1، المشروع القومي للترجمة، القاهرة.‏

‏15.‏ مارتن، والاس (1998) : نظريات السرد الحديثة، ترجمة: د.حياة جاسم محمد، (د.ط)، المجلس الأعلى للثقافة، (د.ن).‏

 

‏16.‏ لومبا، آنيا ( 2007) : في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ترجمة: محمد عبد الغني، ط1، دار الحوار للنشر ‏والتوزيع، اللاذقية – سوريا.‏

‏17.‏ بوطيب، عبد العالي (1993) :إشكالية الزمن في النص السردي، مجلة فصول، المجلد الثاني عشر، العدد الثاني، الهيئـة ‏المصرية العامة للكتاب، مصر.‏

‏18.‏ لحميداني، حميد (1991) : بنية النص السردي، ط1، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- لبنان.‏

‏19.‏ جيلبرت، هيلين، جوان تومكينز: الدراما ما بعد الكولونيالية، ترجمة سامح فكري، د.ط، مركز اللغات ، القاهرة، 2000.‏

‏20.‏ الحارثي، حمدان، (د.ت)، : المكان بوصفه محفزا سرديا وثقافيا، د.ط، جامعة الأزهر، 173-210.‏

‏21.‏ الشوابكة، محمد (1991) : دلالة المكان في مدن الملح لعبد الرحمن منيف، مجلة أبحاث اليرموك، المجلد9، العدد2، 9-53.‏