«أبناء غورباتشوف».. ورحلة الشّك واليقين ‏

‏مجدي دعيبس

كاتب وروائي أردني

ما بين "موراتالي ومارتن وفاسيلي" تأخذنا روايةُ «أبناء غورباتشوف» إلى مخاض ‏التحوّلات في روسيا عشيةَ أفول الحقبة السوفييتيّة. جاءت الرواية على نسقٍ من ‏الصراع الروحيّ على المستوى الشخصيّ والمؤسساتيّ في إمبراطورية شاسعة كانت ‏تضع الدين في أولوية متأخرة، ثم جاء "غورباتشوف" ليضع حدًا لمنظومة منخورة من ‏الداخل، لم تحتج سوى لنفخة من فم عملاق كان يرى التفكّك منجاة من مأزق تاريخيّ ‏صعب. ‏

على الرغم من وجود ملامح سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة للمرحلة الجديدة إلّا ‏أنّ التركيز كان منصبًّا على النواحي الروحيّة والدينيّة. الحرية والانفتاح -اللذان جاءا ‏كعنوان عريض للتغيير المنشود- أصبحا تربةً خصبةً للتبشير الدينيّ من قبل مؤسسات ‏أمريكيّة تحاول بناء قاعدة بين الرّوس؛ أتباع الكنيسة الأرثوذكسيّة من خلال دعم ‏بعض المشاريع الاقتصاديّة. كما لم يغب عن المشهد أيضًا الدعوة إلى الإسلام جنبًا ‏إلى جنب مع الديانات الأخرى.‏

‏"الملّا موراتالي" داعية إسلاميّ من طشقند، يصل إلى موسكو كمبعوث من دار الافتاء ‏الأوزبكيّة. اقترح موراتالي موسكو على المفتي كحجة للتّملّص من الذهاب للدّعوة في ‏مدينة أكطاش، فاقتنع الأخير بالأمر وأوكله إليه. «موسكو اليوم هي المكان الذي ‏يجب على المسلم النشط أن يكون فيه». ينجح أخيرًا في افتتاح مركز إسلاميّ أوزبكيّ ‏في موسكو دون تمويل من الجهة المرسلة، الأمر الذي يُعُدّ حدثًا مهمًا كما يتّضح من ‏الحفاوة التي يُستقبَل بها عند عودته إلى طشقند. ‏

يظهر موراتالي في صور متعددة ومربكة أحيانًا في مجريات الأحداث؛ علاقته المتوترة ‏مع زوجته نوريّة هي ما دفعه للغوص والبحث أكثر وأعمق في الإسلام: «ربما كان ‏الصبرُ الشيء الرئيسيّ الذي علّمه إيّاه الإسلام، فالجهلة فقط من ينظرون إلى الإسلام ‏على أنّه يبشر بالعنف والقتال، أمَّا في الواقع، الإسلام يعلم الصبر وحسب»، تبريره ‏للعلاقة الحميمة مع زوجته فقط على أساس الحاجة لإنجاب الأطفال وشكوكه المتزايدة ‏بأنها خانته مع أحدِهم، نظرته للدّين والإيمان: فهو تارةً يشرب الفودكا مع زميله السابق ‏نيكولايف وتارةً يعترف أمام مرجعيته الدينيّة بكل صدق أنّه مدّع وحديث العهد بالإيمان ‏ويطلب استبداله بمن لهم خبرة لمتابعة المركز في موسكو، ويكون ردُّ المفتي بأنّ ‏موسكو بحاجة لإنسان عصريّ أكثر من ذوي الخبرة لملء الفراغ الروحي هناك. ‏

تطرح الرواية بعض ما يتصوره الغرب عن الإسلام في تلك الفترة: «إنهم يحاولون ‏تصوير النبي محمد عبقريًّا بطريقته الخاصة، حتى إنّهم في بعض الأحيان يصورونه ‏الأكثر نجاحًا من بين الشخصيات التاريخيّة، لأنّه- كما يقولون- الوحيد من بين ‏مؤسسي الديانات العالميّة معروفة حياته على وجه اليقين. حياة محمد معروفة تمامًا ‏مثل حياة نابليون على سبيل المثال، هنا يحاول الغرب مساواتهما، لكن المساواة هنا ‏أمر سخيف. لقد حقّق النبي محمد إرادة الله بوضوح، لا شيء آخر، لدرجة أنّ ‏شخصيته ذابت ببساطة واستبدلت كاملة بالدين. هذا ما لا يريدون أن يعترفوا به، وهو ‏أمر غير مستغرب، فهذا يعني الاعتراف بالإسلام دينًا سماويًا. وفي الوقت نفسه، فإنَّ ‏أيَّ شخص ذكي سيفهم أنّ الإسلام جوهر العالم اليوم ونوره. بعد سقوط القسطنطينيّة، ‏لم يعد في الإمكان هزيمته جغرافيًّا». وفي موقع آخر يقرأ موراتالي شيئًا مضحكًا لدى ‏كاتب مناهض للإسلام: «يقولون إنّ الإسلام اليوم يمرّ بالأشياء نفسها التي عاشتها ‏المسيحيّة في العصور الوسطى: توتر الإيمان والتعصب». في الصفحة (163) يرد ‏التالي، وهو أيضًا في سياق نظرة الآخر للإسلام: «ليس صحيحًا أنّ المرأة المسلمة ‏مهانة مذلّة. ألم تكن زوجة النبي الكبرى خديجة مهمة؟ لقد كانت أول من كشف لها ‏النبي الدين الجديد، وأول مؤيد له. يعلم الجميع مدى نشاط زوجته الشّابة الحبيبة ‏عائشة بعد وفاته، كم روت عنه الأحاديث بالرغم من وجود آراء مغايرة لدى بعض ‏الناس، ولكن من يدري؟ انطلاقًا من انتشار الإسلام السريع، لا يمكن أن يكون تأثيرها ‏غير صحيح».  ‏

‏ مارتن من لاتفيا هاجر إلى أمريكا مع زوجته ليندا في السبعينيّات، وعاد إلى موسكو ‏للتبشير بالمذهب البروتستانتي. يعاهد الله أن يكرّس حياته له إن نجح في الوصول إلى ‏أمريكا كلاجئ، لكنّه يتناسى هذا الأمر لاحقًا، حتى يفكر ذات يوم: «مع كل ما نقوم ‏به، فنحن جميعًا في كل الأحوال، وفي النهاية، نخدم الرب، فلماذا لا نخدمه ‏مباشرة؟»، وكنتيجة لهذا التفكير يدخل في سلك الكهنوت أي يصبح رجل دين أو ‏قسيسًا. ومع ارتفاع سقف الحريات في الاتحاد السوفييتي منتصف الثمانينيّات وصولًا ‏إلى إعلان نهاية الإمبراطورية، تنتعش حركة التبشير الغربيّ في روسيا. كنائس أمريكيّة ‏كثيرة تقوم بما يشبه الغزو الروحيّ وتتنافس على استقطاب مؤمنين جدد من الروس ‏الذين أهملت الدولة حياتهم الروحيّة، وركزت على تعاليم الشيوعيّة كأسلوب حياة ‏اقتصادي وسياسي واجتماعي وروحي.‏

يصبح مارتن مسؤولًا عن منظمات تبشيريّة مثل «السفراء المسيحيون» و«المسيحيّة ‏المفتوحة»؛ وهي مؤسساتٌ أمريكيّة مدعومة من الدولة. يمارس مارتن العمل التبشيريّ ‏ويقوم بجمع التبرعات، ويتلو الصلاة في اجتماع رجال الدين من الكنائس الأمريكيّة مع ‏الرئيس السوفييتي غورباتشوف الذي سهّل مهمتهم وأطلق يدهم في موسكو وغيرها من ‏المدن. وفي منعطف مهم يرفض مارتن انضمام الأب فاسيلي -وهو روسيّ ‏أرثوذكسيّ- إلى مجلس الإدارة على سبيل التعاون مع الكنيسة الأرثوذكسيّة لأنّه كان ‏يفضّل كاهنًا برتبة عالية وليس كاهنًا مخلوعًا كما وصفه. ‏

وَرَدَ في وصف تفكير مارتن وتحليل موقفه ما يلي: «والآن لم يعد متأكدًا تمامًا. في ‏بعض الأحيان، كانت نوبات تهيّج تجتاح قناعاته: لا يمكن حلّ أي شيء من دون ‏قوة. تُرى، هل جاء المسيح بالسلام أم بالسيف؟». وكرد على هذه الحيرة التي يشعر ‏بها يتعرض لحادث سير يخرج منه سالمًا فيقتنع أنّ ذلك كان رد الرّبّ على أفكاره عن ‏الحرب: «فهم مارتن المعنى العام لما حدث: الرّبّ يقرّر كلَّ شيء. إنّه وحده من يقرّر ‏كلَّ شيء، في الحرب والسلام والحياة والموت».    ‏

الأب فاسيلي -الذي يمثّل المذهب الرّوسيّ المعروف- رغب بالعودة إلى موسكو، ‏فترك أبرشيته في محافظة فياتسكايا، وبالتالي حرمته الكنيسة من الراتب لأنه خالف ‏تعليماتها. وجد عملًا في منظمة «المسيحيّة المفتوحة» كمحاضر في الجامعة التابعة ‏لها، كما عملت زوجته مع الكنيسة اللوثريّة. «كان واضحًا بالنسبة إلى الأب فاسيلي أنّ ‏الكثيرين في الغرب يعتبرون أنّ الروحانيّة الروسيّة الشهيرة ليست أكثر من انحراف ‏مرضي». ‏

هذا الوضع الغريب المتمثل بعمله مع منظمات تعمل على نشر الهرطقة حسب النظرة ‏الأرثوذكسيّة دفعه للتساؤل: «هل تحتاج الإنسانيّة إلى المسيح حقًا؟ ألم تصل المسيحيّة ‏إلى أعلى مستوى في المجتمع الغربي من خلال الإنتاج الضخم والابتسامات الإلزامية؟ ‏ألم تحقق روسيا اختراقًا هائلًا نحو السلطة، قفزة في الفضاء دون المسيح ورغمًا ‏عنه؟». ويظهر هذا الشكُّ جليًّا في إيمان الأب فاسيلي عند زيارته للدّير وحديثه مع ‏الرئيس الذي يقول له إنّ الشياطين قد غزت روحه وعليه مواجهتها بالإيمان ‏الأرثوذكسيّ الصحيح.‏

فاسيلي هو الشخصية الرئيسة في الرواية، ويمور في داخله صراعٌ مرير بين الإرث ‏الرّوسيّ الكبير وما آل إليه المذهب الأرثوذكسيّ أمام هذه الهجمة الأمريكيّة ‏البروتستانتيّة،  ونتيجة لحالة التهميش التي يتعرّض لها على الصعيد الشخصيّ ‏والمذهبيّ، تخطر له فكرة الدّين الجديد الذي سيوحد من خلاله آسيا وأوروبا ومن ثم ‏البشرية جمعاء. تأتيه رؤية مشوّشة، فيستقيل من عمله ويغادر إلى الهند للتبشير ‏والتأسيس للدين الجديد، هناك يتعرف على الثقافة الروحيّة الهنديّة؛ معتقدات شتى ‏ونُظم اجتماعية غريبة منبثقة من هذه المعتقدات، آلهة من البشر وطقوس وعبادات ‏وضعيّة لا توحيديّة. يسهب الكاتب في وصف البيئة والمكان ويعمد إلى تفكيك التاريخ ‏الروسيّ والغربيّ وإعادة بناء الحاضر والمستقبل بناءً على الرؤى الجديدة، كما يكشف ‏عيوب الليبراليّة الحديثة التي ستقود العالم إلى الخراب الروحيّ والماديّ.‏

‏ يندم الأب فاسيلي على أفكاره وأفعاله هذه لاحقًا ويعود إلى حضن الكنيسة ‏الأرثوذكسيّة والإيمان الذي تربّى عليه، وهذا له دلالته في تتبع السياق التاريخيّ وشعور ‏الرّوس بالندم وعودتهم إلى كنيستهم الأم. ورد في الرواية: «لا، لا يجوز له أن يبرر ‏نفسه، بل عليه أن يفكر كيف يتوب! أن يذهب إلى الميدان، أو على الأقل أن يجثو ‏على ركبتيه أمام مستمعيه؛ ويقول: اضحكوا أيها الناس الطيبون، هاكم ما فكرتُ به: ‏توحيد أوراسيا! تصوّرت نفسي(...) اضحكوا واغفروا لي إن استطعتم».‏

ولعلَّ العنوان جاء ليعبّر عمّا أفرزته إصلاحات غورباتشوف من عالم أحادي القطبيّة، ‏رأسمالي ليبرالي، لا سقف لحريته مما يضع جنس البشر تحت ضغوطات جديدة؛ ‏فالسقوف مهمة جدًا لوضع الحدود بين البشر والإله، فظهرت بعض الجماعات أو ‏الطوائف الدينيّة المنغلقة على نفسها، والتي آمنت بمنظّرها على أنّه نبيّ مثل "ديفيد ‏كوريش" وغيره.     ‏

رواية «أبناء غورباتشوف» ترسم بكلمات الكاتب الروسيّ "ألكسندر أندروشكين" لوحةً ‏متداخلة الألوان وتلقي الضوء على مرحلة مهمّة من تاريخ روسيا الحديثة، وتسبر أغوار ‏النفس البشريّة في لحظة التردد بين الشّكّ واليقين، وهي من ترجمة الدكتور باسم ‏الزعبي ومن إصدارات «الآن ناشرون وموزعون» لهذا العام.‏

‏ عُرف المترجم باهتمامه بفنِّ القصة القصيرة الروسيّة حيث قام بترجمة مجموعات ‏قصصيّة لأهم الكتاب الرّوس وعلى رأسهم أنطون تشيخوف. تُعدُّ هذه الرواية الأولى ‏في رصيده على صعيد الترجمة الروائيّة، كما صدر له الكتاب المترجم عن الروسيّة ‏أيضًا «دكتاتورية المستنيرين» للكاتبة "أولغا تشيتفيريكوفا" عام 2020.   ‏