سمر أحمد تغلبي
كاتبة وناقدة ....
حكاياتٌ متداخلة يجمعها خيطٌ من ماء، كلما وجدت رابطًا بينها تجده انزلق ليراوغك من جديد.
في دفاتر الوراق نقرأ المعاناة في أقسى صورها، الفقر والجوع، الفساد والتفاوت الطبقيّ الكبير بين مناطق مختلفة من عمان (مسرح أحداث الرواية)، إلى ما هنالك من وجوه للمعاناة التي لم تغب عن صفحة واحدة من صفحات الرواية، حدّ تبرير السرقة والتعاطف مع اللص.
عتباتٌ متعددةٌ على مداخل الرواية:
هذا المسافر إلى عمق الأوراق بحقيبة سفر، وهذه الأوراق المفتوحة على تفسير الكثير من أحداث الرواية، وهذا البحر الذي ضنّ بجسدين وقفا على شاطئه يراودانه عن أعماقه، فأنعشهما رذاذ مائه، رموز تتماهى بقوة مع أحداث الرواية، وهي لوحة للفنان الروسي "فلاديمير كوش"، وقد جُمعت كلُّها على الغلاف تعبيرًا عما يدور بين دفتيه من حركة لم تتوقف إلا في مشفى للأمراض النفسيّة.
ولا يمكن أن نتجاهل العنوان بوصفه عتبةً مهمّة يدخل القارئ من خلالها إلى الفضاء السرديّ، ودفاتر الورّاق يظنّها قارئ الصفحات الأولى من الرواية تحيل إلى الكتب والروايات التي أصبحت محض ورق التهمته النار بعد إغلاق كشك الورّاق، لتنجلي رمزيته الحقيقية حين تبدأ دفاتر اليوميات تكشف ما التبس من أحداث عاشها الورّاق بعد تشرده عن كتب وروايات الكشك التي صادق أبطالها منذ الطفولة.
عتبات أخرى تطالعنا في الداخل، من الإهداء الخفي الذي لم يحظَ بتسميته، والذي وجّهه الكاتب إلى قرائه جميعًا: "إلى قرّائي الذين أفسحوا لكلمتي مكانًا في قلوبهم؛ فربحت الخلود"، إلى الأقوال المختلفة التي تصدّرت الرواية وفصولها السبعة لمفكّرين وأدباء عرب وعالميين كفيكتور هوغو ونجيب محفوظ والطيب الصالح وغيرهم.
أمراض نفسيّة مسيطرة على الشخصيات
تبدأ رحلة الرواية مع المرض النفسيّ منذ بداية الفصل الأول حين يخبرنا إبراهيم بالصوت الذي يأتيه بين الحين والآخر، فيوم ماتت أمّه همس له "لقد سقطت".
لكن هذا الصوت تحوّل إلى كائن يسكنه، يكبر في بطنه على شكل حمل مرعب ويبدأ بتوجيهه نحو أفعال إجراميّة لا يريدها ويهدّده بأنَّه إن لم يمتثّل لأوامره فسينفّذ ما هو أكثر، هذا ما نقله لنا إبراهيم الذي فشل في التخلّص من الصوت على الرغم من محاولاته المتكرّرة، سواءً بذهابه للمشفى، أو بتبليغ الشرطة عنه وعن خطورة ما ينوي فعله، أو بالذهاب إلى الطبيب النفسيّ "يوسف السمّاك" لكن دون جدوى.
ومن ناحية أخرى تظهر الأمراض النفسيّة عند شخصيات أخرى في الرواية، منها الدكتور يوسف الذي أصابه تنكّر والده البيولوجي له بعقدة الانتماء التي كتب مرات متعددة لإبراهيم عنها، وأمّه؛ تلك السيدة التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا يريحها إلا تأمل شجرة الصفصاف من النافذة وصوت مقطوعة الدانوب الأزرق التي لا تتوقف، وكذلك ناردا التي ترى كلما هطل المطر رجلاً يسير تحته بهدوء، وتسمع صوت موسيقى لآلة الدودوك لا وجود له.
وتعرض الرواية حكاية كل من هؤلاء المرضى النفسيين لتحيل على أسباب تمكُّن المرض منهم، وفي حالة إبراهيم بوصفه شخصيّة محوريّة في الرواية، يأخذنا الكاتب إلى زمن بعيد عن زمن الرواية، ليسرد علينا حكاية جادالله والد إبراهيم منذ اليوم الذي ولد فيه، فقد سرد لنا تاريخ العائلة منذ زمن الشموسي جد إبراهيم الورّاق، مرورًا بنشأة والده جاد الله، وانتهاء بوحدته في بيته في جبل الجوفة ثم تشرده منه، وكأنَّه يقول لنا: إنَّ هذا المرض الذي يحوّل صاحبه إلى لصّ محترف، لا يمكن أن يتمكّن من صاحبه إلا نتيجة الكثير من المعاناة التي امتدت إلى ثلاثة أجيال، لتحفر في عمق وجدان إبراهيم شروخات نفسيّة عصيّة على العلاج.
كانت هذه الأمراض النفسيّة تظهر أحيانًا على شكل كوابيس، جعلنا الكاتب في نهاية الرواية نتوه بينها وبين الحقيقة، فهل انتحر جاد الله حقًا؟ أم أنَّ إبراهيم قتله؟ هل قُتل عماد الأحمر أم أنَّه مجرد كابوس؟
" فتشنا شقتك البارحة، وعثرنا على هذا الدفتر الذي تسجّل فيه تفاصيل ما قمت به من جرائم تسميها كوابيس، ثم إن جارتك أخبرتنا برؤيتها لك ليلة محاولة انتحار والدك، وكيف دفعت بالكرسي فتسببت بقتله"ص364
فضاءٌ زمانيٌّ مراوغ
بدأت الروايةُ من زمان انتهائها دون أن ندرك ذلك في القراءة الأولى، فقد أتقن الكاتب مراوغتنا بحيث لا ندرك أن ما جاء في الرواية هو ما كتبه إبراهيم الوراق على دفتر أتته به امرأة أحبّها حين رآها للمرة الأولى، فلم يكشف الكاتب لنا اسم هذه المرأة ولا المكان الذي كان يقبع فيه ويبدأ كتابة سيرة حياته التي وصفها بالغرائبيّة.
تبدأ الرواية صفحتها الأولى في زمن لاحق لصفحتها الأخيرة، لكنَّها سرعان ما تعود منذ الصفحة الثانية إلى زمن السرد الروائيّ الحقيقيّ الذي يبدأ حقيقة من ذروته، منذ إخلاء كشك الورّاق بأمر من أمانة العاصمة، فقد كان هذا الحدث هو القشّة التي قصمت ظهر البعير، وفسحت المجال لمرض إبراهيم النفسيّ أن يتغلغل أكثر في أعماقه.
لكنَّه وانطلاقًا من هذه البداية، يسير بنا في خطٍ زمنيٍّ مراوغ يلتفُّ حول الأزمنة المختلفة على الرغم من تباعدها بانحناءاتٍ متعددةٍ صعودًا وهبوطًا، ويترك لنا مهمة ترتيب الأحداث واكتشاف الرابط فيما بينها. فاستذكارات إبراهيم كثيرة ومتداخلة وهذا يتناسب مع الوضع النفسيّ الذي يسيطر عليه، ما يجعل القارئ يتوه قليلًا في القراءة الأولى.
وإذا أردنا التفصيل في الانتقال الزمنيّ عند الساردين المتعددين، نجد التنقلات الزمنيّة عند إبراهيم هي الأكثر مقارنة بباقي الساردين، ونجد هذا التنقل أيضًا عند ليلى ولكن بشكلٍّ أقل حدّة، ربما لأنَّ مسار حياتها أقصر، فهي تبدأ سردها من لحظة خروجها من الملجأ، وتعود بنا إلى الوراء مستذكرةً بعض الأحداث التي جرت معها هناك بلا تراتبيّة واضحة، فالهدف فقط إبراز بعض أساليب التعامل غير الإنسانيّ في هذا المكان، ما جعل ارتباط قاطنيه ببعضهم أكثر قوةً لمواجهة مجتمع ظالم لا يعترف بهم.
أمَّا ناردا فلم تكن استذكاراتها ذات أهمية كساردة رئيسية لبعض ما جرى معها، ولكنَّها سردت لنا سيرة حياتها بترتيب تصاعدي من خلال يومياتها التي عثر عليها إبراهيم وقرأناها معه، فاليوميات لا يمكن إلا أن تكون تراتبيّة، وهذا ينطبق أيضًا على يوميات جاد الله والد إبراهيم، والتي بدأنا بقراءتها برفقة ناردا قبل أن تتكشف لنا شخصيتها، واستكملناها بعد ذلك لنحلَّ العديد من الألغاز ونربط الكثير من الأحداث ببعضها.
بينما شارك الدكتور يوسف ببعض السرد من خلال رسائله الإلكترونيّة لإبراهيم، فلم يلتزم أيضًا بتراتبيّة الأحداث، فهو لا يروي سيرة ذاتيّة كما في اليوميات، وإنَّما يبوح ببعض ما جرى معه في الماضي ليس كحدثٍ فقط، وإنَّما كان اهتمامه في السرد بأثر هذا الحدث على مسار حياته.
المفتوحُ والمغلق، ودلالاتٌ واسعةٌ للمكان
مما لا شكَّ فيه أنَّ المكان الأبرز في الرواية هو جبل الجوفة والطريق المنحدر منه إلى وسط عمان، حيث كشك الورّاق الذي كان قائمًا على رصيف أول شارع الملك حسين، والذي تم استملاكه بحجّة توسيع الأرصفة؛ ليشغله أحد الفاسدين ويجعل منه محلًا كبيرًا لبيع الموبايلات.
وعلى الرغم من ذلك فللعديد من الأمكنة التي وردت في الرواية دلالتها سواء على مستوى التنوّع المكانيّ أو على مستوى التأثير المتبادل بين المكان والشخصيات المختلفة في الرواية. فلا شكَّ أنَّ الأثر النفسيّ الذي أوصل إبراهيم الورّاق إلى مصحٍّ للأمراض العقليّة لم يقتصر على جبل الجوفة، بل تعداه إلى القرية التي كانت العائلة تقيم فيها قبل انتقالها إلى المدينة في طفولته، بل وأكثر من ذلك، امتَّد هذا الأثر ليشمل الأماكن التي عاشها أبوه جاد الله وانعكست بشكل أو بآخر على شخصيته، وبالتالي على طريقة تعامله مع ولده.
ومن هنا كان للمكان أهميّة لا يستهان بها في البنيان الروائيّ لدفاتر الورّاق. فشخصية إبراهيم تأثرت بسجن والده، سواء سجنه في موسكو أو في عمان، كما تأثرت أيضًا بانتقال عائلة جدّه الشموسي من البادية حيث رعيُهم لأغنامٍ لا يملكونها، حين ولد جاد الله هناك، إلى قرية على أطراف مادبا حيث الاستقرار واستبدال بيت الحجر والطين بالخيمة. وبعد ذلك رحيل عائلة جاد الله من القرية إلى عمان بحثًا عن وهم أمان في الزحام.
وبشيء من التحليل نجد عمليات الانتقال جميعها تتم من المفتوح إلى المغلق، حيث البحث عن الاستقرار يؤدي إلى محدودية الأفق وانغلاق المكان، فالبادية كانت أكثر انفتاحًا من القرية، فلا حدود لها على مدِّ النظر، إلا إنَّه كان انفتاحًا على القحط والجوع حينًا وعلى المطر والغيث حينًا آخر، لكنَّه حمل ذلّ العبوديّة في كل الأحوال ما حمل الشموسي للرحيل، بينما بدت القرية أكثر انفتاحًا على الأفق من المدينة التي سكنتها عائلة إبراهيم، بأحيائها الشعبيّة ذات البيوت المتراصة التي يمكن، من خلالها، للجار رؤية ما داخل بيت جاره بسهولة.
ولا تقتصر المدينة على هذه الأحياء، وإنَّما تضمُّ بعض الأحياء ذات الطراز المعماريّ المتطوّر، بيوتها واسعة لها أكثر من بوابة، وشوارعها عريضة مفتوحة على طرق عدة، هذه الأحياء دخلتها ليلى للعمل، بينما دخلها الورّاق ليبدأ رحلة اللصوصيّة، فباتت مقارنتها بالمغلق الذي عاشه سببًا قويًّا لانتصار فكرة الشر في داخله. فالتنوّع المكانيّ لم يكن فقط لبيان جمال المدينة والتعريف بشوارعها المختلفة، بل كان لها عمق دلاليّ يدخل القارئ في عمق المقارنة مع البطل، فلا يرى في هذا التطوّر المعماريّ إلا مزيدًا من التناقض الذي تعيشه المدينة بين طرفين لا يبدو أنَّهما ينتميان للمجتمع ذاته.
وفي جانب آخر من دلالات المكان نجد بعض الأماكن المفتوحة التي ذهب إليها إبراهيم بشخصيته الخيّرة ولكن لا ليحيا، وإنَّما ليحاول إنهاء حياته، إلا إنَّه فشل في ذلك، إذ إنَّ الأفق يمسح برفق على الذات المغلقة؛ ليفتح فيها نافذة للحياة، فعلى شاطئ البحر كانت هذه النافذة هي ناردا، وعلى جسر عبدون كانت أولئك المشردين ساكني البيت المهجور الذين لم يفارقه إحساس المسؤولية تجاههم.
وبعيدًا عن إبراهيم، كانت للمكان دلالاته العميقة سواء كان مفتوحًا أو مغلقًا، مع سيطرة المغلق الذي يعلو فيه الوجع. فهذه ليلى التي تعرفنا من خلالها على مكان هو الأكثر انغلاقًا في مجتمعاتنا؛ الملجأ الذي يضمُّ مجهولي النسب، والسيدة إيميلي التي بدأت مأساتها في النمسا، ففي منتزه جزيرة الدانوب بدأت قصة حبّها، لكنَّها دُفنت في شقة مغلقة في مقاطعة ((إنيري ستادت) وعلى سرير شهد نهاية كل شيء؛ إذ كشف تفكيره الشرقيّ المغلق، والذي أكّده نكرانه لابنه حين قابلته في الأردن.
وباختصار:هي دفاتر تفتحها لتستمتع، لكنَّك لن تغلقها إلا لتتفكر في كل ما مرت عليه من مآسٍ وما التقطته من صور.