أحمد زكارنة
كاتب أردني
على العكس من الاعتقاد السائد، أنَّ النَّجاة الشَّخصيَّة تكمن في القطع مع الماضي، سريعًا ما نكتشف أنَّ لكلِّ إنسان حياة سابقة، يحملها في وعيه دون انتباه لشغف المقولة الرَّائجة؛ إنَّ الكلام نشرٌ والطَّيَّ سكوتٌ، بهذا المعنى يمكننا أن نفهم مقولة الكاتب السُّوريِّ المغيرة الهويديِّ وهو يقول: "الحفر أفضل ما يمكن أن نقوم به الآن" تأكيداً على فكرة أنَّ لكلِّ حكاية حبكة، عادة ما تُنسج من فحوى سؤال التَّكرار في زمن سائل لا يفضي إلا لتيه مفتوح على كلِّ الاحتمالات: هل نحن حكايا مكرورة؟!.
والزَّمن لدى "المغيرة" في روايته الأولى " قماش أسود - منشورات تكوين - 2020" لم يكن مجرَّد خطٍّ ناظم بين لحظتي الميلاد والموت، بوصفهما علامتي الحقيقة المؤكِّدة للبشريَّة جمعاء وعلى حدِّ المساواة؛ ولكنَّه كان الحبكة التي ولّدت عديد الأسئلة والحكايات التي دفعته للقول: " أفكِّر أنَّ الحياة ليست أكثر من مجموعة كبيرة من النَّماذج، تعديلات طفيفة وندخل في النِّظام لنعيد اجترار حقيقتنا، الزَّمان وحده المتغيّر، يعيد تدويرنا لنصبح أكثر انسجامًا مع النموذج الذي ننتمي إليه" ص189، ما يذكِّرنا بنقاش الرِّوائيّ البرتغاليّ "ساراماغو"، لفكرة الحياة والموت في روايته الشهيرة "انقطاعات الموت" إذ كان سؤاله الأبرز: أيُّها الموت، أين هو انتصارُك؟!.
ولكنَّ فارقًا طفيفًا يمكننا أن نلاحظه بين معالجة "ساراماغو"، ومقاربة الهويديّ، هو فارقُ القيمة المضافة للحقيقة ومأساتها لدى المغيرة، في مقابل التَّقويم الأخلاقيّ للتاريخ البشريّ لدى "ساراماغو"، ليصبح السؤال في "قماش أسود": "هل من قيمةٍ لوصف معركة تدور على بعد مسافة منِّي؟ من يُطلق القذائف ومن يتلقَّاها؟ من يخسر ومن ينتصر؟" ص135. فإن كان سؤال الموت لدى "ساراماغو"، مرتبط بمأساة الحقيقة، فهو لدى الهويديِّ دالٌّ على الوجه الآخر لحقيقة المأساة. " أليست هذه عشوائيَّة رخيصة؟ أن تموت وأن تنجو مصادفةً، أن يكون موتك بلا قيمة تُذكر في فوضى ما يحدث". ص232
إلَّا أنَّ ملامح الوجه الآخر للحقيقة في سرديَّة "المغيرة"، لم تتشكَّل لتحديد صورة المأساة في أتون الحرب وحسب، ولكنَّها تداعت أيضًا لتمعن النظر في مرايا المرأةِ العربية في مجتمعِ الذكورة، كي تكتمل المقاربة في تكوينها الدَّلاليِّ لحكاية الزَّمن "الدَّاعشيّ" المستمرِّ على نحو مركب أفضت إليه فوضى الخيارات القائمة والمحتملة على الجبهة الاجتماعيّة، قبل أن تظهر "داعش" وقبل أن تتحوَّل مدن الشَّرق إلى ساحات معارك. وهو ما عبَّرت عنه إحدى شخوص الحكاية بالقول: "ما الَّذي يفعله الرِّجال غير القتال والشِّجار والسُّكر والعربدة؟ مجانين لا يفكِّرون إلا في رغباتهم، كلُّ شيء عندهم يُقاس بمبدأ الفوز والخسارة وكأنَّهم يلعبون كرة القدم، يتنافسون على كلِّ شيء، النساء، المال، السُّكر، اللَّعب، حتّى هذه الحرب". ص221
في رواية "قماش أسود" يُسلِّط الكاتبُ الضَّوء على معاناة امرأتين غريبتين تتشاركان بيتَ عائلةٍ مرَّت بظروف صعبة كما غيرها من العائلات عشيَّة سيطرة تنظيم الدَّولة "داعش" على مدينة الرَّقَّة السُّوريَّة، حيث اختفى الابن "كريم" زوج "نسرين" الشَّخصيَّة الرَّئيسة والساردة في الرِّواية، وتُوفِّيَت والدته ليتزوَّج والده أبو كريم قبل مرور شهر واحد على وفاة زوجته، من زوجة ثانية هي "آسيا" الشَّخصيَّة الشريكة في السَّرد، ليحاولا معًا الهروب بمساعدة جارهم "يوسف"، بعد هروب أبي كريم الذي تركهما لمصيرهما المجهول.
ولأنَّ مصيرهما "نسرين/ وآسيا" بات مشتركًا، راحتا تبحثان عن هروب أخير، في محاولة للنَّجاة من لعنة هذه العائلة و"داعش" على حدٍّ سواء، خاصَّة وأنَّ لكلٍّ منهما قصَّة وجع دفعت بها لتصبح جزءًا من عائلة أبي كريم، حيث " نسرين الزَّوجة - مع وقف التَّنفيذ" ارتبطت بعلاقة مع كريم المختفي، قبل زواجهما لتتعرَّض لتعنيف أسريٍّ وصل حدَّ تهديدها بالقتل من قبل شقيقها الضَّابط في جيش النِّظام، مما اضطرَّها للهرب من بيت أسرتها، فيما تزوَّجت آسيا للمرَّة الرابعة من أبي كريم " شيخ الجامع التابع لداعش" بعد ثلاث زيجات تركت آثارها الواضحة على تركيبتها الشَّخصيَّة، وسلوكها اليوميّ.
في الأثناء، تتعرَّض السَّيِّدتان إلى عديد من المواقف المؤلمة داخل خيم اللُّجوء المؤقَّت، لتسرد كلٌّ منهما حكايتها للأخرى، على وقع محاولة دفع آسيا وهي تحاور نسرين للاعتراف بحقيقة مشاعرها تجاه جارهما "يوسف" الذي وقع بدوره في حبِّها وهي زوجة لآخر - مع وقف التَّنفيذ؛ والبوح بالظَّاهر والمحجوب من الحكايات في هذا المتن الرِّوائيّ، وظَّفه الكاتب ليختبر أبعاد التَّعالق بين شخوص العمل وقارئه، وكذا تماثل القصص وإن بدت كلُّ قصَّة مختلفة في تفاصيلها عن الأخرى، ببساطة لأنَّ سؤال التَّعالق المضمر في السَّرديَّة جاء لخلخلة المسلمات وقواعدها المشكَّلة للمكوّن الاجتماعيِّ الشرقيّ: " كيف يستطيع الإنسان الفرار من ذاكرته؟ كيف يخرج سليماً من ماضيه؟ هذه رفاهيَّة لا يوفِّرها الواقع، نحن جمع ذكرياتنا البائسة، ذكرياتنا التي لا نعرف كيف نتخلَّص منها، لأنَّها باختصار حقيقتنا، وكلُّ شيء سواها لا يعدو أن يكون محاولة لتجاوزنا على نحو أفضل". ص190
هكذا عمد "المغيرة" وهو يرصد حكايا المرأة العربية في الحرب والمجتمع معًا، إلى قدر وافر من التَّرميز والتَّجريد، في سياق سعيه الدؤوب النَّفَّاذ إلى ملامح التَّحوّلات النَّفسيَّة لشخوصه، بغيةَ محاكاة الواقع الخارجيّ، بتعبيرات ذاتيَّة داخليَّة، وانعكاس ذلك على معطى الزَّمن الرِّوائيِّ الذي استدعى بدوره رموزًا كالباب، والسَّواد، والنَّبش، بوصفها حيل اشتباك حسيَّة وشعوريَّة يمكنها أن تشكِّل رافعة مهمَّة للخطاب في بعده الدَّلاليّ.
والزَّمن الرِّوائيُّ في سرديَّة "قماش أسود"، الحائزة مؤخَّرًا على جائزة غسَّان كنفاني للرِّواية العربيَّة 2022، وعبر تقنية التَّأخير والتَّقديم، خلق حيِّزًا مقبولًا للحركة الرَّشيقة بين ماضٍ مؤلم، وحاضر مفجع، مثَّلَه الباب بما ترمز له حركة الفتح والإغلاق والمواربة خير تمثيل، فهو في الفتح يشير إلى الحاضر والمستقبل، وفي الإغلاق يقيم جدارًا عازلًا مع ماضٍ مؤلم، فيما تعبِّر مواربته عن حالة تأمُّل في الحال واستقراء للمآل في ظلِّ معطيات الماضي، فيما ورد السَّواد باعتباره تعبيرًا قاسيًا عن حالة عامة لا تنقصها الحكايات الشَّخصيَّة للتَّأكُّدِ من مآسيها، ولا تعوزها الحرب كي تنفيها، تمامًا كما هي حكايات نساء الشَّرق على الصَّعيد الاجتماعيِّ بكلِّ مفرداته القبليَّة، بينما استدعى الكاتب النَّبش لما يرمز له من فاعليَّة للحياة في صيرورتها واستمرارها بصرف النَّظر عن الأسباب أو النَّتائج، فقط كي يشقَّ طريقًا آخر للحكاية على نحو يقوِّض كلّ فكر إقصائيّ، بغية إعادة تعريف العلاقات الإنسانيَّة بمعناها الاجتماعيّ.
إنَّ المغيرة الهويدي في سرديَّته "قماش أسود" بشرطها التعاقديِّ بين المرسل والمتلقِّي، الكامن في ترك عديد الجمل ناقصة ومعلَّقة، إنَّما قدَّم عملًا مميَّزًا ومختلفًا بنزعته الواضحة إلى فقه الكتابة التشاركيَّة بين الكاتب وقارئه تحديدًا حينما تصيب المعالجة الرِّوائيَّة مفاهيم الحريَّة والعدالة والكرامة، على نحو استحقَّ معه نيل ثقة لجنة تحكيم جائزة كنفاني برئاسة الدُّكتورة الناقدة رزان إبراهيم برفقة أعضاء اللَّجنة الموقَّرة، ليس لأنَّ الكاتب قدَّم عملًا جاء ليعالج قضيَّة الحرب في القطر السُّوريِّ الشَّقيق وحسب، ولكن لأنَّها سرديَّة حملت بين طيَّاتها صرخة مدويَّة تؤكِّد حقيقة أنَّ المرأة ليست مجرَّد مكوِّن بشريٍّ يجب إعادة تموضعه الاجتماعي، وإنَّما هي ناطقة رسميَّة وصادقة لمعاناة البشر، أوَّل من يدفع فاتورة التَّحوّلات الكبرى، وأكثر من يصمد في كلِّ النِّهايات المحتملة، ليبثَّ أملًا جديدًا في حياة ما تزال عصيَّة، وهو ما أراد تأكيده الكاتب بوصفه الرَّاوي العليم للمرَّة الأولى والأخيرة في خاتمة سرديَّته قائلًا: " تتوقَّف المرأة عن الدَّوران، يتكسَّر السَّواد على جسدها، وبطرفِ إصبعها تزيح العباءة عن كتفيها وتمضي لتفتح الباب". ص263. خاتمة تدفعنا للاعتقاد المؤمن، بأنَّ مثل هذه الكتابة الرِّوائيَّة هي الكتابة المطلوبة في بعدها الوظيفيّ، لنحدِّد نقطةَ نظامٍ تفتحُ بابًا.