إنّ الأدبَ النسويَّ خطابٌ يتضح من خلاله قدرتها على الاستجابة للتغيرات المجتمعيّة الجديدة، وقدرتها على البوح بقضيتها، والكفاح في سبيلها، ضمن مساحة متفاوتة من النجاح والإخفاق، تعتمد على درجة الحرية المتاحة التي تتنازعها ظروف مكانيّة، وتاريخيّة، وسياسيّة، وثقافيّة، وتعتمد على درجة الوعي عند الروائيّة، ومقدار تمكّنها من تقنياتها الفنيّة والجماليّة، والعمل على تطويعها لحمل المضامين، ومن هنا نتناول مجموعة نهلة الشقران "أنثى تشبهني" لتتبع حركة الذات الأنثويّة فيها، محاولة للإمساك بتأثرها بالظروف المجتمعيّة المحيطة، ومدى كونها انعكاسًا للحركة المجتمعيّة التي تتنازع المرأة، فقد تكون الذات الأنثويّة في المجموعة تعكسُ صورةً مقاربة لحياة القاصّة، وقد لا تكون. ابتداءً من أطوار المعاناة المتصاعدة وصولًا إلى مرحلة التغير واكتشاف الذات، تأريخًا لرؤية وموقف من الواقع الاجتماعيّ، وما يتركه من ائتزامات داخل الشخوص.
وتُعدُّ الكتابة النسوية ميدان المرأة الذي تعبّر به عن همومها، وأيديولوجيتها بوصفه طريقًا من طرق الكفاح والانعتاق، وإذ تتوّحد معاناة الكاتبة مع معاناة المرأة المجتمعية ككل، وكونها تحمل مؤشرًا على واقع النهضة النسوية التي تزعمتها حركات التحرّر النسوي في العالم الغربي وظلالها في العالم العربيّ من جهة، ونظريات النقد الإبداعيّ النسوي من جهة أخرى، ضمن قبول ورفض يتفاوت في حدوده لمصطلح الأدب النسوي سواء كتبته المرأة أو شاركها الرجل في طرح قضاياه.
ومادامت الحرية شرطًا أساسيًّا لتنمية المواهب الابتكاريّة والفكر المبدع، والتسلطيّة تعدّ المعوّق الرئيس لها، وما دام نمط الضبط الاجتماعيّ في المجتمعات العربيّة هو التسلطيّة ودعامته في ذلك الأسرة والمؤسسات السياسيّة الدينيّة، فإنَّنا في الأدب النسوي نقف عند ذاتٍ أنثويّة تواجه سلطةً أبويّةً مجتمعيّة متفاوتة في قدرتها على التصدي، وفي مساحة الحرية وقدرتها على الحديث عن المسكوت عنه، أو العري في تناول تابو الجسد وفق طبيعية المرحلة الزمنية أو الطبيعة المجتمعية، ودرجة الوعي.
فالأدب النسوي بين الذين يقبلون التسمية أو يرفضونها لا ينفلت من التمحوّر حول قضية الحرية، مقابل تسلط مفاهيم المجتمعات التي تحصرها في إطار البيت والجسد. وغالبًا ما تحمّل الكاتبة البطلة رؤاها لتتحدث عن قضيتها التحرّرية وتصوّراتها. والأنثى الحاملة لأرق الخلاص لا تحقّق منه شيئًا إلا بعد مرورها بأطوار من المعاناة، لتمتلك وعيها التدريجي، وتنفلت من أسر تأطيرها الجسديّ لتبحث عن كينونتها وهُويتها.
تطل الذات الأنثويّة في مجموعة نهلة الشقران مثل نبت يتفتح ويطلّ برأسه على حذر، ضمن واقع مجتمعيّ يجعل من المرأة محاصرةً بتابوهات كثيرة، فتتدرج الذات من مرحلة الخضوع والتقبل والاستسلام للواقع المعيش، كما نجد في بعض القصص من مثل: "رجع أيلول، وجه لمعطف " مرورًا بمرحلة الوعي والتيّقظ التي لا تأتي إلا بعد إحساس الذات بالمعاناة، وتصاعدها في أطوارها المطلة من لغة القصة المحتقنة بوجد شفيف واحتقانات نفسيّة توقفنا على حافة الانفجار، وإن لم تصل إليه، إذ تبدأ الذات بوعي إمكاناتها بفعل التجربة، واختزانها للتفاصيل متّخذة من القراءة والكتابة وسيلتها المتحضرة للفهم والتغيير، وصولًا إلى مرحلة الانعتاق في قصص مثل "رجع أيلول، وصفير الناي" تقول صراحةً: " تعلّمت أن أقول لا.. صرخت، ضحكت، بكيت، ووجدت نفسي..."، فالوعي والوجع أرخا لهذا الانعتاق والتغير، ولعل كلمة(لا) المتصدية للواقع الاجتماعي بفضاءاته المغلقة تطلبت جهدًا وإرهاصاتٍ كثيرةً حتى تمكّنت الذات من فهم كينونتها بقولها: "وجدت نفسي".
فالخروجُ من دائرة الخضوع والإنكار، وترك الآخرين يقررون مصير الأنثى التي يريد المجتمع حصرها بأطرها الجسدية، والزجّ بها في سجن الأب والأسرة والزوج، تطلب وعيًا وتصاعدات كثيرة، إلا أن اللافت للانتباه أنَّ تمرّد الشخصية الأنثوية هنا ظلَّ رقيقًا خجلًا في صورته المتحفظة، ولم يصل إلى مستوى التطرف، كما يطل من مسّها الخفيف لتابو الجسد، مثلًا؛ فالقاصّة تؤمن أنَّ الجسد لا يُمسّ بغير حب، وهذا ما حملته وأومأت به على لسان بطلتها في قصة " صفير الناي و" صار له غيري" تقول :" وشعرتُ به قطعة ثلج جافة، لم أستطع فتح عيني، أراد أن يضمني إليه بحرارة عاشق، وأنا جثه صقيع خاوية". بعكس إطلالة الجسد على الجسد على لسان الآخر المبادر بالفعل.
كما أنَّها لا تقف طويلًا عند تفاصيل الجسد وإن أحسسنا برغباته المحمومة، وإن عبرت عنه كان التعبير على لسان الآخر المبادر، ولم تتملك القدرة على المواجهة للبوح بمكبوتاته ورفض روحها أن تبقى حبيسة جدرانه، وفق اختيارات الآخر ممثّلًا بالأسرة والمجتمع بمؤسساته الدينيّة والسياسيّة.
فالأنثى في هذه المجموعة سريعة الخضوع بعكس الآخر المتمثل بصورة رجلٍ محبٍّ يطلُّ من قصة حمزة الذي يتحدّى الظروف الاقتصاديّة والمجتمعيّة وعيًا بما يريد، بينما تندغم هي بدائرة الزوج وترك ما تحب: "ما استطعت أن أرتدي معطفًا في تلك السنة: ما اشتريت ديوانًا، وما استطعت أن أنتظره، تزوجت اليوم، وتقاضيت راتبًا مجزيًا... أمّا حمزة فما زال يحلم، ويقتني الدواوين، وينشر الشعر، ويرتدي معطفًا خفيفًا".
والذات وإن كانت تبحث عن الضوء، والحرية في قصة "خفايا صوت" إلا أنَّها كانت دومًا تقوم بفعل نكوصي ارتدادي إلى الماضي، تفتش فيه عن تفاصيل الحياة الماضية قبل أن تبلغ أنوثتها، ويستدق نحتها، وقبل أن يبدأ المجتمع الأبويّ بمحاصرتها رغم إدراكها لبؤرة الانئزام، المتمثلة بنضوج الجسد الذي يُحكم المجتمع الرقابة عليه: "فحين وصلتُ الثلاثين ربطت ذلك بمسرحية غروب غرناطة تأريخًا للانطفاء، وانزياحًا بالخاص إلى العام، مما يعمّق زاوية الرؤية ويوسّعها".
فكثيرًا ما نقف على صرختها الأولى عند الولادة التي لم تتوقف عن البكاء بعدها، فلا قيمة للهُوية والصراخ إن لم يصل الصوت، وإن لم يصاحبه اختيار. وهذا ما عجزت عنه بطلة المجموعة وصولًا إلى الذروة في قصة "أنثى تشبهني" التي تمثّل العتبة النصّيّة للمجموعة، وهذا ما يعوّل عليه بعض النقّاد في قولهم إنَّ كتابة المرأة قد لا تنفلت من أسر السيرة الذاتية، والتهويمات العاطفية، وبغض النظر إن اتفقنا معهم أو اختلفنا، فالأدب من وجهة نظري "نحن مع كثير من الكذب" فإنّنا في هذه القصة نقف أمام نكوص آخر، وإيهام للذات لنفسها أنَّها تختطُّ طريقًا للتحرّر، بينما هي تقف موقف الهارب، ويصير التمرد بيّنًا على الورق، فهي تمارس القتل والحلم والحب على الورق، وتقول ذاتها دون خوف، وحين تصل إلى الواقع نلمح ذاتًا متردّدة منقسمة بين ما تريد أن تكونه، وبين ما يريدون، فتختار ما يريدونه معزيّةً نفسها بحياة نكوصية بديلة على الورق: "أقسمتُ له أنّي لم أخنه، فكل عشاقي كانوا من ورق، عشت قصص العشق، وعندما غضبت منهم طالهم غضبي فمزقتهم شر ممزق.." إلى أن تقول: "ممنية النفس بعودة قريبة بصحبة أنثى تشبهني لكنّها من ورق".
فالأنثى رأت أنَّ الضريبة المجتمعيّة المدفوعة أقل إن عاشت ذاتها على الورق، وهذا ضعفٌ وتردّدٌ مرده الخوف من مواجهة السلطة واختراق تابوهاتها.
وفي الحديث عن البنيتين الزمانيّة والمكانيّة، نجد أن المجموعة تتحرك في فضاءات مجتمعية مغلقة؛ من الشارع إلى البيت، إلى القرية والحقول والجامعة، مرورًا ببنية زمنية تعتمد الاسترجاع، بتوظيفه لكشف الجوانب المعتمة من الشخصية التي لم يدلّل عليها السرد، وذلك بفعل رؤية ترى بالماضي الزمن الجميل أو زمن ما قبل الانطفاء، حيث الأم والأب والجدة والطفولة. وتتكئ القاصة على تقنيات سردية متنوعة، من حضور بارز لضمير المتكلم وقدرته على كشف مكنونات النفس وخصوصيتها، وتعمد إلى الإبهام بالحياديّة والموضوعيّة، أحيانًا بالاتكاء على ضمير الغائب أو صوت السارد المذكر، كما في قصة "حين يتألق الصدأ" وتقنيات الحذف والاسترجاع والاستباق، والاتكاء على اللغة السلسة المحتفية بالتفاصيل، وحركتي الضوء والظل دون الغرق في ثقل البلاغة وتكلّف استعاراتها، رغم تحوّل اللغة إلى لغة شعرية عالية أحيانا، والمزاوجة بين الحوار الخارجي والمونولوج، لنرى الشخصية بصوتها و مكبوتاتها، وبعيون الآخرين مما يكمل النظر و يعمّق الرؤية.
ففي "أنثى تشبهني" نجد صراخًا يقف على حافة الفم ولا يخرج لامرأة من رماد رغم اشتعال جمرها، ونرى مطرًا يبعث الصدأ ولا يبعث الحياة، نرى الآخر/ المجتمع/ الذي يتطلب مزيدًا من أطوار المعاناة والتصدّي لمواجهته لتصل الذات إلى انعتاقها، فتحيا الحب كما ترتئيه، والزواج كما تريده، ولتحيا اختياراتها الحرة، وتمارس بوحها، غضبها، وحقّها بمشاركتها للآخر في مواجهة الواقعين الاقتصادي والاجتماعي. فالقهر والظلم يترصدان الجميع، يحطمان الأحلام، ويقتلان قدرة الذات على المواجهة.
وصدق جورج طرابيشي حين قال: "إن الإبداع تجربة كارثية انفصالية مؤلمة". فالذات الأنثوية المتشكلة في مجموعة نهلة الشقران هي امرأة من مطر وتخاف الهطول. امرأة من رماد وتشتعل لغتها جمرًا ضمن سياقاتٍ تحلم الكاتبة بها؛ في مدى من رؤاها وتوجّهاتها، فلو استطاعت الكاتبة التحرّر من ذلك، وانتقلت باللغة من مستوى الإيماء الخجل إلى اللغة المتمردة المتفلتة من أسر القوانين، لربما يصير الإبداع أكثر "أكسجين" ورحابةً وتنفسًا، وربما يصير الفعل الكتابي أكثر لذة ومتعة. مما يمهد لاكتمال التجربة ونضوجها واكتمال دائرة الوعي، والتمكن أكثر من تملّك أدواتها وتقنياتها القصصية.
إنَّ "أنثى تشبهني" مجموعة قصصية متنوعة بتقنياتها السردية، وأدواتها الفنية، تتحرك في فضاءات نفسية ومكانية مغلقة، عبثًا تستطيع التفلّت من أسر التابو المجتمعي رغم محاولاتها المتكررة التي تطل إطلالة ضعيفة خجلة لاتصل إلى مستوى الفعل الحقيقي المناط به للتغيير، وتتنقل بها اللغة من المستوى التقريري المباشر، ثم ترتفع إلى المستوى التعبيري، فتختلط الشعرية بالسرد، ويشي المجاز بتجليات الطبيعة بكثير من الصخب والصراع الداخلي للذات الواعية.