حكمت النوايسة
كاتب وناقد أردني
يبدو العنوان غريبًا في هذه القراءة، فالجزءُ الأول منه يشير إلى أنّ المكانَ معلقٌ في الهواء، يروي عنه الشخوص من ذاكرتهم، وفي الجزء الثاني من العنوان تبدو المدينة بصورةٍ خلطة لها رائحة البهارات، ولعلّ هذه الغرابة هي ما استقرّت عليها بنات الأفكار وأنا أقلّبُ الرواية غير مرّة، وأقرأ في علاقة الشخوص بالمكان، فالمكان هو (حارسة) أو الكرك، واسم الرواية هو (حارسة)، وحارسة هذه هي شخصيّة من شخصيات الرواية، أو الشخصيّة الأكثر حضورًا في الرواية، فهي الفتاة التي تأتي مغايرة لأبناء وبنات جيلها في التربيّة، تبدي شغفًا بالفنِّ وتجد من يشجّعها عليه، بل والسفر إلى خارج البلاد لحضور المعارض التشكيليّة، والدراسة أيضًا.
حارسة هذه تتولى سردَ كثيرٍ من الأحداث في الرواية بضميرها، وعن ذاتها، وعن والدها (البرجاس) الشخصيّة المركزيّة في الرواية، وهو الرجلُ المثقف، والد حارسة، وأخوتها ( ناصر، وأسامة، وإبراهيم، وكريم) وعندما تأتي حارسة إلى الدنيا بعد أربعة أخوة، وتبدي الرواية المسافة الزمنيّة بينها وأخوتها من خلال الاختلاف على تسميتها، فالجميع له رغبة في تسميتها وفق رؤيته، وطبيعة الاختلاف في التسّمية يرمّز به الكاتب إلى الاختلاف في الرؤية بين الأخوة؛ حيث إنَّ الأخ ناصر يريد تسميتها (ساجدة) بما يرمّز إلى ميوله الإسلاميّة، والأخ أسامة يريد تسميتها (جيفارا) بما يرمز إلى ميوله اليساريّة، والأخ إبراهيم يريد تسميتها عروبة بما يرمّز إلى ميوله القوميّة، والأخ كريم يريد تسميتها (ثروت) بما يرمّز إلى انشغاله بالتجارة... فيما تريد الأم تسميتها (ياسمين) بما يرمّز إلى الميول الرومانسيّة عند الأم معلّمة اللغة العربيّة... وفي النهاية تنتصر إرادة الأب، ويسمّيها (حارسة)، ومن هنا نقف على ترميزيّة الأسماء، فحارسة اسم المدينة كما بدت في الرواية، وحارسة هي اسم البنت التي انتظرها الأب البرجاس، والأم شريفة طويلًا بعد الأولاد الأربعة.
لقد سمّى الأب البنت على اسم المدينة في تعالق روحي بين حبّه المدينة، وحبّه هذه البنت، وإن كانت البنت هي أغلى شيء عند الرجل، وأحقّ الأبناء بالصون والرعاية، فإنَّنا ندرك من خلال هذا أنّ علاقة البرجاس بالــ حارسة هو ما يشبه هذه العلاقة، وقد بدا ذلك في الملامح التي بدت من صورته في النصِّ، فهو المثقف، الثوريُّ، المتوازن، المحبُّ لحارسة وأهلها، غير المعني بالخلافات الصغيرة، المتكابر عليها، المستعد لأن يكون في أول المدافعين عنها، وقد تبدّى ذلك في صورته مرفوعًا على الأكتاف يهتف ضد حلف بغداد، وفي غير مظاهرة ضد الأطماع الاستعماريّة في الوطن العربيّ.
صوت السلطة: تمثّل صوت السلطة في النصِّ بصوت وصورة (أبو شامة) الذي كان مجرّد مخبر/ شاويش لا فرق، يحرض على الشباب، وينسب لهم التهم مما هبّ ودب، ويتّهم كل من يرفع صوته بأنّه ضد الدولة والنظام... ويتعرّض هذا الصوت/ أبو شامة إلى هزّة عنيفة تحطّم كبرياءه، فقد اعترضه البرجاس في السوق وهدّده بعصاه وخطابه المستهين به، وأكمل ذلك السّقّا الذي لطمه لطمةً أوقعته على الأرض، وحطّمت ما تبقى من كبريائه مما دعاه إلى طلب النقل إلى مكان آخر، وعدم القدرة على البقاء في (حارسة) بعد ذينك الموقفين المهينين له بعد أن كان يصول ويجول.
أبو شامة هذا يعود إلى (حارسة) مديرًا لأمنها بعد خمسة وعشرين عامًا، محمّلًا بذاكرته السيئة عنها، وعن الوجوه التي حطّت من كرامته، متمنّيًّا أن يجدها قد توفّيت، لكن ذلك لم يكن، وعندما تكون هبّة الجنوب، وما ترتّب عليها من انفراج ديمقراطيّ في البلاد، وانتهاء الأحكام العرفيّة، كانت مهمّة (أبو شامة) أو العقيد نظام، وهو اسمه الحقيقي، أكثر تعقيدًا، فالممارسات السابقة صارت من الماضي، وهو بحاجة إلى الذكاء والدهاء لإدارة دفّة أمن المدينة!
إنّ أبو شامة يمثّل ترميزيّة على السلطة، والتحوّلات التي طرأت عليها، فقد جعلت هبّة الجنوب، أو انتفاضة الجنوب في العام 89 من السياسيين المعتقلين نوّابًا ووزراء/ بعضهم، فمنهم من احتفظ بمبادئه، وبقي المعارض لكل سياسات الدولة على الصعيد الخارجيّ والداخليّ، ومنهم من أصبح من الأدوات التجميليّة للدولة في (العصر الديمقراطيّ)، ولم تغفل الرواية أن تكون رواية الجميع، ففي الناس من انتظر قدوم الملك لأنَّه هو القادر على حلِّ الأمور، وإخراج البلاد مما هي فيه، وفيهم من يرى التغيير يكمن في تغيير النهج كاملًا، والحكم الدستوريّ الكامل، وبين هذا وذاك أين يمكن لــ "أبو" شامة أن يضعَ قدميه؟ أسئلة يمكن أن تتوالد أثناء القراءة، وغيرها من الأسئلة التي تبثّها الرواية عن العلاقة بين التيارات السياسيّة المرمّزة بأبناء البرجاس كما أشرنا سابقًا، والتيار السياسيّ/ الدينيّ المنفلت الذي لا يعدّ نفسه معنيًّا بالسياسة كلّها، وقد ظهر في الرواية مخفيًّا، ولعلَّ في التعبير غرابة، ظهر مخفيًّا، فقد رأينا من يتأثرون برأيه، ولكن لم نر من يقول برأيه علنًا، هذا التيار هو التيار التكفيريّ، وما رأيناه منه هو مصعب، ومصعب هذا ليس متدينًا، ولا يعرف الناس عنه إلا شقاءه، ولكنّه مُستَغلٌ من قبل التيار المتشدّد المتخفّي الذي يكفّر الجميع، وينجح هذا التيار في محاولة اغتيال (البرجاس) بالأداة الطيّعة المناسبة، مصعب، وبضربه بـ عصا (كانت لأبي الشاويش حابس) ويحصل عليها مصعب من خلال إيغار صدر أخي الشاويش، وتحريضه على البرجاس، حتى تتوصّل النتيجة إلى أن يقوم هذا الأخ بضرب البرجاس بيده، وعندما يدرك (الشقيّ مصعب) أنّ أمره انكشف يغادر (للجهاد) في أفغانستان!!! ولا بدّ أن يكون في السلطة من ساعده على ذلك رغم قيوده وسيرته غير الطيبة في سجلات المحاكم.
تلمّح الرواية إلى أنّ نظام بيك، أو "أبو شامة"، هو الذي ساعد مصعب على الهرب خارج البلاد بعد أن أصبح أمر مشاركته في اغتيال البرجاس شبه مكشوف، وبهروبه يمكن أن يحمل القضيّة كاملة، ولا أحد يحمل منها شيئًا... الترميزيّة أنّ مجاري التحقيق والبحث عن المجرم الذي حاول اغتيال البرجاس كانت تتم والبرجاس فاقد الوعي، ولكنّ الأمور تنقلب عندما يتنبّأ (مسلّم) بأنَّ البرجاس عائد، وذلك عندما يقول: "البرجاس عاد..." يقول هذه العبارة في مقام الولي العجمي للشاويش حابس الذي كان المحقّق في قضية البرجاس، والمغالب الأكبر فيها، فقد سبق أن زار الولي العجمي باحثًا عن حلّ في هذه القضية التي تجثم على أنفاسه، ولا خيط يدل على الفاعل، فوجد الرجل المتنبئ (مسلّم) هناك، ويقول له بما معناه (الأمر يدول حولك) وهذه المرة عندما يقول له (البرجاس عاد).
يكاد مرض البرجاس أن يكون مرض الكرك/ حارسة المكان، وحارسة البنت، وفي عودة البرجاس إلى الحياة، والإشارات التي ظهرت على عودته إلى الوعي يتدفّق الناس إلى بيته، كأنّهم يتفقّدون وعيهم وحياتهم، وكأنّهم هم الذين عادوا إلى الحياة...
وأمَّا النهاية، نهاية المجرم المشارك، الفاعل الحقيقي بالتحريض من الفاعلين المستترين: "أبو شامة" ومصعب، فقد تركتها الرواية مفتوحة، فهو أمام الاعتراف علنًا أو الهرب، وفي الحالتين ثمّ قضية شروع في القتل، ومن طرفين متخاصمين/ عشيرتين سابقًا، فإمَّا إحياء الثأر، وتعرّض أخي حابس للإعدام أو السجن المؤبد، وإمَّا العفو، وهذا لا يقوم به إلا البرجاس!!
لكنّ الردّ يأتي من أبناء البرجاس، لا نريد إلا القبض على الفاعل ومعاقبته، وليس لنا أي قضية مع غيره... الفاعلون: المحرض الأول: أُحيل إلى التقاعد، الثاني الهروب إلى أفغانستان، والثالث بقبضة الحكومة...
تبقى القضية الآن غير معلّقة، ولكنّها تعيد البرجاس برمزيته بأبنائه، الذين تجاوزوا مفاهيم الثأر المعروفة، واكتفوا بالفاعل الحقيقي، معاقبة الفاعل الحقيقي، فكأنَّ عودة البرجاس هي عودة روحه بأبنائه.
شخصيّتان في القضية تلخّصان حارسة: هما شخصيّة حارسة المثقفة الفنانة الموهوبة الموكول إليها سرد الأحداث، معظم الأحداث، وشخصية البرجاس، الرجل الكريم الذي يكون دائمًا في جهة التسامح والعفو والبحث عن كلِّ شيء يجمع صوت أبناء حارسة/ الكرك ويجعلهم متفقين على صوت واحد تجاه قضايا الوطن والأمة، وتجاه القضايا الاجتماعيّة في الكرك، ونبذ أي عادات يمكن أن تعيق وحدة أبناء الكرك.
تعدّد الرواة في الرواية، فقد جاءت أحداثها على ألسنة:
1. حارسة بنت البرجاس.
2. المحقّق حابس.
3. إلياس ميكانيكي الجرارات.
4. المخرج فراس.
5. شريفة العامرية ( زوج البرجاس وأم حارسة)
6. الدكتور صالح.
7. الصيدلي يوسف.
8. الفوّال / الربان أبو أحمد..
وقد تناوب هذا الروي بين تعدّد الرواة، وتعدّد الأصوات، ويمكن القول بتعدّد الأصوات عندما نقابل صوت" أبو شامة" مع بقية الأصوات، كأنَّ أهل الحارسة صوت، وأبو شامة صوت مقابل؛ فنحن عندما نقول تعدّد الأصوات لا نعني تعدّد الرواة، وإنَّما تعدّد الرؤى، فأبو شامة ينظر إلى الأمور من زاوية نظر الحكومة، وأنَّ أيَّ صوتٍ مخالف لسياسات الحكومة هو صوت مخالف للنظام، فيما نرى في صوت أبناء حارسة صوتًا آخر، فهم يريدون الإصلاح، وعدم التورّط في التحالفات الدوليّة المعادية للأمة والوطن، ويستشرفون مآل هذه التحالفات ويعادونها.
الصوتُ والدين
ظهر الدين في (حارسة) بوجهين: الدين الحقيقي الذي يتبناه أبناء حارسة، دين التسامح، والعفو، والتوجه السليم إلى الله، والعلاقة الطيبة بين المسجد والكنيسة، والدين التكفيريّ الذي ظهر شاذًا، وغريبًا على حارسة، كما أشرنا سابقًا، لم يظهر علنًا، ولم يمثّله علنًا إلا شخصية غير متديّنة، شخصية مصعب.
لم تغفل الحكومة هذا الوجه، فاختارت، من خلال العقيد نظام/ "أبو شامة"، استغلال الصوت التكفيريّ للقضاء على عنصر الوئام، وضرب الخصوم قدر المستطاع، وكان تتويج ذلك باغتيال البرجاس على يدي (مصعب)
طلاب وأساتذة
تقف الرواية على مشهدٍ حدث في مدرسة الكرك الثانويّة عندما تعرض أحد الأساتذة للضرب على أيدي طلبة في المدرسة قاموا بتهشيم رأسه؛ مما اضطر الحكومة إلى نقله بالهيلوكبتر إلى المدينة، عمّان، وهؤلاء الطلبة معروفون، منهم من توفّي، ومنهم من عاد ليمارس الحياة السياسيّة بعد خروجه من السجن... والغريب أنَّ الرواية تشير إلى أنّ ضرب الطلبة أستاذهم كان بتحريض من (الإسلاميين) لأنّ ذلك المعلّم يختلف مع الحزب الذي ينتمي إليه أولئك الطلبة، كأنّ في الأمر تلميحًا بـــ (ضرب عصفورين بحجر واحد): ضرب المعلم، وضرب الطلبة في الوقت نفسه!!!
ما نفيده هنا هو أنّ المدرسة، والمدارس الثانويّة كانت تعجّ بالنشاط السياسيّ والفكريّ، وكانت معنيّةً بكل ما يدور في العالم العربيّ من أحداث، وكانت الأفكار السياسيّة والفكريّة في الوطن العربيّ لها مكانها ومسرحها في هذه المدارس.
الهبّة أو الثورة
كان لهبّة الجنوب في العام 89 وجود في الأحداث، فقد كانت المؤشر الذي يعكس مدى انشغال أهل حارسة بالوطن، وقضايا الوطن، وكان القرار بالوقوف إلى جانب الأهل في الجنوب هو قرار حارسة كلّها، وكانت النتائج التي ترتّبت على تلك الهبّة بعودة الحياة الديمقراطيّة، وإخراج السجناء السياسيين، وترشّح بعضهم للانتخابات النيابيّة، وفوزهم، وتغيير بعضهم مواقفه المطالبة بالإصلاح والتغيير والانضمام إلى الحكومة والحكومات اللاحقة.
حارسة: التكوينُ الاجتماعيُّ
إنَّ دراسةَ الشخصيات تُظهر ذلك التنوّع الثقافيّ في (حارسة) والتعدّد الديمغرافي في تكوينها، فنجد المسيحي والمسلم، والأرمني، واليمني والمغربي والأمازيغي والحيفاوي والبدوي والتركي، وهؤلاء لم يكونوا عابرين أو لاجئين في هامش المدينة، وإنّما شكّلوا بنيتها الثقافيّة، وصاروا جزءًا من شخصيتها، وهذا التنوّع الثقافيّ هو الذي طبع هذه الهُوية بطابع المسامحة، مع الإفادة مما جلبه هذا التنوّع من تجارب نقلها المهاجرون إلى الكرك، منها ما يتعلق بالعلم، ومنها ما يتعلق بنضال الشعوب ضد المستعمر والظالم.