د. نضال الشمالي
أكاديمي وناقد أردني
لم أعتد أن أقدّم عملاً أدبيًّا لناقدة أكاديميّة تتقمص دور قاصّة تصنع عالمها الإبداعيّ بعيدًا عن جمود النقد وعقلانيته ونظامه الصارم، إلا أنّ للكاتب أكان ناقدًا أم أديبًا أم غير ذلك الحق في تجريب الإبداع الشعريّ أم القصصيّ. واستهلُّ القوّلَ بأنّ إنشائيّة القصّة القصيرة تتطلب استعدادًا ذهنيًّا خاصًّا يقوم على القدرة على تحديد اللحظة وتوثيقها. أمَّا إنشائيّة القصة الومضة فتتطلب مثل ذلك بالإضافة إلى القدرة الخاصة على التكثيف وحشد المسكوت عنه في موقف قصصيّ مبتور قائم على الإدهاش انتهاءً.
والقصّةُ الومضةُ بتعبير "إليزبيث كوهين" في كتابها "فلاش فيكشن" الصادر عام 2000 يركّز على سمة الومض أو الإدهاش، ولا يقبل تكرار خطيئة تسمية القصة القصيرة مجدّدًا بإضافة كلمة جدًّا معتمدين على الحجم لا الخصائص الفنيّة الإجناسيّة المميّزة لهذا النوع السرديّ المتجدّد. ويمكنّني أن أعرّف القصة الومضة بقولي: صيغة سرديّة موجزة تقوم على الإيماض والتعقيد والتكثيف، تتخذ من الحذف والإضمار والإيحاء وسيلة لبلوغ غايتها. أمَّا مقوّماتها فأربعة، هي: وحدة الحدث القصصي، الإيماض، التكثيف، التمثيل الشعري. فضلًا عن أنّ القصة القصيرة معنية بلحظة التنوير، أمَّا القصة الومضة فمأخوذة بالإدهاش.
ومجموعة "مجرد صديقة" مجموعة قارة في نوع القصة الومضة، أخذت على عاتقها تقديم نماذج متعددة من النساء والرجال محكومة للعلاقات الإنسانيّة وتعرّجاتها، ومن ثم فهي مجموعة منشغلة بمتاهات النفس البشريّة وتعرجاتها اللامنتهيّة، فتعكف على مساءلتها وتعريتها، وتسخر من العلاقات العابرة بين الجنسين، واضعة القارئ أمام إلزاميّة الاشتراك في توقع المسكوت عنه ووضع إطار من الفهم الثاقب لمواقفها الشائكة، فهناك نماذج بشرية عديدة شديدة التناقض آثرت الكاتبة ألا تنطقها بما تريد بل كفلت لها حرية الحركة والتعبير. وإن افتقرت بعض القصص للحظة الإدهاش ولامست فنَّ الخاطرة كما في قصة (خيانة 18) وقصة ( ذبول 19)، إلا أنّ جُلَّ ما قرأته في المجموعة ينتمي بجلاء إلى نوع القصة الومضة، وبالأخصّ قصة (أحلام مؤجلة 40) وقصة (تجاعيد 24)، وقصة (واقع 25).
وأنطلق هنا من أرقى نموذج بشريّ قدمته قصة ذكرى ص 68 وهو نموذج المرأة الوفيّة للحب رغم غدر الآخر وتبدل الظروف : "في الطريق إلى الحب وخزتها أشواك كثيرة.. في الحب ذرفت دموعًا عصيّة.. لملمت خيباتها.. ورمتها من نافذة القطار.. وغادرته في أول محطة.. ارتطم وجهها بشباك التذاكر.. "عفواً هل تريدين تذكرة؟". تحسّست وجهها.. وبوجع قالت " "كم ثمنها؟". ولحظة الإيماض كامنة في سؤالها عن ثمن تجربة حب جديدة رغم ويلات التجارب السابقة. فما هي معالم هذه المرأة التي ينبت فيها الحبُّ كلّما جفّفته رياح الهجر. إنَّه النموذج المتجدّد الوفيّ للقيمة الإنسانيّة المهدورة، وهنا تحديدًا تنطلق الرسالة الكبرى للمجموعة بأن تقف عند هذه القيمة.
ونساء "مجرد صديقة" صنفان كبيران؛ تلك المتحرّرة من الرجل والحبِّ (هجرة 37، رحيل 28، هروب 49، منفضة 39، حرية 58) ، وأخرى باحثة عن الرجل والحبِّ (أوراق الترمس 43، نعامة 66، رجل لن يأتي 63)
وهي قيمة يحذّر عنوان المجموعة القصصيّة من إضاعتها عنوان حمل عبارة "مجرد صديقة"، وهو عنوان حرّ لا تعود مرجعيته الكاملة لقصة محدّدة من قصص المجموعة، وإن كان ورد عرضًا في قصة (ذبول 19): "بعد عقد من الهيام والوصال فاجأها بقوله: أنت مجرد صديقة. بكت قليلاً، ضحكت كثيرًا، ركنت إلى إحدى زوايا القلب ترتجف".
وأهمية العنوان هذا متأتية من غياب مقصود لأي علامة ترقيم يمكن أن توجّه الفهم، فهل هي إخبار أم تعجب أم استفهام. فضلاً عن إخفاء صاحب الصوت الذي يقول: مجرد صديقة، فإن كان القائل رجلاً حمل العنوان معنى التقليل من قيمة علاقته بامرأة ما، وما يشير إليه من دونيّة وتهميش، وإن كانت القائلة امرأة فقد يقود إلى معنى الاستغراب والاستهجان من أن تختصر العلاقة الإنسانيّة بعبارة مجرد صديقة.
هذه المعاني المتداخلة جاءت متوافقة مع زهر النرد الذي زيّن غلاف المجموعة واستبدل الحجر بالنقاط حروفًا تعود لعنوان المجموعة، وتعلمون أنَّ حجر النرد يُستخدم في الألعاب عندما تكون النتيجة المطلوبة عشوائيّة، فهل دور المرء في علاقته مع الآخرين يماثل لعبة النرد؟ سؤال مشروع أجابت عنه قصص المجموعة الأربع والأربعون، فجاءت قصصًا متشظيّةً في وجهات نظرها تشظيًّا يماثل تقطيع حروف العنوان على حجري النرد، وفي الهامش العلويّ في كلِّ صفحة من صفحات المجموعة القصصية.
وقد أظهر غلاف المجموعة تحيّزًا للمرأة وقضاياها مرتين، مرة في إظهار كلمة صديقة في العنوان، ومرة في جعل صورة المرأة واضحة جليّة تحمل في يمناها شمسًا تشير إلى الحقيقة الغائبة، وتقف أمام أفق ضبابيّ يمثل خيالاً لرجل غير مكتمل الملامح. فجاء الغلاف عتبة منسجمة مع محتوى القصص. ومن العتبات التي أحاطت بالمجموعة القصصية إهداء غير مسمّى لزفيف التي "وحدها من تلجم الريح بيد واحدة إليها"، وزفيف (علمًا أو صفة) تأخذ بعدًا أسطوريًّا فيما تستطيعه. كما استهلت صبحة علقم قصصها بعتبتين نقديتين تعينان القارئ على وضع فهم مؤطر لقصصها الأولى جاءت بقلم الدكتور عبدالحميد الحسامي، والثانية بقلم الدكتور عواد أبو زينة.
ومن الملامح التي رافقت قصص المجموعة أن كل واحدة منها تقدم شيئًا قابلًا للكسر، فالوفاء يُكسر بالخيانة، واللقاء يُكسر بالفراق، والصدق يُكسر بالكذب، والذكرى الطيبة تُكسر بالخلافات المستمرة، فهناك دومًا خسارة في أي علاقة تنشأ بين طرفين، وفكرة الكسر هذه متأتية من حساسية العلاقات التي تنشأ بين شخصيات المجموعة القصصية. وكل ذلك بإيقاع سريع لا يقبل التباطؤ، وقد ساعد هذا الإيقاع الخطاب القصصي للمجموعة أن يكون صارمًا في أحكامه قاسيًا على بعض مواقفها.
وقد ورّطت هذه الصرامة المجموعة في نسق مضمر استخدم بعض مواقفها الدراميّة في تحقيق مراميه؛ وهو تأكيد أنَّ المرأة في علاقاتها مع الرجل غالبًا ما تكون في موقف المستقبل الذي يتلقى الوفاء تارةً والخيانة تارةً أخرى، إنَّها تقف موقف المنتظر للمبادرة لا موقف الذي يصنع ذاته ويحقّق رؤاه، في قصة (أرقام ص44) : "لم تعد تكترث بالرقم كثيرًا فكل النساء عند الرجال هن الأوائل، وكل الرجال عند النساء هن الأواخر. لكنها ضحكت كثيرا في أعماقها عندما سألها عن رأيها في العطر الذي ابتاعه لها.. وأجابت بهدوء لافت :"وضعت منه قبل قليل ما رأيك؟. اقترب منها، لم يشمّ شيئًا. أدرك المأزق الذي وقع فيه، وقال بصوت عال: فعلًا هو عطر مميز. سأشتري لك زجاجة أخرى".
إنَّ المرأة في هذه القصة متلقيةٌ تنتظر ردودًا وانفعالاتٍ من الطرف الآخر الذي يستخفُّ بها. وقد التفتت صبحة علقم بذكاء إلى فكرة نقد المرأة وفضح نمطيتها في قصص عديدة كما في قصة (قناع ص47)، وقصة (الجميلة 20)، وفي قصة (ماركات 60).
كما تورّط الإيقاع السريع للمجموعة القصصية في منح الراوي العليم سيطرة على المجموعة القصصية، ليحقّق ذلك مبدأ الوصاية، فغاب الراوي المتكلم، وغاب الراوي الرجل، وغابت فكرة تعدّد الرواة، وإن جرى مسّها مسًّا في القصة الأولى للمجموعة قصة "ذكرى".
ومما ميّز هذه المجموعة قدرة الكاتبة على مسرحة بعض القصص أي منحها بعدًا يتداخل مع فنِّ المسرحيّة، وقد انطبق ذلك على قصص مثل (ذكرى 17، الجميلة 20، مجرد حب 34، شقائق النعمان 35)، وقد عزّز ذلك فكرة الحواريّة.
ومما ميّز هذه المجموعة توظيف المتعاليات النصيّة وهي: "كل ما يجعل نصًّا يتعالق مع نصوص أخرى، بطريقة مباشرة أو ضمنية" وقد ارتبط ذلك بنصوص من قبيل: سهرة مع أبي خليل القباني، وقصة زمن الخيول البيضاء. فضلًا عن الحواريّة التي كانت تعقدها القصص مع بعض الرموز، كنزار قباني، وأحلام مستغانمي، ومحمد طمليه، ومحمود درويش. وهنا يحضرنا ذلك الموقف الشجاع للكاتبة في توجيه نقد بيّن لنزار قباني في قصة ديوان ص62، أعلى من صوت الكاتبة على صوت شخصياتها تقول: "لا تعجبها كثيراً قصائد نزار قباني، طالما رأت مكراً في أثناء كلماته.. أظهرت سروراً كبيراً عندما أهداها ديوانه أنت لي. قرأته مرة.. مرات.. يا إلهي لماذا لا يتملكني إحساس بصدق كلماته؟! واهمة أنا.. نزار شاعر الحب والمرأة.. أي امرأة أحب؟!..".
وبعد، فمجموعة "مجرد صديقة" لصبحة علقم إضافة جيدة على مدونة القصة الومضة العربيّة، بما تطرحه من جدل، وما تضيفه من قيمة إنسانيّة عالية، وما تقدمه من لغة مكثفة تنتهي بالإيماض والإدهاش الذي يشرك القارئ في استكمال نصوص سكتت عن الكثير، فتدفع القارئ إلى محاورة الفكرة وتحديد موقفه منها.