د. فاطمة مفلح العبداللات أكاديمية وباحثة
هل كان ابنُ طفيل مؤلفُ "حي بن يقظان" صاحبَ فلسفةٍ أصيلة؟ أم كان مقلدًا لمن قبله؟ وهل تأثر برسالة ابن سينا المسماة (أسال وسلامان) وتأثر بابن باجه الأندلسي في كتابه (تدبير المتوحد)أيضًا؟ وما مدى ذلك التأثير؟
من الطبيعي أن تُبنى الأفكار الجديدة المبدعة على أسسِ أفكارٍ سابقة لها، والفلسفة كأيِّ علمٍ آخر يبني اللاحق على نتائج السابق، فابن طفيل قد استعار من رسالة ابن سينا الفلسفيّة اسمي "أسال وسلامان" وبنى على فكرة ابن سينا أفكارًا، وتأثر بفكرة ابن باجه التي بنى كتابه (تدبير المتوحد ) عليها؛ وهي أن باستطاعة العقل البشريّ الوصول للكمال المطلق؛ بمعنى أنَّ النظر العقلي الخالص يوصل إلى المشاهدة .
إذن أين إضافة ابن طفيل الإبداعيّة في "حي بن يقظان"؟ وهل كانت إضافته في الشكل أم في المضمون؟ أم في كليهما؟
من حيث الشكل استطاع ابن طفيل أن يمزجَ بين أجناسٍ أدبيّة ثلاثة: الرسالة، والقصة، والسيرة، في تنافذٍ مدروسٍ وغير مسبوق، فنجد النقّاد مختلفين حول تصنيف كتاب "حي بن يقظان"، فمنهم من عدّه رسالة تقليديّة (1) بدليل أنَّه بدأه بالتحميد ومخاطبة المرسل إليه وختمه بالسلام، ومنهم من عدّه قصة فلسفيّة رمزيّة (2) محقّقة جميع عناصر القصة؛ بل جعل السببية رابطًا لأحداث القصة، فموت الظبية كان سببًا في البحث عن الروح وبدء البحث والمقارنة والتأمل ...الخ.
ومنهم من نظر إلى الكتاب كسيرة ذاتية لفكر ابن طفيل نفسه بصورة "حي بن يقظان"، إذ صاغها بشكلٍ فنيٍّ ليحمي نفسه من تهمة الزندقة وليخفّف من قلقه وعزلته في مجتمعٍ عُرف بعدائه للفلاسفة، وربما لتعلم الأجيال القادمة مبادئ الحكمة الإشراقية أيضًا؛ لذلك مزج بين الرمز والواقعيّة في الشخوص وفي صفاتها؛ فكانت شخوص القصة عينةً ممثلةً للمجتمع الإنساني، فحي بن يقظان وصل للحكمة الإشراقية بالعقل، و(أسال )عرف واجب الوجود بالأنبياء ثم بالعقل، أمَّا (سلامان) فلا يقبل بالتأويل ويتبع ظواهر الدين فقط.
في "حي بن يقظان" نلمسُ رؤية ابن طفيل للكون وللحياة، ونلمس حرصه على تعليمها للأجيال القادمة على صورة قصةٍ مشوّقة غلّفها برسالةٍ تقليديّةٍ امتدَّ تأثيرها شرقًا وغربًا بعد ترجمتها لعدة لغات، فنسجوا على منوالها الكثير من القصص والروايات.
وابن طفيل قسّم المجتمع الإنساني في قصته في تلقي المعرفة لنوعين: عام وخاص؛ أمَّا العامة فهم الأغلبية ومنشغلون بالحياة ومتاعها ولا يستطيعون الوصول إلى المكاشفة، وأرسل الله إليهم الأنبياء ليستقيم معاشهم .
أمَّا الخاصّة فهم أحياء ويقظون، وهم أصحاب الفطرة الفائقة المكتسبة بالتأمل والتفكّر والعزلة والمقارنة، ارتقوا بعقولهم وتدرجوا بأحوالهم حتى وصلوا المكاشفة والذوق والسعادة، وهذا ما لا تستطيعه العامة، فسعادةُ العامة في متاع الدنيا، أمَّا الخاصة فسعادتهم بملازمة الذكر والتجرد العقلي ورؤية الأشياء بعينها مقدمة للوصول إلى واجب الوجود، وفق مراحل عمرية للنمو الفكري الإنساني ربطها ابن طفيل بالنمو الجسدي للإنسان، تبدأ من الطفولة بحثًا واستكشافًا في العالم الخارجي حتى التفكّر فيما وراء الطبيعة. ويؤيد ابن طفيل فكرة أنَّ كلَّ ما في الكون له خواصه المعلّلة عقليًّا؛ لذا فالطبيعة عنده من أفضل الوسائل للوصول إلى الله سبحانه(3) .
وقصةُ "حي" تعكسُ الثقافة الشموليّة الموسوعيّة لكتّاب تلك العصور، فالقصة فيها نبذات من علوم شتى كالجغرافيا والفلك والطب ...الخ. ناهيك عن تأثره بالقرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة لفظًا ومعنى؛ مثلًا: قصة دفن الغراب لغراب آخر، فقد رأى "حي" ذلك فدفن الظبية (أمّه) مقلدًا الغراب.(4)
وغنيٌّ عن البيان أنَّ كتاب "حي بن يقظان" ما زال فيه مواطن لم تُدرس وأفكار لم تُناقش ومعان لم تتضح بعد، فهو كتابٌ غنيٌّ ومعبرٌ، ويستحقُ المزيدَ من البحث .
(1) انظر: محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن. ص 230 وعبد الحليم محمود، فلسفة ابن طفيل. ص1 . وحسن عباس، حي بن يقظان، وروبنسون كروزو. ص 69 و70
(2) انظر: عز الدين إسماعيل قصة حي بن يقظان ص 46 وانظر محمد الفيومي تاريخ الفلسفة الإسلامية في المغرب ص 462 وانظر محمد شرف المذهب الإشراقي بين الفلسفة والدين. ص 111
(3) انظر: أحمد بن سالم. جدلية الوجود والمعرفة. ص 130
(4) ابن طفيل حي بن يقظان، تحقيق فاروق سعد. ص 139