إبراهيم غرايبة
كاتب وباحث
تؤسس التحوّلات المجتمعيّة الناشئة عن الثورة الصناعيّة الرابعة، أو ما يمكن تسميتها عصر اقتصاد المعرفة أو الشبكيّة أو الموجة الثالثة، فما زالت تسميات المرحلة متعددة لثورة ذهنيّة وإدراكيّة؛ لعلّها الأكثر أهميّة وعمقًا بعد وعي السلطة والحق الإلهيّ والطبقيّ المصاحب للثورة الزراعيّة، ثم وعي المجتمعات والدولة المركزيّة المصاحب للثورة الصناعيّة. واليوم فإنَّ الفرد ينهض بديلًا أو شريكًا فاعلاً للجماعات والدول في المسؤولية وتنظيم الموارد والأعمال والسياسات والتشريعات، وإذا شئنا أن نُرَمِّزَ هذه المرحلة أو "نؤسطرها" فإنَّها ترويض الـ "لفياثان" بدلًا من عبادته، ثم الخضوع له.
تقول الأسطورة إنَّ الوحش الهائل "لفياثان" كان يحمي المدينة مقابل أن يقدم له أهلها كل يوم دماغ طفل، وهي ترمز إلى مرحلة الحق الإلهيّ للسلطة وتقديم القرابين والقبول لها بأن تملك كل شيء، ففي الحاجة إلى الاستقرار في القرى والمدن تشكّلت الحاجة إلى السلطة السياسيّة، ثم حين تطوّرت وتعقّدت المعارف والمؤسسات؛ تشكّلت الإمبراطوريات والممالك الكبرى على أساس الالتزام والضرائب مقابل السلام والأمن والاستقرار والرفاه، وفي الترميز الأسطوري، فقد غامر أحد أبناء المدينة بتقديم دماغ خروف بدلًا من تقديم دماغ ابنه؛ كانت لحظةَ وعيٍّ فرديّ بأنَّ الحياة لا تساوي شيئًا بعد تقديم الابن قربانًا للوحش، ولعلّها أيضًا إدراك بأنَّ الوحش ليس إلهًا، وأنَّ ما يحتاجه ليس سوى اللحم سواء كان لحم خروف أو إنسان، وبدأ أهل المدينة يقدمون للوحش (السُّلطة) الخراف (المال) بدلًا من القرابين البشريّة (العبوديّة)، وهكذا نشأ العقد الاجتماعي بين الفرد والجماعة؛ الخضوع للنظام والقوانين وتقديم الضرائب مقابل السلام والرفاه. لكنّنا اليوم نكتشف أنَّ "لفياثان" غير قادر على حمايتنا، ولا يستحق الخراف (الضرائب) التي نقدمها، إنَّه يتحوّل إلى كائن أليف يخدم الفرد والجماعة في أعمالها ومصالحها ويتبعها، وفي أحيان إلى قاتل مأجور أو بلطجي مرتزق تحت تصرف المرابين ورجال الأعمال والشركات!
الدول والسلطات جميعها؛ الكبيرة والصغيرة والغنية والفقيرة والمتقدمة والمتخلفة، لم تعُد قادرةً على فعل شيء في مواجهة الوباء بغير التزام وسلوك فرديّ؛ المطارات والأسواق والأعمال والمدارس والجامعات، وكلُّ ما لدينا ونملكه معرضٌ للتبخر والانقراض، ولا تملك السلطات والجماعات والمؤسسات والخبرات والمهن المتقدمة أن تفعل شيئًا، وفي المقابل فإنَّ "الإنسان" بما هو فردٌ حرٌّ مستقلٌ هو الضامن الأساسي للعقد الاجتماعيّ، لكنّها ويا للهول ثورة تفوق الوصف والاستيعاب! النضال لأجل الفردانيّة يتحوّل إلى انتصار يفوق حلم المناضلين، والفرديّة نفسها التي كانت آفة أو شرًا لا بدَّ منه تتحول إلى فضيلة!
وبعد لحظاتٍ من النشوة ندرك (يجب أن ندرك) أنَّه في صعود الفرد والفردانيّة وانحسار الدور الاجتماعيّ والأخلاقيّ للدول والمجتمعات نواجه أزمةً كبرى تفوق أزمة الهيمنة والوصاية والأبويّة والتنظيم والتنميط الجماعيّ؛ فالفرد الذي خضع للجماعة قرونًا طويلة لم يعد يعرف ماذا يفعل وكيف يفكّر، ويميّز وحده من غير مرجعيّة دينيّة أو مجتمعيّة بين الصواب والخطأ وبين القبيح والحسن. وهكذا أيضًا يمكن تقدير أو فهم وتفسير الأزمات الاجتماعيّة والسلوكيّة الجديدة.
في مواجهة الوباء اشتعلت حملات التوعية بالخطر والسلامة، إذ بدا واضحًا أنَّ الفرد هو حجر الزاوية في نجاح عمليات الوقاية، لكن كان محيرًا عجز معظم الناس عن إدراك الخطر على أنفسهم وأسرهم، وفشلهم في حماية أنفسهم بسبب فقدانهم للحذر والوعي الأساسي بالحياة، فالفرد الذي صار هو الضامن للعقد الاجتماعيّ والأخلاقيّ، لم يكن معترفًا به كيانًا مستقلًا ومتفردًا، ولكنّه كان جزءًا من المجموع، ولم يكن سوى عضو في جماعة اجتماعيّة أو طبقيّة، أو نقابة أو مؤسسة، ولم يكن يستمد وجوده إلا بالانتماء إليها والمشاركة فيها وبحمايتها ورعايتها، ولم تفطن برامج الثقافة والتعليم والتنشئة والعمل؛ كما الهُويات والعلاقات الاجتماعيّة والانتماءات إلى الفرد بما هو عالم بذاته، ويعرف فردًا متميزًا، وأمَّا الانتماءات المتعددة والمختلفة فهي إضافات إلى الفرد، وهي يجب أن تكون قابلة للتغير والزوال، وليس ثابتًا منها إلا الفرد! واليوم حين كنّا في حاجة إلى الفرد الفاعل والمسؤول والقادر وحده مستقلًا بذاته وجدناه على نحو غالب هشًّا؛ لا يدرك الحياة ولا المخاطر ولا الجمال ولا القبح، والحال أنَّ أزمة الفرد هي نفسها التي كانت سببًا في نجاح جماعات التطرف والكراهية المنتسبة إلى الدين والقوميات والأيديولوجيات المتطرفة في اختراق الجماعات واجتذاب المؤيدين والأنصار، لكن ولسوء الحظ لم يكن ممكنًا إقناع مخططي السياسات الاجتماعيّة بأهمية الفرد في مواجهة الكراهية والعنف! وأمَّا في مواجهة الوباء فإنّه يتشكّل اليوم إجماع على أهمية الفرد ودوره في المواجهة.
وكما نتساءل ببداهة وشعور بالصدمة عن إحجام الفرد في كثير من الأحيان عن حماية نفسه، بل وسلوكه سلوكًا خطيرًا على صحته وذويه ومن حوله، فإنَّ السؤال نفسه قائم عن سبب مخاطرة الفرد بحياته لأجل المشاركة في جماعات خارجة على الدين والقوانين والمجتمعات؟ إنَّه ببساطة "المعنى" الذي يعتقد المؤيدون للجماعات أنَّهم يحصلون عليه، وإنَّه لمن المحيّر كيف تجتذب هذه الجماعات الباحثين عن المعنى برغم أنّها لا تقدم المعنى! لكنّها الحيرة نفسها أيضًا التي تجتذب الشباب إلى جماعات تعمل وتفكر ضد نفسها، بل وتجعلهم يخاطرون بالخروج على القانون وإيذاء أنفسهم. والحال أنَّ قضية الانسياق في كلِّ أشكالها وتطبيقاتها تعكس الخواء.
"الناجون من الكارثة" يفكرون بإلحاح كيف نكوّن الفرد المستقل المبدع، والقادر على أن يعتمد على نفسه، ويحمي نفسه بنفسه، ويعمل بنفسه لنفسه، ويعلّم نفسه بنفسه، ويداوي نفسه بنفسه، وأن يستمد أهميته وسعادته من ذاته وليس من خارجها. هكذا فإنّنا نواجه، من غير مقدمات كافية أو صلة معقولة بالماضي، أسئلةً كبرى!
لكنَّها ثورة (الفردانية) واعدة بالمغامرة والإيجابيّة وعصر إنساني جديد. ليس أجمل من هذه المساواة الصاعدة، فعندما تصلني رسالة "أنستغرام" على الموبايل بأنَّ "سارا وآدم وناسا وناشيونال جيوغرافيك ووزارة الخارجية البريطانية والبنتاغون" قد أدرجوا في صفحاتهم صورًا جديدة؛ يتملّكني شعورٌ عميقٌ بالدهشة أنَّ الطفلة "سارا" والعامل" آدم" يملكان الفرصة نفسها على قدم المساواة مع الدول الكبرى والمؤسسات العملاقة!
الفرد وحدَه، مستقلًا، يسهم على نحو رئيسي في صياغة وتوجيه المنصّات الإعلاميّة والتجاريّة والخدماتيّة والتعليميّة المختلفة، وفي تحديد وجهة المؤسسات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فالعالم اليوم أو في الغد القريب يصوغه "المؤثرون"، وهذا "المؤثر"، قد يكون طفلًا يدرج أعماله في "يوتيوب" أو قارئًا مهتمًّا باقتصاد المعرفة؛ يبحث عن الوجهات الجديدة للثورة الصناعيّة الرابعة من الشبكة السحابيّة أو الطابعات ثلاثية الأبعاد، أو طالبَ علمٍ مجتهد يبحث في الصحة والغذاء أو في سياسات وأخبار العالم، أو مدوّنًا ناشطًا يحاول التأثير في الاستهلاك أو البيئة أو الخدمات الأساسيّة في محيطه الذي يعيش فيه، أو شاعرًا ينتج "الخيال" والصور الفنية الجميلة، أو فنانًا تشكيليًّا يشخّص الكمال الذي تمثله الطبيعة في مثال ملهم محسوس ندركه ونعيه أو نستلهمه، أو مثقفًا يحاول أن يجعل معرفته رسالةً للناس، أو معلمًا يحاول أن يوفّر أفضل خدمة تعليمية لتلاميذه، أو مشجعًا للرياضة يحاول أن يصل ناديه إلى أفضل النتائج،... هؤلاء وغيرهم يشاركون، على قدر كبير من المساواة، مع وزارات الثقافة والتعليم والبنوك وشركات الاتصالات والنوادي والصحف ومحطات التلفزيون وشركات الإنتاج الدراميّ والسينمائيّ، وصانعي القمصان والأحذية ومصمّمي السيارات والأجهزة، إنَّهم معًا يفكّرون في تواصلٍ وتوازنٍ عمليّ لأجل عالمهم الذي يسعون لتحقيقه، وينشئون تنظيمًا اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، ويرسّخون القيم والأفكار المنظِّمة للأعمال والأسواق والعلاقات الاجتماعيّة، هذه المليارات من المتواصلين مع الشبكة في كلِّ مكان؛ من الأطفال والشباب والكهول والرجال والنساء، كما كثير من الشركات والحكومات والجيوش والأجهزة الأمنيّة والاستخباريّة والمؤسسات التعليميّة والإرشاديّة والمنظمات الاجتماعيّة، والقراصنة والفضوليين والبائعين المتجولين؛ يفكرون معًا وينشئون عالمًا جديدًا وقيمًا جديدة، ويغامرون معًا بكل ما تعني المغامرة من إثارة وفوضى وخوف وطموح وسموّ وأهواء ومصالح وأفكار ولهفة، ولا يملك أحد اليقين أو الصواب.. ليس لدينا في هذه المغامرة سوى الخيال والنية الحسنة.
اليوم يفكّر المثقفون والمفكرون والأدباء إلى جانب السياسيين والمخططين، في حيرةٍ وشكّ، في عالمنا الذي يتشكّل؛ ولم يكتمل، وحاضرنا المتصدّع، لكن يبدو أنَّ عدم الاكتمال صار هو الحقيقة الأكثر وضوحًا وحضورًا في التفكير والتخطيط كما الثقافة والآداب والفنون بطبيعة الحال.
إنَّ الثقافة بما هي وعي الذات تنشئ فيما تقوم عليه من إبداع وخيال خطةَ طريقٍ للأفراد والمجتمعات والدول والأسواق والمؤسسات، لكنَّها في ذلك ليست مستقلةً عن العالم المحيط بها، وكما يقول الفيلسوفُ الكنَديُّ "مارشال ماكلوهان" (1911– 1980م) نصنع ونطوّر الأدوات، لكنّها أيضًا تحدّد ثقافاتنا وهُوياتنا، وتخبرنا من نحن. وبطبيعة الحال فإنَّ موجة التقنية الحديثة في سرعتها وتغيرها تجعل وعينا وخيالنا غير المستقل عنها يحمل طابع التقنية في تحوّلاتها وتسارعها، ثم ننشئ بثقافتنا ووعينا غير اليقيني أدواتٍ وتقنياتٍ يتسرب إليها الشك والفوضى.
وهكذا فإنَّ الثقافة أنشأت وبسرعة وكفاءة مدهشة حول هذا المخيم العالمي الجديد المؤقت وغير الواضح وغير المستقر، الذي لجأت الأمم جميعها (تقريبًا) إليه، عالمًا من التكيّف والاستقرار والصناعات والأدوات. ولو تأمل- اليومَ- أحدٌ من المثقفين من جيل السبعينيات وما قبل، فسوف يتذكر قدرًا كبيرًا من الأفكار والأشياء والأدوات وكذا القيم والاتجاهات الزائلة والمرتحلة، وأخرى تحلّ وترحل بسرعة، ثم بالإيقاع السريع اللاهث نفسه ظهرت واختفت أعمال فكريّة وأدبيّة وفنيّة كثيرة جدًّا. واختفى مع الاحترام والتقدير زمن نحسبه جميلًا مليئًا بالإبداع وأسلوب الحياة والفكر والعلاقات والعمل. حتى في السنوات القليلة الماضية احتفينا بأعمال أدبيّة وفنيّة كثيرة، ثم اختفت بسرعة، وكأنّها لم تكن سوى مهرجان بديع من الألعاب النارية الزاهية والمبهرة.
يمكن، وعلى نحو نكاد نتفق عليه، أن نلاحظ منظومةً راسخةً من الثقافة والقيم والفلسفات والأفكار التي تحيط بعالم اليوم، وأنَّ ما يتغيّر من المنتجات والسلع والأشياء والاتجاهات إنَّما يتحرك في إطار يكاد يكون ثابتًا ومؤسسًا لعالمنا الجديد والمدهش، الذي لسوء حظنا (أجيال السبعينيات وما قبل) لن يتاح لنا أن نشهده في نضجه وبهائه، ولكن يُرجح أنَّ الذين سيكونون أحياء في منتصف هذا القرن وما بعده، ويملكون الوعي والقدرة على تذكّر عالم ما قبل تسعينيات القرن العشرين الذي يمكن الإشارة إليه بلحظة انهيار جدار برلين (1989م)، سوف يكونون مصدرًا مدهشًا وملهمًا للشباب والناشئة الذين سوف يولدون في السنوات القادمة، ولم يعرفوا عالمًا سوى ما نصفه اليوم بالشبكية أو الثورة الصناعية الرابعة.
يصعد الفرد اليوم وغدًا، وتؤسس الفردانية للعالم في الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. فهذا الفرد الذي يتعلّم ويعمل من غير مؤسسات ومبانٍ وأسواق ومدارس وجامعات، يتحوّل هو بفرديته إلى ضامن للقيم والقانون بدلًا من أو مع المجتمعات والمؤسسات التنظيمية والعامة للدول والمجتمعات، وينشئ ذلك بطبيعة الحال متواليةً من المنتجات والسلع والتقنيات المعدة للفرد، أو تستمدُّ أهميتها وانتشارها من الفردانيّة.
ظهرت الدراجة الهوائية والآلة الكاتبة في أواخر القرن التاسع عشر، على الرغم من أنَّ إمكانية إنتاجها وتصنيعها كانت ممكنة تقنيًّا قبل ذلك بمئات السنين، فقد ظهرت المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر، وظهرت العجلة قبل آلاف السنين، لكن العالم الذي كان يحتكم وينظّم نفسه إلى قيم جماعيّة حازمة ودقيقة، لم يَدَعْ للفرديّة مجالًا لتؤثر في الحياة والتقنية كما الفكر والسياسة. وكانت الدراجة والآلة الكاتبة في محدوديتهما وضعفهما برغم أهميتهما وجاذبيتهما يعكسان مدى حضور الفرد والفردانية في الحضارات والمجتمعات. والمطبعة نفسها كان يمكن أن تظهر قبل عام 1435م بكثير، فقد كانت تقنية الألواح التي تنشئ نسخًا مكررة مطبقة في الصين قبل ذلك بمئات السنين، لكن صعود الشغف بالعلم والمعرفة به وتطوّر المؤسسات التعليميّة أنشأ أسواقًا مزدهرة للثقافة والعلم، وهذه أنشأت المطبعة. وكان البارود معروفًا في الصين كما عرفه العرب أيضًا، لكن لم يُطوّر إلى سلاح منظّم إلا في مرحلة متأخرة وبإغواء حركة الكشوف الجغرافية والنزعة إلى الهيمنة على الأسواق والطرق التجاريّة، وكانت قبل ذلك ولمئات بل آلاف السنين تنظّم نفسها على نحو اجتماعيّ ومدائني لا يحتاج إلى القوة المهيمنة.
وفي عالم الحرب نفسها ظهر السلاح الفردي الناري متأخرًا نسبيًّا، فقد كان الشعور بالحاجة إليه قليلًا أو معدومًا في عالم السيف والفروسية حتى بعد استخدام المدافع لمئات السنين؛ لأنَّ الفرد نفسه لم يكن شأنًا مركزيًّا في عالم الجيوش والدول والمؤسسات المركزيّة والمنظّمة تنظيمًا جماعيًّا.
وظلَّ اللباس حتى أوائل القرن العشرين يعكس انتماءاتٍ جغرافيّةً وطبقيّةً ومهنيّة، ولم يتحوّل إلى أسلوب حياة فرديّة إلا في العقود القليلة الماضية، ويشهد اليوم تحوّلات كبرى تعكس صعود الفرد ومزاجه؛ مثل طبيعته الزوالية في التصنيع والاستخدام، أو الإضافة المميزة في التصميم أو العلامة الخاصة بمستخدم واحد. وبالطبع فإنَّ «الموبايلات» والأجهزة الحاسوبيّة واللوحية المتحركة في سيادتها اليوم تعكس سيادة الفرد نفسه، وقيم وفلسفة الفردانيّة، ومنهجية إدراك حقائق الأشياء وتقويمها بناءً على فلسفة الفرد الذي يقرّر وجهة الصناعة والتجارة والمعرفة والمؤسسات.
كيف ستحدّد المجتمعات دورها وتنشئ القيم والاتجاهات والأفكار السياسية والاقتصادية في ظلِّ صعود الفرديّة الذي تبشر به الشبكيّة؟ الحال أنَّ المجتمعات تعرضت للإضعاف والتفكيك بفعل تغوّل السلطة والشركات والحروب، ولم تعد تملك السيادة التي بشّر بها "فولتير" و"توماس هوبز" كلا من وجهة نظره، ذلك أنَّهما رغم اختلافهما الكبير اتفقا على أن المجتمعات تحدّد الأهداف السياسيّة، واستخدام الموارد الاقتصاديّة، وتنشئة الفاعلين الاجتماعيين، ومعاقبة المنحرفين والخارجين على القانون.
لكن الدولة التي تغوّلت على المجتمعات وألحقتها بها تتعرض هي أيضًا للتغوّل والتفكيك والبيع والشراء، تسلّطت على الأنظمة السياسيّة والتشريعات جماعات من المرابين والمجهولين والجائلين والقراصنة. والكثير من المتسلّطين الجدد ليسوا مواطنين في الدولة التي يتسلّطون عليها، صارت الهيمنة على السياسات والمؤسسات الوطنيّة بما فيها الموانئ والمطارات والمناجم الكبرى والتعدين والطاقة والماء شركات وشخصيات أجنبية غير مرئية وغير معروفة تمامًا، حتى الانتخابات الأمريكيّة أصبحت عرضةً لتأثير واختراق هذه الشركات الجائلة!
وكما أنَّ الجديد لا يولد من جديد، بل من قديم؛ فقد تشكّلت الحداثة بفعل مكوّنات لا اجتماعية فرضت على المجتمع الخضوع لمبادئ أو قيم ليست اجتماعيّة؛ الحريات والحقوق الفرديّة، والعقلانيّة الاجتماعيّة والأخلاقيّة، ويبدو ذلك وكأنَّ المجتمعات التي أنتجت هذه الفرديّة وأدخلتها في التنشئة الاجتماعيّة تعمل ضد مبادئها المفترضة في تنظيم الناس وتشكيلهم وفق مبادئ وقيم جماعيّة شاملة.
وكما انفصلت المجتمعات عن المؤسسات الدينية لتنشئ الحضارة الصناعيّة، فإنَّ الذات الفاعلة تنفصل في الحضارة الشبكية (سوف تنفصل) عن المجتمعات لأجل خدمة الحرية الخلّاقة لكل فرد، ولتواجه العنف والهيمنة والاتجاهات السوقيّة والاستهلاكيّة متحررة من الانتماءات والقواعد المفروضة، ذلك أنَّ قوى السوق والعنف التي أضعفت المجتمعات والدول أتاحت في الوقت نفسه للذات الفاعلة أن تعمل وتتحرك مستقلة بذاتها، وأن تكون أكثر قدرة وتأثيرًا، بل وتستغني عن المجتمعات لتنشئ مجتمعات جديدة لا اجتماعية!
لكن كيف تتشكّل الأخلاقُ والقيمُ في ظلِّ هذا التغيّر الذي لم تعد فيه الأديان ولا المجتمعات منشئة أو ضامنة للأخلاق والقيم والتنشئة الاجتماعية والضبط والتنظيم الاجتماعي؟
عندما صعدت المجتمعات في مرحلة الصناعة بديلًا للمؤسسات الدينيّة والاقطاعيّة كان متوقعًا أن تتفكك المنظومة الدينية والأخلاقيّة الحامية للقيم والمجتمعات والأعمال، لكنَّها (المجتمعات) كانت بديلًا كفؤًا وفاعلًا، ولم ينحسر الدين كما لم تتلاشَ الأخلاق، وفي صعود الفرديّة بديلًا للمجتمعات والدولة، فإنَّ الضمير هو الضامن والبديل المتماسك والمتوقع ليعيد تنظيم وتطبيق القيم والأخلاق على النحو الذي تواصل به الإنسانية خطَّ سيرها الطبيعي في الارتقاء والتطور، ولا يخلو المسار بالطبع من المشكلات والأزمات والخسائر. لكن يمكن الاستدلال والملاحظة كيف صعدت على نحو غير مسبوق قيم حقوق الإنسان والحريات والبيئة والعالميّة والمشاعيّة المعرفيّة، وكيف تتزايد فرص النساء والفئات الخاصة التي كانت مهمشة ومستغلة في الأعمال والمواقع والمساواة والتأثير والتعبير عن ذاتها.
وعلى الرغم مما في ذلك من مساوئ وسلبيات تغري المتشائمين، فإنَّها بيئة اجتماعيّة واقتصاديّة تؤسس لمرحلة مليئة بالوعود والإيجابيات؛ فالمواطن الذي يواجه اليوم متطلبات الحرية والحياة الكريمة من غير دعم أو مشاركة من أحزاب سياسيّة أو منظمات اجتماعيّة أو مؤسسات حكوميّة، لا يجد مفرّا من أن يؤدي هو بذاته ما كانت تؤديه الأحزاب والمنظمات والنقابات والحكومات، ويبحث بطبيعة الحال عن الفرص الجديدة الممكنة.
والأفراد الذين يعلّمون أنفسهم معتمدين على الشبكة أو يحلّون مشكلات كثيرة كانت تحتاج إلى تكاليف ومهارات معقدة مثل الصيانة والتصميم والبحث عن المعرفة والمهارات والسلع والخدمات والتسويق والعمل.
الفرد؛ كل فرد تقريبًا، يمتلك اليوم من الكتب والأفلام والموسيقى والدراسات والأوراق العلمية والوثائق والمخطوطات والمحاضرات، وورش العمل والتدريب، والقدرة على الوصول والتواصل مع وسائل الإعلام والجامعات ومراكز الدراسات، ما يساوي إمكانيات الدول والمؤسسات الكبرى، ومؤكّدٌ أنَّ هذه الموارد الهائلة المتاحة للفرد تجعل منه قوةً جديدةً مؤثرةً تتجاوز السلطات والمجتمعات والشركات.