مصطفى أحمد نور الدين
كاتب ومترجم من مصر
هذه قصةٌ عن الرجل الذي يريد قتلك، لديّ شكوكي، ليس في الرجل أو في القصة، ولكن فيك.. أخشى أن أفعل كلَّ هذا من أجل لا شيء. اسمع: كنتُ سأصرخُ إذا كان لديّ فم، لديّ قصة، لذلك هذا ما سأستخدمه.
لقد رأيته من قبل، قد يعيش أيضًا في محيطك، إنَّه طويلٌ ويبدو أنَّه يحملُ وزنه في صدره وكتفيه، لديه خصرٌ وأرجل ضيقة تتناقص مع الأحذية الجلديّة الصغيرة. لا يعني ذلك أنك لاحظت أيًّا من هذا من قبل، لقد تمَّ تشتيتُ انتباهك، أليس كذلك؟
إذا أخبرتك أنَّ هذا الرجل نفسه كان يسير بجوار منزلك كلَّ يوم، وتوقّف للتحديق في نافذتك، فلن تريد أن تصدقني، لكن لا يمكنك القول على وجه اليقين أنّني مخطئ.
أنا لستُ على خطأ. قد يكون قريبًا جدًّا الآن، قد يكون حتى في منزلك. على أية حال، هناك العديد من أماكن الاختباء الممتازة، أليس كذلك؟ ظهر الخزانة، خلف ستارة الحمام، داخل الخزانة ..لكني أستبق نفسي، لقد وعدتك بقصة وربما لا يزال لدينا الوقت لذلك. أفهم، هذا الرجل ليس من زمانك، اعفيني من جهلك، هناك أشياء تتجاوز استيعابك، أنت أكبر من أن تعتقد أنّك تعرف الكون.
بعد عشرين عامًا من الآن، يعيش هذا الرجل على الساحل مع ابنته البالغة من العمر خمس سنوات. منزلهم، خليطٌ من الأخشاب الطافية والمعدن المموّج، يتمسك بجانب منحدر صخري. عندما ينهار المدُّ، يتناثر رذاذ الملح على النوافذ. السماء لون الفولاذ، والمياه سوداء مرقطة بالرغوة. كلُّ شيءٍ باردٌ وقاسٍ ومبلل، باستثناء ما بداخل المنزل. ينسكب الضوءُ الأصفرُ الدافئُ من النافذة، ويخرج إصبعٌ ثابتٌ من الدخان، من مدخنة مائلة.
في الداخل، يقرأ الرجل لابنته، يجلسُ على كرسيٍّ بذراعين، برتقاليٍّ باهتٍ بالقرب من النار، وهي مستلقيةٌ على بطنها أمامه، متناوبة التركيز على اللهب والصفحات التي تُقلّب بين يدي والدها."عندما تنتهي من هذه القصة، هل يمكنك قراءة قصة أخرى؟"
يقوم باستعراض النظر إلى نصف الكتاب الذي لا يزال متبقيًا ثم ينظر إليها مرة أخرى: "هل تعبت بالفعل من هذا؟" تهزُّ رأسها: "لا، أنا فقط لا أريد أن ينتهي هذا، لا أريدهم أن ينتهوا أبدًا."
يبتسم ويوافق، على الرغم من أنَّه يعلم أنّها ستكون نائمةً لفترة طويلة قبل أن يضطر إلى انتقاء كتاب جديد. هو يعرف كيف تشعر، لا يريد أن ينتهي أي من هذا، إنَّه يريد التمسّك بكل ثانية، وإغلاق أصابعه من حولهم والحفاظ على سلامتهم، ومنعهم من المضي قدمًا.
وفي تلك اللحظة يتحوّل كل شيء إلى اللون الأبيض، انفجار من الضوء الساطع الذي يحلّل المشهد إلى غبار، ثم يتلاشى. عندما يأتي الرجل، يتم تثبيته في وجه الجرف، منقوعًا، معلقًا على ارتفاع بضعة أقدام فوق الأمواج، وفوقه، بقايا منزله: زوجان من العوارض الخشبيّة الوعرة، وطرف برتقالي مبتور من كرسيه، تحته، محيط أسود كالحبر. ذهبت ابنته... سوف يبحث عنها لفترة طويلة.
ما وجده أخيرًا ليس ما يبحث عنه، يكتشف طريقه للعودة. لكن الابتكار ليس أبدًا أنيقًا كما يودُّ أيٌّ منا، يمكنه العودة فقط لعدد محدد من السنوات، قبل ولادة ابنته. لذا قبل أن يعود، يقوم بواجبه المنزلي، يبحث، يقضي ساعاتٍ في أرشيف متاحف الحرب، يتصفح الملفات، ويبحث عن شخص جديد. البحث عنك. وبعد ذلك يقوم بالقفزة، ويقفز إلى الوراء بضعة عقود، ويظهر على حاله، وإن كان يشعر بالغثيان من أثر بعض التعاويذ، إلى عالم متحوّل. تبدو الألوان أكثر إشراقًا هنا، والابتسامات أوسع، السماء تومض بشراسة، والعينان أكثر جوعًا وجوعًا. لكن بالطبع هذا ما سيراه، هو دخيلٌ، هنا عالم قديم شجاع.
في يومه الثالث بعد عودته، وجدك، ويتحدث إليك، يسألك عن الوقت. ترتجف يداه، عيناه لا تفارق عينيك: هل تذكر؟ لقد كان قبل عام أو نحو ذلك!!. تستمر مساراتك في العبور، لكنَّه يصبح أكثرَ حذرًا، ويصبح ظلًا خافتًا، داخل أركان حياتك وخارجها، منتظرًا، مشاهدًا.
- إذا أين هو الآن؟
- قريبًا قد تعرف أفضل مني.
- إنَّه يشدّد تصميمه الآن، مثل حبل المشنقة.
اسمع: لقد قتلت ابنة هذا الرجل، ليس بعد، ليس الآن. عشرون عامًا في المستقبل، هل ستجعلك تشعر بتحسن إذا قلت إن ذلك كان من أجل "قضيّة"؟ أم من أجل "الصالح العام"؟ إنّها حقيقة، على الأقل، من الصحيح أنّك ستخبر نفسك بذلك عندما يحين الوقت.
أنا أفهم أنَّك لست قاتلاً، ولا هذا الرجل ذو الأكتاف العريضة والحذاء الصغير الذي قد يكون في منزلك الآن. لكن السنوات تغيّرنا، القصص تغيّرنا، سوف تحمي عائلتك وأصدقائك عندما ترسل القنابل عبر البحر، وهو يعتقد، بقتلك، أنّه سينتقم لذكرى ابنته.
ربما ما زلت لا تصدقني، لكن فكّر: هل هناك أحد لِما ستفعله من أجل الحب؟ أي ثمن باهظ- للغاية- ستدفعه؟ سيكون لديك إجابة عن ذلك قريبًا، في السنوات الصعبة القادمة، سواء كان بإمكانك مواجهتها الآن أم لا.
أنتما الاثنان متشابهان جدًّا، هل تجد ذلك ممتعًا، مناسبًا؟ ربما لا... أنت تحبُّ الكلمات والحكايات والدراما والغموض والجنون في الحياة.
انظر: قصته هي جزء من قصتك أيضًا. لكن ليس أكثر من هذا، أخشى أن يكون الوقت قد فات، وقد فعلت كل ما بوسعي، استمع من فضلك.
ليس لي.
صوت، أيمكنك سماعه؟ إنّه داخل منزلك، ربما صرير الباب أو خطوة ناعمة مكتومة على السجادة، أو شهيق نَفَس ضحل ليس لك ...إنَّه هناك الآن، لا تركض، لا تطلب المساعدة. تذكّر القصة، إنَّه لا يريد أن ينتهي هذا، ليس هكذا، وليس في أعماق نفسه، وليس حيث يهم، هل تريد أنت ذلك؟ الظلُّ في الزاوية. إنَّه ليس ظلًا. حسنًا، لقد حان دورُك.