نضال القاسم
كاتب وناقد أردني
تُعدُّ الكاتبة نهلة الجمزاوي من أبرز الأدباء في الأردن، حيث تتميز تجربتها القصصية بأسلوبٍ خاصٍ يعتمد على التكثيف والإيجاز في اللغة، كما تشكّل الصور الشعرية أبرز سمات عالمها القصصي، وهي تُعتبر من العلامات المميزة في القصة القصيرة النسوية الأردنية المعاصرة، تشهد بذلك أعمالها المتتابعة التي شيدّت من خلالها هُويتها الإبداعية.
وفي مجموعتها القصصية الثالثة الصادرة عن دار فضاءات بعنوان (يدفنون النهر) تؤكّد الجمزاوي امتلاكها لمقومات القصّة القصيرة، وقدرتها على التقاط لحظة القصِّ والتعبير عنها بشاعريتها التي تعرفنا عليها في مجموعاتها السابقة "العربة" و"الولد في هذيانه"، فالمجموعة فضاءٌ جديدٌ في عالم السرد، وقصصها تحوي عددًا من الحالات والحكايات، وهي قصصٌ تمزج بين الواقعية والفانتازيا باقتدار، ونجد زخم الشخصيات والأحداث وتعددها، والتزاوج بين الفانتازيا وبين الواقع، لكن الجانب الواقعي هو الطاغي على الخيالي نظرًا لكونها بصدد التقاط صور من الحياة الواقعية بلغة مكثفة يختلط فيها الحزن بالفرح، والألم بالسعادة، والتحدي بالاستسلام، والتضحية باللامبالاة، وهي قصصٌ بالمجمل تتميز بثراء لغتها ووصفها غير المباشر لمشاعر الشخصيات، فهي تلتقط صورًا من الواقع الذي نعيشه ونعايشه في ثقافتنا ومجتمعنا، لتضعها بين يدي القارىء بغية تأملها وتحديد موقفه منها.
وتتميز الكاتبة في هذه المجموعة شديدة الثراء والتميّز بأسلوبها الخاص المتفرد في صياغة الجملة القصصية القصيرة، والتي تعتمد على الفعل والحركة في معظم الأحيان وعلى التكثيف والإيجاز في اللغة، كما أنَّ معظم قصص المجموعة تمتازُ باللغة والصور الشعرية دون ابتعاد عن متعة السرد القصصي، فالكاتبة مفتونةٌ بالنثر إلى جوار افتتانها بالحكاية، وفي قصصها نثرٌ أنيقٌ ينساب بسهولة وبلا فائض أو أي ثرثرة لجهة بنيتها التركيبية والنحوية، فهي تنقل لنا إيقاعَ الحياة ومسيرتَها في ومضاتٍ مكثفةٍ ومشاهد سردية مشحونة بالتفاصيل، وقد استطاعت الكاتبة أن تحكم ربط كل الخيوط المتناثرة وأن تحلَّ تعقيداتها باقتدارٍ سردي لافت، ودون مبالغة، وهي مهارة قلّ أن نجدها لدى الكُّتاب المعاصرين، فكثيرين يستهويهم السرد فيغوصون في تفاصيل عديدة، قد تشتت القارئ عن القصة أصلاً، وقد تكون، في حالات نادرة، مفيدة وفارقة!
وتهدف هذه القراءة إلى رصد العناصر القصصيّة في المجموعة، وتفكيك بنائها الفنّي، وتقنيّاتها السرديّة، ونصوصها في سياقاتها اللغويّة والجماليّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ثم إعادة تركيبها طبقًا لتصوُّرنا وتأويلنا؛ وذلك من أجل زيادة متعة القراءة لدى المتلقيّ.
وتتكوّن المجموعة من تسع وأربعين قصةً وحكايةً مستلهمة من قراءات الكاتبة الدقيقة وتأملاتها، فهي لوحاتٌ قصصيّة متباينة الحجم، ما بين قصة طويلة مثل "بائع الهوى" قد تصل إلى ثماني صفحات، فيما تقصر قصصٌ أخرى كما "تواطؤ" أو "بياض" أو "سوريالية" أو "شفافية" أو "تمرد" أو "مسرحية" أو "غربة القصيدة" أو "يد الكلمات" أو "ملامح القصيدة" أو "اسمها" أو "سيرة" أو "ظلام" أو "أظافر" أو "خزائن" أو "عبد الواحد" أو "عَطَبْ" أو "جرأة" إلى نحو يتراوح ما بين سطرين إلى عشرة أسطر فقط، وهذا تحكمه الحالة التي يعالجها السرد.
حتى في القصص المتوسطة الحجم نسبيًا مثل (مائدة البكاء) و(بائع الهوى) و(جسر النار) لا تسترسل الكاتبة في وصف المشهد وتفاصيله، وكأنَّها تعلم أنَّ لدى القارئ تصورًا عامًا بعد أن تعرّف على فكرة النص فإذا بها تنقل إليه المشهد بشكل آخر، باحترافٍ شديدٍ ودون استرسال أو إطالة لا طائل منها.
ولا بدَّ من التأكيد هنا على أنَّ الطول أو القصر في القصة القصيرة ليسا هما المشكلة، ولكن المشكلة هي كيف يستطيع القاص أن يتعامل بقصر النفس هذا أو طوله مع مادته القصصية، ومع ذلك يظلُّ مسيطرًا على الشخصية أو اللحظة القصصيّة، بحيث لا تفلت منه، أو تكون عبئًا على عمله السرديّ المكتنز، أو تجعله يخرج من إطار القصِّ ليتماس مع أشكال سردية أخرى؛ ذلك لأنَّ التعبير عن فكرة ما بأسطرٍ قليلة يتطلب من الكاتب دقةً في السرد، وتركيز الاهتمام على المهمِّ من خلال التكثيف الشديد، واختيار زاوية الرؤية الملائمة للنظر إلى الحدث والشخصية، وهذه مسألةٌ في غاية الأهمية، وقد نجحت القاصة بامتيازٍ بتحقيق هذا الشرط الفني، ففي قصة "تواطؤ" مثلاً يأتي عرض الحالة بسيطًا ودون تكلّف حيث نجد أنفسنا إزاء ذلك السارد الذي يحكي حكاياته بلغة مكثفة وبسيطة للغاية، وذلك على النحو التالي:"رأسي فارغةٌ من الحكايات تمامًا لأنّي ما زلت لا أفهم بالضبط حكاية قدومي إلى هذا الكون، عندما توطأ كلٌّ من أمي وأبي على إنجاز أخي الخامس، فخذلتهما بمجيئي...." انتهى الاقتباس، يدفنون النهر، تواطؤ، ص21.
أمَّا بالنسبة لأسلوب الكاتبة فإنَّه أسلوبٌ هادىء يجمع بين البلاغة والإيجاز، وكثرة الإيحاءات، دون أن تقع الكاتبة في شرك البلاغة الجاهزة، لكنَّها قد تلجأ أحيانًا وحسب مقتضى الحال إلى استعمال النبرة الحادة في التنديد بالاحتلال، أو تمجيد المقاومة، وقد يكون الطرحُ السياسيُّ المُباشر في بعض القصص التي تُكتب أثناء أزمة ما، طرحًا ساخنًا، يُقلّل من العناصر الفنيّة للقص، إلا أنَّ المعالجات الفنيّة الواعية التي لجأت إليها الكاتبة قد حالت دون الوقوع في هذا الفخِّ كما هو الحال في قصة "ذاكرة الجمر" على سبيل المثال لا الحصر، حيث استطاعت الكاتبة في هذه القصة أن تتجاوز الأسلوب التقليدي في الكتابة، وأن تحدث نقلةً نوعيّة على المستوى الفنّي، وأن تخدم القضية الفلسطينية التي تغيّرت معطياتها باستخدام طرق تعبير جديدة أسهمت في إخراج الفلسطينيّ من صورته النمطية.
وتتكئ "الجمزاوي" في أغلب الأحيان على الترميز؛ وذلك من خلال زجِّ القارئ في كمٍ هائلٍ من التفاصيل التي تأخذ شيئًا من الواقع، وتعيد طرحه متخيلاً، ومع ذلك يبقى هذا الواقع حافلاً بالأفكار، والبحث عن آثار الأشياء، وهذا ما يجعلنا نؤمن بأنَّ معظم القصص تتّخذ من تقنية القناع نسقًا مركزيًّا، فمعظم القصص تنتهي إلى حدود تجاوز الواقع، أو أنَّها القصص التي ينتزعها الواقع بمقاطع من خارج السرد التقليدي للحدث ووحدة اللقطة المأخوذة للحياة من زاوية المتألم المتأمل في آنٍ معًا.
إنَّ قصص "الجمزاوي" في المجمل ترتكز على موضوعات ذات صِلة مباشرة بالإنسان العربي المقهور، إذ تطلُّ قصصها على أزمنة معاصرة حافلة بالموت المجانّي، والقهر والفقر، إذ أخلَصَت القاصّة لواقعها المعيش وللشخصيات التي أنتجها هذا الواقع عبر رسمها المتدرج، الهادئ والسلس، والمؤدي إلى قوّة الإقناع ببساطة التسلسل منذ الجملة القصصية الأولى، وكانت في ذلك كلّه على قدْر من السيطرة على موضوعاتها، فأرهفت حواسنا على مفارقات الحياة، وأرتنا كيف تمتدُّ جذور مآسينا الشخصية إلى عصب الحياة الإنسانية المعاصرة، بكل زخمها وشعريتها.
وأمَّا السخرية في المجموعة، فهي تنتشر على امتداد معظم القصص، وهي أسلوب لإدانة الشخصيات، ومواقفها وقيمها، فالشخصيات الإيجابية في قصص المجموعة هي الشخصيات الثانوية، في حين تجد أغلب الشخصيات مدانة، فهي شخصيات مأزومة، مهزومة، وفي بعض الأحيان تأتي قصص المجموعة من زاوية السخرية غير المعلنة، تلك التي تُفسح للكاتبة حيّزًا واسعًا يمكنها من التنقّل بين عدّة ثنائيات متضادّة، كالفرح والذعر، القوّة والضعف، الشجاعة والخوف، وأخيرًا الحياة والموت، ويحضر الأخير كجزءٍ من المشهد التي فضّلت الجمزاوي أن يكون مجرّد خلفية لقصصها تارةً، ومُحرّكًا لأحداثها تارةً أخرى، وذلك كيلا يطغى بحضوره الغليظ على الأحداث، ويُفسد بذلك جوهر القصص.
والحقيقة أنَّ الحديث عن قصص المجموعة مغرٍ ومستفز يجعل المرء يستعيد بالفعل قراءتها مرة ثانية، فقصة مثل "بيت الأوجاع" وما تبعثه في النفس من شاعريّةٍ رغم ألم الفقد الموجود فيها واختزالها للحالة كلها في ثلاث صفحات ونصف فحسب، يشعر الواحد بالغبطة والإعجاب فعلًا من هذه القدرة على تخليق متخيل إبداعي يفوق الواقع المشهود في كثافته وجماليات شعريته.
أمَّا الغرابة فهي حاضرةٌ في قصص المجموعة، ويمكنّنا القول إنّها غرابة مُستمدّة من رغبة شخصيات نهلة الجمزاوي في أن تكون قويّة تارةً، أو أن تنجو من هول ما هي فيه تارةً أخرى، وفي بعض القصص، نعثر على هاتين الرغبتين معًا، لا سيما في قصة "يدفنون النهر" وهي القصّة الثانية من المجموعة التي حملت المجموعة كاملةً عنوانها.
ويمكننا القول إنَّ نهلة الجمزاوي في قصصها نادرًا ما تقدّم لنا لغة الحب المقترن بالفرح، إذ تبدو هذه العاطفة محاطة لديها بالمنغصات الداخلية والخارجية، لذلك يمتزج الحب بالحزن، مما يحيله إلى عبء ثقيل تسعى القاصة للخلاص منه في كثير من الأحيان، وبذلك عايشنا الحب وقد أحاطت به الهموم والمسؤوليات؛ فتحوّل إلى منغص من منغصات الحياة، وأصبح مرادفًا للسأم والحزن والخوف!
وتؤكّد الكاتبة أنَّ اللغة وسيلتها لرصد المواقف واللحظات الخاصة التي تعبّر عنها في قصص المجموعة على السواء، حيث يمكننا أن نلحظ ذلك ببساطة في قصة قصيرة مثل "لو كان الفقر رجلاً" التي تلتقط فيها مشهد (عبد القوي) وهو يحاول أن يقضي على الفقر ظنًّا منه أنَّ الفقر يتمثّل برجلٍ واحد، وإذا به يكتشف أنَّ الواقع بغاية القتامة والصعوبة، وأنَّ الناس في بلاده على اختلاف أشكالهم وألوانهم يعانون من الفقر، وبهذا فقد استطاعت القاصّة من خلال مشهد لا يتعدى الدقائق، ولكن الكاتبة تثبّت الكاميرا عليه وترصد تفاصيله بدقةٍ في صفحتين ونصف، واستطاعت أن تقدّمَ وثيقةَ إدانة لصنّاع الفقر الحقيقيين من الفاسدين المتنفذين، حيث تقول: " توقف منقلاً بصره في أروقة الشارع الضيق، احتار في أمره، أيّ منهم الفقر ليقتله، فهو لا يعرف الطريق إلى الموائد الكبرى التي يُعَدّ عليها الفقر ليوزع على الخلائق كوجبات جاهزة، بل سار مفتشًا عن أشكاله التي حفرت أخاديدها في وجوه المارّة...." انتهى الاقتباس، يدفنون النهر، ص11.
أمّا في قصة "بائع الهوى" فتبدو القاصة أكثر تماسكًا وإلمامًا بالفكرة ومحتواها، حيث يعكس الحوار الكثير من طبيعة الشخصيات ومواقفها ببساطة بالغة لدرجة أنّني أراه حوارًا مثاليًا في هذه القصة، فقد استُغلّ الحوارُ الذي جرى بين الشخص التائه الغريب وبين الفنانة (أزهار)، أو تحديدًا بعض المقاطع الحوارية، للتعبير عن أفكار أو قضايا معينة، فيما يبدو أنَّ الحوار يشكّل الفضاء الأنسب لها.
غير أنَّه لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الحوار يؤدي في معظم قصص المجموعة وظيفته الفنيّة المكملة لوظيفة السرد، وفي هذه الحالة لا يكون عبارة عن كلام مباشر بين الشخوص، بل كلام يسهم في إبراز أبعاد الشخصيات العاطفية والفكرية، وبالتالي يبرز الأبعاد الدرامية للأحداث والوقائع، وبذلك يشكّل عنصرًا بنائيًّا يتكامل مع العناصر الأخرى كما في قصة "ثقوب الناي"، حيث أسهم الحوار في إبراز صفات الوعي والنضج في شخصية العازف والحبيبة، وهذا ما نلاحظه أيضًا في نصوص أخرى مثل قصة "جحيم على هيئة امرأة" التي يشغل فيها الحوار حيزًا مهمًّا من المساحة النصيّة، بحيث يهيمن صوت الزوجة المحبطة الحاقدة على صوت الزوج الوديع المسالم، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى مسألةٍ في غاية الأهمية؛ وهي أنَّ شخصية الزوجة التي تشعر بالإحباط تشكّل- بحقٍّ- قاعدةً عاطفيّة لتكوين الشخصية، وقد يتبادر إلى الذهن أنَّ هذه الشخصية، بما لديها من أحاسيس الإحباط والألم والضياع وما إلى ذلك، هي شخصيّةٌ سالبةٌ ثابتةٌ لأنَّها سئمت من الفقر ومن الحياة الزوجية الرتيبة المليئة بالوعود الكاذبة، وفي الحقيقة أنَّ شخصية الزوج الذي يرقد إلى جوار زوجته منذ عشر سنوات وينام بعمق ولا يحسُّ بالثورة المتأججة التي تسكن قلب زوجته التي تنام إلى جواره، هي أيضًا شخصية سالبة ومستسلمة وخانعة للواقع، ولا تسعى أبدًا لإحداث التغيير.
كما حرصت الكاتبة في العديد من قصص المجموعة على أن تغوص في دواخل شخصياتها أكثر لمتابعة ما يدور بدواخل هذه الشخصيات، حيث نجد أنفسنا أمام ثلاث قصص في المجموعة تبدو متصلة منفصلة، وبينها تداخلات سرديّة متعددة، وهي على التوالي(أزمة لغة) و(المعقّد) ثم (المعقدّة) حيث تُسرد المواقف والحالة النفسية لأبطال هذه القصص من خلال استخدام تقنية "تيار الوعي" إذ تُدوّن أفكار البطل والأحداث التي تمور في عقله وعلاقته بكل ما حوله من خلال أفكاره الخاصة جدًا، والتي قد لا ينطق بها أصلاً للناس من حوله، وهذا التعامل مع البناء النفسي للشخصيات كان له تأثيره الإيجابي في بناء النص القصصي، ولا سيّما في بناء الشخصيات التي تبدو في بعض الحالات تحت رحمة الساردة أو الكاتبة، فاقدة لاستقلالها وتفردها، وخاضعة لزاوية نظر محدّدة، مما جعلها تقترب من بعضها من حيث الطباع والانفعالات والمواقف.
إنَّ هذا الإحساس وما يترتّب عنه من أفعال وردود أفعال قد يعطي صورةً عن عدم قدرة الشخصية على التحرُّر من أزماتها، كما يعطي صورةً عن حدّة المواقف العاطفية والنفسية لدى الشخوص التي توحي بأنَّها في بعض الحالات منفصلة عن واقعها الاجتماعي، والحال أنَّها عوامل دينامية متحركة، تتطلع إلى واقع أفضل، متحرر، وعادل، الأمر الذي طبع أقوالها وأعمالها في حالات معينة بملامح رومانسية خصوصًا في الحالات التي تعترضها عوائق تحول بينها وبين تحقيق رغباتها المعلنة والمضمرة.
نقرأ في المجموعة أيضًا قصصًا تفيض بالبشاعة والوحشية الكامنة في النفس البشرية؛ ضمن كتابة مُغايرة تُعرّي الواقع وتعرضه لنا من زوايا مختلفة ومأساوية، قصصٌ تجيء متخمة بالعنف والحكايات الغريبة بأشكالها المتعدِّدة، وتخفي خلفها خطابًا سياسيًّا وأيدولوجيًّا، كما في قصة "مائدة البكاء" والنهاية الحزينة المؤلمة للشهيد "عصام" الذي اغتالته ثلةٌ من الجنود الصهاينة بطريقة بشعة أثناء قيامه بطلاء جدران مقبرة البلدة.
من هذا المنطلق، واستنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إنَّ المجموعة القصصية "يدفنون النهر" اعتمدت على عناصر القصِّ من شخصيات وأحداث وأزمنة وأمكنة، مقدمة ذلك بلغة سردية تتخذ من التكثيف الدلالي وسيلة لإثارة التأويلات المختلفة لدى القارىء، وقد استطاعت الكاتبة عبر مهارةٍ بعيدة عن البهرج والزخرفة، أن توظف في مجموعتها القصصية مجموعة من الملامح الشكلية والأسلوبية التي تتميز بها القصة القصيرة بصفة عامة، كتوظيف التراكيب الفعلية، والإكثار من الأفعال الحركية، وسرعة الإيقاع، وتنويع المقدمات والخواتم، وتشغيل الصور السردية، والحجم القصصي القصير جدًّا، والمزاوجة بين التعيين والتضمين، وتشغيل الانزياح، وتوظيف الإيحاء، والترميز، وتوظيف حرفيات فنون عرض الصورة المرئية المسموعة بتقنياتها المتعددة في بنائها السردي.
لقد اشتغلت الكاتبة في هذا العمل المليء بالمتناقضات على أكثر من ثيمة، بدءًا من حالة السأم والتناقضات التي تعاني منها الشخصيات، مرورًا بطرائق السرد المختلفة، وصولاً إلى ما تتناوله القصص من تناقضات الواقع، كالحب والموت، الحقيقة والحلم، الحب والكراهية، الماضي والحاضر، الحرية والحنين، إلا أنَّ هناك عاملًا مشتركًا تصبّ فيه القصص كافة؛ هو الصراع مع الحياة، والرغبة في الخلاص من الماضي أو الحاضر إلى مستقبل أفضل.