د. أسامة أبو الغنم
باحث دراسات تاريخية.
لا بدَّ من استحداث رابطٍ بين التماثيل المكتشفة مؤخرًا في البادية الجنوبية الشرقية وبين موقع عين غزال الأثري، فكلها تعود حسب تاريخها التقريبي إلى منتصف الألفية السابعة قبل الميلاد ومنتصف الألفية الثامنة قبل الميلاد، أي وجود تقارب زمني نوعًا ما بينهما. وعلى الرغم من درجة إتقان تماثيل عين غزال بالمقارنة مع الاكتشافات في البادية الجنوبية؛ إلا أنَّ هناك أشياء مترابطة يمكن ملاحظتها بينها؛ فهي تندرج تحت تاريخ الأردن القديم، وهي تماثيل تشكّل إشارات مهمّة لفهم الحراك الاجتماعي في الأردن خلال تلك العصور.
فقد ركّزت هذه البنية الشكلية بشكل قوي على الوجوه في عمل نحتي وبنائي، أسست لشكل تركيبي وفق قوانين الإنسان الخاصة؛ والمتمثلة أساسًا على تماثل الوجوه، بعيدًا مثلًا عن التماثيل الأولى للعالم القديم التي ركّزت على الأجزاء الأخرى من الجسم البشري؛ مثل: الصدر والعجز؛ وغيرها من تصاوير الحيوانات. فتكون تلك التماثيل قد أرست لشيء جديد مفاده نظرة الإنسان أولًا إلى نفسه قبل رؤية الآخر؛ وهذا يعني تناسب المناخات الاجتماعية والنفسية للتصوّر في الأردن القديم، ترتبط بالمنتج إذ جاءت من تصورات سائدة ناشئة من فكر جمعي لديهم.
هذا الاجتهادُ الفنيُّ أظهر ملامح التماثيل التي تستند إلى بنية شكلية خاصة، إذ لا تحتوي التماثيل مثلًا على شارب أو لحى، كما جاءت تلك التماثيل على هيئة الوقوف بانتصاب كامل ربما تعكس سببًا ما يزال مجهولاً حتى اللحظة. وربما كانت رموز مفاهيمية تختلج بها نفوس صانعيها، ذات مضامين دينية أو اجتماعية أو فنية.
وإذا أخذنا بنظرية ( Robertson Smith ) المتعلقة بنقاء أعراق الشعوب غير المختلطة، والتي شكّلت جماعاتٍ منعزلةً نوعًا ما عن المحيط؛ ما يثبت أصالة الفن والمحتوى المتعلق أساسًا بنقش الوجوه، ورسمها ونحتها ( بتصور الوجوه) دون سواها، كما في تماثيل البادية الجنوبية خلافًا لتماثيل عين غزال التي جاءت أقرب ما يكون بهيئة كاملة، لكن مع التركيز على تفاصيل الوجوه بشكل أكبر ولافت. وكأنَّها تحاول خلق هُوية خاصة تتمثل في الوجوه تحديدًا؛ لخلق خطابٍ إنسانيٍّ معين بوجوه وأجساد شابّة.
يمكن الانطلاق في تفسير الاكتشافات التاريخية من منطلقات عدة أبرزها:
1- الارتباط الديني: إذ مثّل تجمع الصيادين المكتشف في البادية الجنوبية والمتّخذ شكلَ الحوطة، مفاهيم قريبة لمعنى الحرم المقدس، فهذا الحمى المدوّر والمبين في حدوده يعطي انطباعًا قريبًا للوضوح للتفسير الديني في ارتباط تجمع الصيادين لأغراض طقوس دينية، يمارسون فيها شيئًا من العادات المرتبطة بجلب البركة والتوفيق في الصيد، ولعلَّ مفاهيم البركة هي التي سيطرت على هذه الطقوس التي انساقت أساسًا نحو الخصوبة والغزارة في الصيد، مع جانب مهم يتمثل في عودة الصياد سالمًا.
لذلك جاءت تلك التماثيل لتمثّل في وعي الصياد إدراكًا عقليًّا بضرورة وجود حامٍ له خلال رحلة الصيد؛ ولأنَّ خير ما يمثل العون والحماية وجود رفيق قوي خلال رحلة الصيد، تمخض هذا الوعي عن نحت وجهٍ آدميٍ عظيمِ الهيئة، قوي البنية كالصخر؛ ليكون بمثابة درع حماية من أنياب الوحوش ومخالب الكواسر.
فكان القربان له شيء من عظام الحيوانات المحترقة وجلودها وبقاياها، والتي ربما كانت أقرب ما يكون إلى نصيب الحامي وجالب البركة، كنوعٍ من القرابين التقدمية التي شكّلت في ميثولوجيا البشر الأولى أهم الطقوس الدينية، والتي كانت في ذلك الزمان بصفة جزئية وغامضة لا يمكن تحميلها الكثير من التأويل.
2- الارتباط الاجتماعي: مثَّل تجمع الصيادين مثلاً نوعًا من الاجتماع البشري القديم، وهذا التجمّع قائمٌ أساسًا على المنفعة ونوازع وجدانية تتعلق بالبشر وطباعهم. وفي تلك التماثيل تصورات تقوم على الاجتماع وميدان الوليمة ومفاهيم الأثافي الحجرية اللازمة لاكتمال الولائم؛ والتي ترتبط بشكل واضح بالتجمّع؛ لذا كانت هذه التماثيل تمثّل سكانًا من نوع الجماد ساعة غياب الصيادين في هذا المكان المعد بغرض التجمّع واللقاء؛ فتكون الأجساد حاضرة دومًا فيه، ولها إشارات غير حية على وجود تجمع بشري مدفوعًا باللقاء والاستقرار المؤقت أو الدائم فيه. ولعلَّ مفاهيم الروح والجسد قد تبينت لدى هؤلاء الصيادين؛ عبّر عنها وجود التماثيل الحجرية كبديل مؤقت عن غيابهم في رحلات الصيد وغيرها.
3- الارتباط الفني؛ مفاهيم الأنا والأخر
لا يمكن إنكار وجود فنٍّ واضحٍ في نحت هذه التماثيل، بدا من تدوير الوجه ورسم العينين الكبيرتين، والذي يمكن ملاحظته في تماثيل عين غزال الجصّية وتماثيل البادية الجنوبية المكتشفة مؤخرًا. وهذا يقود إلى نواحٍ جماليّة معروفة لدى الأردن التاريخيّ والمرتبط بشعبه منذ القدم؛ والتي تجدُ في العيون الكبيرة والواسعة واستدارة الوجه قيمةً للجمال ومقياسًا له. كما يمكن ملاحظة نوعٍ من التجانس في تلك التماثيل المكتشفة؛ يظهر جليًّا من وجود تمثال برأسين في عين غزال، والذي يبدو أنَّه يرمز إلى الرجل والمرأة على حدٍّ سواء، حينما يكوّنان في النهاية أسرةً مكتملة. وفي تماثيل البادية الجنوبية يظهر وجود تمثال أكبر حجمًا من الآخر والذي يقود إلى تفسير الأب والابن، وهي أقرب إلى تعابير العون في الصيد بذكورية التماثيل.
يفضي كلُّ ذلك إلى وجود مفاهيم الأنا والأخر؛ مفاهيم الأسرة والذرية حين تعبّر عن نوعٍ من الاجتماع القائم على الأدوار والمهام في تلك التجمعات البشرية القديمة.
ختامًا؛ هذه الأشكالُ الفنيّةُ القائمةُ على التصوير تعبّرُ عن أسلوبِ حياةٍ قائمٍ على شيء من الاستقرار والتجمّع، وعن قدرٍ عالٍ من الوعي الذي مكّن الصانع من رسم مخيالٍ معين يختلج في نفسه، بعيدًا عن التأثر بالثقافات الأخرى، إذ يمكن تسويق هذا النتاج باعتباره نتاجًا حضاريًّا شاملًا لنواحي حياة الإنسان في الأردن، ويشمل الروحية والاجتماعية والفنية، وهي ذات صلة بواقعه؛ تجلّت بالمحصلة بهذا النتاج الحضاري المهم.
المصادر والمراجع:
1- روبرتسن سميث، ديانة الساميين، ترجمة عبدالوهاب علوب، مصر، 1996م
2- يوسف شلحد، بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده، ترجمة خليل احمد ، بيروت 1996م.
3- نتائج الكشوفات الأثرية لمشروع البادية الجنوبية الشرقية الأثري.
4- زيدان عبد الكافي كفافي، عين غزال قرية أردنية عمرها عشرة آلاف عام، مجلة دراسات في آثار الوطن العربي.