زكرياء الزاير
شاعر وباحث من المغرب
لقد تحوّلت مجريات الحياة والمجتمع العربي بدءًا من خمسينيات القرن العشرين إلى اليوم، وتحوّلت معها قضايا الشعر ومفاهيمه ولغته، فلم تكن "لغة تعبير بقدر ما هي لغة خلق"( ). هذه التحوّلات بدورها انعكست على الشاعر العربيّ في ذاته وحركت وعيه ووجدانه، فكان الشعر، وفقًا لذلك، أكثر انفتاحًا وجرأةً، كما كان كذلك، مستجيبًا ومتعاطيًا مع نزعة التحديث التي أصابت الفكر والمجتمع العربيّ في هذه الفترة، وظلّت مستمرةً إلى حدود اليوم. كل ذلك غيَّر بشكل جذري الشعر اليوم، وحرّك دهشة أكبر في التلقي والتناول. كونه فعلًا إنسانيًّا محضًا، يشير بخاصة إلى الإنسان عامة، وبصفته كائنًا اجتماعيًّا وجب عليه نقل خبراته وتجاربه إلى الآخر المماثل له، وتعميمها عبر وسيلة معينة (المكتوب/ النص).
إذن؛ فجانبُ التواصلِ مهمين ضمن عملية الكتابة الشعرية؛ من هنا تصير الكتابة فعلًا إنسانيًّا يحقّقُ شرطَ التواصل، باعتبار المكتوب عملية تندرج ضمن عدة محدّدات، وهي الكاتِب والمكتوبُ له والكتابة؛ فالإنسانُ بحاجة دائمة إلى الآخر المماثل له لنقل أفكاره (المكتوبة)، والاستفادة من هذا الآخر في إطار تبادل المعارف، كأفكار نظرية يستعملها في حقلٍ معرفيٍّ معين، فتحضر الكتابة هنا ممارسة ودربة تفضي إلى هذا النقل المعرفي وفق شروط معينة. " إنَّ الكتابة الطبيعية، والكونيّة، والكتابة القابلة للفهم وغير الزمنيّة، إنَّما هي مسمّاة هكذا على سبيل المجاز. أمّا الكتابة المحسوسة، المتناهية ...، إلخ فمحدّدة ككتابة بصريح التعبير: وهنا تكون (الكتابة) مُفكّرًا بها ضمن الثقافة والتقنية والحيلة artifice: إجراء بشري" ( ). لا محيد إذن أن تكون الكتابة خاصية بشرية محضة.
هذه المجرياتُ من شأنها أن تقوِّم رؤى للتعبير عنها، رؤى تتجسد من خلال القصيدة كشكلٍ كتابيٍّ تعبيريّ، يسعى من خلاله الشاعر المعاصر إلى الإفصاح عن كيانه. ولا شكَّ أنَّ مهند ساري شاعر يُكمل هذا المشوار الإبداعيّ رفقة كوكبة من مجايليه، أمثال محمد العزام وتركي عبد الغني وعبد الله أبو بكر وآخرون. يكتب وفق رؤية حديثة وعميقة للشعر، ويُحدث أشكالًا وأنماطًا جديدة في قصيدة التفعيلة. يتماشى ذلك مع مواكبة التجارب الشعرية وحالات اليأس والغربة والتمزق والنزعة الوجودية، مستثمرًا إيقاعاتٍ جديدةً مستوحاة من الواقع؛ استكمالًا لما عرفه الشعرُ العربيُّ الحديث منذ النصف الأول من القرن الماضي على يد أدونيس، ومحمود درويش، ونزار قباني، وعبد المعطي حجازي، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، ومحمد بنيس وآخرين.
يقول في قصيدة "سرطان":
خُذْ دَواءَكَ في وقته.
قال: أَمْرَضَني الوَقْتُ، يا صاحِبي.
إِنَّ وقتي، على هذه الأرضِ، دائي
ولكنّني أَتَلَبّثُ فيها على ما تَرى
ثُمّ أَقْطَعُها مَرَضًا مَرَضًا ...
هكذا يَقْطَعُ الجسمُ هذي
الحياةَ الصّغيرةَ وهْيَ تُقَطِّعُهُ!
ليسَ للنّفْسِ، بينَ بَلاءَيْنِ
مِنْ.. فُرصَةٍ للشِّفاءِ!
قُلْتُ: فاحْمِلْ وُجودَكَ، مِثْلي، على
ما تُهَيِّئُهُ دابّةُ الاستعارة يا صاحبي،
هكذا قَطَعَ الشُّعَراءُ الحياةَ
على ما تَحَمَّلُ فيها المعاني مِنَ
الوَجَعِ الضّخْمِ
وانْفَرَدُوا
بالغِناءِ.. لهذا الشَّقاءِ(...)( )
وأنت تطالعُ هذا المقطع من قصيدة "سرطان" تستوقفك اللغةُ التي يستعملها، وكأنَّها كائنٌ حيٌّ يتحرّك ويتنفس ليتجسد من خلال استحضارات غاية في الإدهاش. بدأ بالعنوان الذي يحيلك على معطى دلالي، هو مرضُ السرطان الذي أصاب أحد أصدقاء الشاعر، وكيفية توظيفه في القصيدة من خلال لغةٍ محملةٍ بمجموعة من التفاصيل التي تحكي عن المرض. طارحًا بذلك الشاعر مجريات هذا الحدث (المرض) في قالب شعري مفتوح على اللحظة بكل ما تحمله من معاناة وألم. وتلك نبرةٌ موجودةٌ بكثرة في شعر مهند ساري. نمثّل لها بنصٍّ آخر من شعره. يقولُ في قصيدة "من كتاب الطّيور":
(...)
أَنتَ.. / دُونَ اكْتراثٍ بأَوْبِئةِ
النّاسِ، تُزْمِعُ تَخْرُجُ!
ماذا ستَفْعَلُ في السُّوقِ - سُوقِ
الخُضارِ؟!
وأَمْسِ اشترَيتَ خُضارًا، ولَمْ
يَبْقَ شيءٌ تَشَهّيتَهُ.. ما اشتَرَيتَهْ!
أَنتَ.. / مِنْ أَجْلِ ماذا تَعوْدُ إلى
شِعرِ أَصحابِكَ الجاهليّينَ؟!
كمْ مَرّةً قد قرأْتَ دَواوينَهمْ كُلَّها
وابْتُليْتَ بأَشْجانِهِمْ ونَحيبِ الصّدى؟!
أَيُّ شِعرٍ يُخَلّيْكَ نَحوَ ثلاثينَ عامًا
تَصُبُّ على رئتيكَ وقلبِكَ نِيرانَ
هذا الجَلالِ.. وَزَيْتَهْ! (...)
هكذا يستمرُ مهند ساري من خلال لغته في إدهاشنا مستعملًا تقنيات السرد، التي تنفتح على مشهدٍ إنسانيٍّ مرهف أحيانًا، يمتح من ذاكرة الشاعر وعلاقاته بالآخر الصديق والأب والأخ والحبيبة. مجسّدًا بذلك علاقته بقصيدته التي تحكي جزءًا من انشغالاته اليومية والإنسانية. فالشعرُ هو تعبيرٌ عالٍ للذات وهي تفصح عن خيباتها وجروحها وأفراحها "في تماسٍّ بل تماهٍ – أحيانًا – مع الأنا الجمعيّ، حيث ينهدم الحدُّ، ويتغبّشُ الفاصلُ، ويهوي الحاجزُ الدلاليُّ العام"( ). فتصير القصيدة تعبيرًا فطريًّا صادقًا بين الشاعر والمتلقي، فلا يمكن الفصل بين الفكريّ والشعريّ والإيقاعيّ والتركيبيّ، وإنَّما يمكن تتبع كلَّ واحدٍ منهما وتحديده بحسب المرجع الذي يؤسس له.
يقولُ:
يَغيْبُ طويلًا بِحاضرِهِ
.
.
.
ما عَرَفْتُ بآخِرِ هذي السّنينَ ابنَ
عَمّيَ ...
كانت لنا في الحياةِ حياتانِ:
أَمّا أَنا فانشَغلْتُ معَ المُلْقياتِ على
النّاسِ ذِكْرًا.. لكي أَمْسَحَ الحُزنَ عنْ
أَبَدِ الضّوءِ ... فيْمَنْ مَسَحْ
وابنُ عمّي استَعَدَّ لِعَيشٍ أَخَفَّ
وعِبْءٍ أَقَلَّ
ولَمْ يُلْقِ بالًا لِمَسْأَلَةٍ في كِتابٍ
ولا.. مُقْتَرَحْ!
لذلك يمكن النظر لتجربة مهند ساري الشعريّة، على أنَّها تجربةٌ فنيّةٌ تكمن قيمتها في الوسائل الفنية التي تمدُّها بقيمٍ جماليّة مرتبطة بحركيّة الشعر المعاصر، الذي استطاع أن يفتح قنوات جديدة للتواصل والتعبير مرتبطًا باللحظة التي يحياها الشاعرُ بكلِّ ما تحمله من تفاصيل صغيرة متمردة ومختلفة؛ لأنَّها لا تستجيب للتوجيه، بل تفرض ذاتها؛ معيارها وقانونها الذي "يستكنُّ في كيفيات تشغيلها العين، والمخيال، وترويض اللغة، واستنزال مفارقات الدلالة، وتباعدات المعنى"( ). وفي هذا "ما يخالف جذر الكلمة (شعر). فهذا الجذر يتيح لنا أن نعيد النظر في المصطلح السائد للشعر، وأن نوحّدَ بينه وبين الفكر، من حيث إنَّه لا يكتفي بأن يحسّ بالأشياء، وإنّما يفكر بها"( ). فيسير بنا إلى الأبعد.. إلى حيث فطرة الشعر ودهشة التلقي.