علي شنينات
كاتب أردني
من المعروف أنَّ الكتابة الإبداعيّة بكل أشكالها هي انعكاس طبيعي لما يحدث في الواقع، وهي نتاج للتجارب والتأمّل والاف، وهي أيضًا رؤيةٌ واستشراف ورصد. فقد دأب الكتّاب والمبدعون على مرّ العصور والأزمنة على توثيق اللحظة بكل انفعالاتها وتجليّاتها، على شكل قصيدة أو أغنيةٍ، أو لوحة فنيّة، أو على شكل روايةٍ أو قصة، منهمكين برسم عواطفهم وعواطف الآخرين في تلك اللحظة، وتسجيل الأحداث والكوارث التي يعايشونها. على سبيل المثال نقلت لنا قصيدة "الإلياذة" ما نقلت عن حياة الإغريق ومعتقداتهم وحروبهم في ذلك الزمن، وعرفنا الكثير عن حياة العرب وتقاليدهم عن طريق الشعر الجاهلي، وهكذا.
من هنا وقد عشنا تحت وطأة جائحة "كورونا" وما خلّفته من موتٍ وحزن وفقد، وما كنّا عليه من قطيعة وتباعد وحجر، وهذا التراجعُ الاقتصاديّ على مستوى الدول والأفراد، ومن خلال متابعتي للإصدارات السرديّة على وجه الخصوص خلال الأعوام الفائتة، رأيت أنَّ العديد من كتّاب السّرد المعروفين قد وقفوا على حياد من هذه الجائحة، ولم تصدر لهم أعمال تتناول هذا الموضوع أو تشير إليه، وبعض الأعمال التي صدرت ذهبت إلى مواضيع أخرى، سياسية أو اجتماعية أو إنسانية، بيد أنَّ بعض الأعمال السردية التي انهمكت في رصد بعض المعالم والوجوه لهذه الجائحة، قد جاءت خجولة ومتسرعة -كما يراها بعض النقّاد- ولم تلامس العمق الحقيقي للجائحة وتأثيرها النفسي والإنساني، وأنَّ على كتّاب السّرد أن ينتظروا حتى تمرّ هذه الجائحة وتأخذ الفكرة وقتها حتى تختمر، لكي يتسنّى الإلمام بكل التفاصيل والخيوط التي تؤدّي بالنتيجة إلى عمل سردي أكثر عمقاً ودلالة.
من جانب آخر ثمة رأي تبنّاهُ بعضُ الكتّاب والنّقاد، بأنَّه لا يجوز تأطير الأدب بشكل عام والسّرد بشكل خاص بمرحلة زمنية معيّنة، أو بفترة مرض أو جائحة، بل إنَّ لحظة الإبداع مفتوحة، تهاجم الكاتب بغتة فيتقمّصها، فتفرض شكلها وموضوعها، سواء تطرقت إلى الجائحة أو لم تتطرّق، هي أدبٌ يحتكم إلى مقاييس العمل الإبداعيّ.
الشاعر والناقد الدكتور إبراهيم السعافين يرى أنَّ الأمر يتوقّف على مدى استيعاب التجربة من الناحيتين الفكرية/ الفلسفية والفنية بالقدر الذي يمكّن الكاتب من تقديم شخصيات روائية قادرة على حمل التجربة النّاضجة. وعلى هذا النحو ليس لديّ حكم معياري على زمن الكتابة. ولعلي أرى شخصيًّا أنّ الكتابة بعد نضج التجربة في وعي الكاتب وفي خياله قد تتيح عمقًا أكبر، بعد استعادة الحدث وكل ملابساته المختلفة بعد حينٍ من الزّمن.
الناقد الدكتور غسان عبد الخالق يحسب أنَّنا نشقُّ على أنفسنا كثيرًا بهذا الخصوص؛ فإن نحن سردنا ظللنا نتساءل عن مدى نجاحنا في هذا السرد، وإن لم نسرد ظللنا نجلد أنفسنا لأنَّنا نستوف هذا الاستحقاق! والأصل فيما أرى يتمثّل في أن نترك أنفسنا على سجيتها؛ فنكتب إن شعرنا برغبتنا الحقيقية في الكتابة، ونتقبل فكرة عزوفنا عن الكتابة إن لم تسعفنا قرائحنا.
ما يعنيني في هذه المسألة هو العمل بإخلاص وصدق على توثيق الجائحة، بكلِّ الطرق المتاحة ودون تصنّع أو مبالغة في التساؤل عن مدى تفوقنا، لأنَّ الإجابة على التساؤل رهينة الزمن وذائقة الأجيال القادمة التي ندين لها بواجب الرصد والتسجيل والتشكيل.
بناءً على ما تقدم، فأنا لا أسمح لنفسي بلوم كاتب لأنَّه لم يكتب عن الجائحة لسبب أو لآخر، وأتعاطف مع كل من رصد ووثّق الجائحة؛ بالصورة أو بالكلمة أو بالصوت؛ باللوحة أو بالقصيدة والقصة والمسرحية والرواية واليوميات أو بالموسيقى والأغنية. إنَّ الدرس الأكبر الذي استخلصته من الجائحة يتمثل في الانتباه للتفاصيل، والإصغاء باحترام شديد لكل من يملك الرغبة في سرد هذه التفاصيل من وجهة نظره الخاصة.
الكاتبُ والروائيّ مفلح العدوان قال إنَّ الأدب هو الأدب، الكتابة لا تتعلق بالمناسبة، ولكنَّها في حقيقتها وجوهرها تتأثر به ولكن لا تأخذه عنوانًا كاملًا. هناك من كتبوا عن الحبِّ في زمن الحرب، وعن الإلحاد في أوقات تصاعد مدِّ الإيمان، ولذا فلا أعتقد بوجود أدب يُسمّى أدب كورونا، هل هناك أدب الملاريا أو الكوليرا أو الطاعون، أو سارس أو الإيدز.. هناك أدبٌ يُكتب في كلِّ مرحلة ولكن من الصعب حصره، وحصاره بالعناوين والمناسبات والأحداث، أعتقد أنَّ في ذلك ادعاء كبير. الكتابةُ فعلٌ إنسانيٌّ لا تحدّه موضوعات ومناسبات معينة. نحن نكتب في كل الظروف وإذا حاصرنا الإبداع ضمن عنوان محدّد أو مناسبة معينة أو حدث ما، نفرغه من بعده الذاتي وفضائه الإنساني، هناك كتابات مجتزأة ربما، لكن لا أظن أنَّها في مثل جائحة كورونا يمكن أن ترتقي لتكون عنوانًا إبداعيًّا جامعًا كبيرًا نضعه تحت عنوان مثل أدب كورونا، أو الرواية الكورونية، أو القصيدة الفيروسية، أو القصة الجائحية.
الروائية سميحة خريس أوجزت بأنَّ السرد يحتاج إلى زمن تنضج فيه رؤية الأحداث وفهمها، فما بالك بهذه الغمة! أعتقد أنَّ علينا أن ننتظر لنسرد ما يحدث في رواية، ولا ينطبق ذلك على القصيدة أو القصة القصيرة.
الناقدُ والباحثُ محمد سلام جميعان قال إنَّ مَهمَّة الأدب الحقيقية هي التعبير عن حركة الحياة في مختلف مناشطها. وما أنتج لغاية الآن من أعمال أدبية أو فنية وظّفت محنة كورونا لم يبلغ درجة ملامسة مأساة الوجود الإنساني. فما زال الأدباء والفنانون العرب يعانون انعدام البصيرة الفكرية والرعب الغريزي الذي صوّره البرتغالي "ساراماغو" في روايته "العمى". فقد انشغل المثقفون والفنانون العرب بالمظاهر التي عكستها الجائحة ولم يقفوا عند النتيجة النهائية للحدث، والتي تتطلب وقتًا لهضم نتائجها وانعكاساتها على الوجود الإنساني لتمثيلها إبداعياً. فالعملية الإبداعية في غاية التعقيد والزمن جزء أساسي منها، فثمة انفصال واضح بين المثقف والفنان، والموقف الإبداعيّ.
لقد وقع المثقفون والفنانون فريسة رصد التحوُّلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي شكّلتها الآلة الإعلامية الغربية. ولهذا أصبحت الهمومُ الإنسانية الجديدة مادةً لأعمالٍ تجاريّة شبه أدبية سريعة الإعداد، تمامًا مثل الوجبات السريعة. فأين نحن من الإصغاء لتنهيدة الإنسان في صراعه مع الرأسمالية المتوحشة التي نقلتنا من الإمبريالية العسكرية (مصانع الأسلحة) لنصبح ضحايا للطب الإمبريالي من خلال مختبرات الأبحاث، والتمدّد تحت جناح العولمة، لإعادة تشكيل الأسواق؛ والبحث عن مسارب جديدة للربحية الرأسماليّة؟!.
تعبيرُ الإبداع هو اصطلاحٌ نخبويٌّ يؤشر إلى طبيعة الخطاب المحيط بالظواهر، لذلك فهو فعلٌ لاحقٌ وتابع؛ وما زال الأدباء والفنانون يعيشون تحت وقع الصدمة مثلما تعيشه مجتمعات الأرض جميعًا، فما أُنتج إبداعيًّا هو انفعالاتٌ وردود فعل، وليس أعمالاً أدبية عميقة. ففي الفن التشكيلي استثمر الفنانون "الكمّامة" في أعمالهم، لكنهم لم يبرزوا لنا العلاقة بين الحاجة إلى التنفّس لتحقيق البقاء وتكميم الأفواه والحاجة إلى حرية التعبير الذي صادرته الحكومات، وكيف يتنفس الإنسان حريته. لقد اكتفوا بالتعبير عن أنَّ "الكمامة" تشوّه جمال وجه الإنسان، وكذلك لم يربطوا بين المكان المغلق والعزلة والانفراد، ومساحة الحياة الإنسانية في عالمنا التي جعلت الوطن مكاناً مؤلمًا لا تُطاق الإقامة فيه، تتمدّد وتتجول فيه الحيوانات البرية، فيما الإنسان محروم من حرية التنقل والسفر.
لقد فرح الأدباء والفنانون للعزلة القسرية ومجّدوها، لكونها وفّرت لهم مساحة من الوقت تتيح لهم تحقيق التفرغ الإبداعي الوبائي، الذي لم ينتج سوى فن وأدب غير ملتزم تجاه قضايا الإنسان، وغير مفهوم بالمعنى الإبداعي، فالمواليد الإبداعية في زمن الجائحة ما تزال في حاجة إلى حاضنة الخَداج ليكتمل نموّها.
الناقدُ مهدي نصير قال إنَّه عبر التاريخ كانت الكوارث والجوائح محركًا للحكاية والأسطورةِ والموسيقى والفولكلور الشعبي، حيث كانت الثقافات تعبر عن انتصارها على هذه الجوائح بسردياتها المختلفة (الشعبية منها والنخبوية)، وكانت هذه السرديات ترياقاً لمقاومة الشعوب وقدرتها على التكيف والمقاومة والتجاوز. في السرديات الشعبية تتسلل تبعات الجوائح مباشرةً عبر النكتة والمفارقة والأغنية السريعة، وعبر الحكايات التي تستدعي جوائح سابقةً وكيف واجهها المجتمع وتجاوزها، نجد ذلك الآن عبر وسائل التواصل الاجتماعي كحاملٍ جديدٍ للسرديات الشعبية.
في الأدب العالي والسرديات النخبوية كان التعبيرُ السرديُّ يتأخر لمرحلة ما بعد مرور الجائحة وتجاوزها وتوظيفها في إطارٍ إنسانيٍّ عالٍ محمّل بقيم المقاومة وقوّة الإنسان وارادته في تجاوز المحن القاسية، نجد ذلك في الآداب العالمية التي تناولت طاعون القرن التاسع عشر في أوروبا، وكوليرا القرن العشرين بعد عقودٍ طويلةٍ من انتهائه ( طاعون البير كامو وحب ماركيز في زمن الكوليرا نموذجًا)، الجوائح والكوارث تترك ندوبًا وآثارًا عميقةً في السلوك البشري الجمعيّ والفرديّ، وتحتاج للتعبير عن آثارها هذه بعمقٍ للزمن الذي ينضجها في أتونه الدائم الاشتعال، مع ملاحظة أنَّ كثيرًا من الكتَّاب يحاولون تقليد بعض الأعمال العالمية الناضجة عبر اقتباس تسمياتها وإلصاقها بأعمالٍ سريعةٍ وفجَّة، وهذه الأعمال لا تعبر بالتأكيد عن السرديات الحقيقية العميقة القادرة على قراءة هذه الجوائح وآثارها في بعدها الإنسانيِّ العالي.
الناقدُ والشاعرُ الدكتور عمر العامري قال إنَّ هذا السؤال، في تقديري، على بساطته، لا يمكن الإجابة عنه بصورة حادّة وحاسمة، فلا يختلف اثنان على كون الكتابة فعلًا سيكولوجيًّا معقّدًا ومركّبًا، تتزاحم فيه معطيات اللغة والتفكير والذّات والشّعور والوعي واللاوعي... في تشابك يضرب في أغوار النفس الإنسانية المبدعة، ومن ثم فإنّ الكتابة الإبداعية، عادة، ما تفرض نفسها بنفسها على المبدع، بمعنى أنّها فعلٌ موقوت، تمامًا مثل الولادة، فإذا ما اختمرت الفكرة ونضجت الرؤيا في داخلك فإنّ النّص سرعان ما يقودك من يدك، ويرشدك إلى أقرب وسيلة تدوين متاحة لتكتب، وليس بوسع المبدع، هنا، إلا أن يذعن لسلطة النّص/ الفكرة، وإذا أجّلها، غالبًا ما تنسرب من بين أصابعه، فلا يستطيع أن يمسك بها من جديد، وإذا اجتهد وحاول فلربما يقبض على ظلال باهتة لتلك الفكرة التي ألحّت عليه في ذلك الحين. من هذا المنطلق، ينبغي للمبدع أن لا يلجأ إلى تحيين الكتابة، أي فرض حين محدّد لممارستها، كأنْ يجلس ويقول لنفسه الآن أريد أن أكتب نصًّا إبداعيًّا حول كذا، صحيح أنّ الجائحة محفّزٌ قويٌّ، والعزلة التي تتيحها الجائحة تعزّز الرّغبة بالكتابة وتُغري بها، لكن يبقى النّصّ الإبداعي المكتوب هو من يفرض نفسه من حيث النّضج أو عدمه.
ومن الجدير بالذكر، أيضًا، أنّ لطبيعة النّص أثرًا كبيرًا في نجاحه أو إخفاقه في مثل هذه الظروف، فمثلًا اليوميّات التي تكتب في زمن الجائحة غالبًا ما تكون نصوصًا ناجحة، لأنّ الكاتب يرصد حدثًا يجري أمامه، ويوثّق شعورًا ينتابه، فيغرق في التأمل الفلسفيّ ويتنبّه لأدقّ التفاصيل التي لم يكن ليتنبّه إليها لولا طول المكوث والضّجر الذي يدفعه إلى التحديق في تفاصيل كثيرة، كان يعدّها فراغًا قبل ذلك، بينما قد لا ينجح جنسٌ أدبيٌّ آخر كالقصيدة أو الرّواية لكونهما جنسين أدبيّين لهما خصوصيتهما الفنّية والفلسفية والفكرية، ولا سيّما الشّعر، الذي ينتحي إلى الرؤى الميتافيزيقيّة، أكثر من نزوعه إلى الواقع، وإن كان يوظّفه ويفيد منه كثيرًا.
الروائيّة سحر ملص قالت إنّني أعتقد أنَّ رصد الحدث أثناء حدوثه، يكون مفعمًا بالدهشة والارتباك، صحيح أنَّه قد يحمل في طياته عاطفة متأججة، لكنَّه لا يلمّ بكل جوانبه، وهذا ما حصل مع جائحة " كورونا " التي لم تكن على مستوى محلي فقط، بل هي حدثٌ عالميٌّ، أصاب الناس بالبلبلة والارتباك، وظهرت التفاسير والشائعات حول هذا الفيروس الذي عطّل العالم وشلَّ حركته وحصد الكثير من الأرواح، فهناك من تبنّى نظرية الحرب الجرثومية الكيماوية التي انطلقت من مكان ما في العالم بأيدي علماء، وهناك من عزاه إلى تطوّر طبيعي للفيروس، ومهما تكن الأسباب وراء ذلك فقد أربك العالم. أمَّا رصد مثل هذه التجربة سرديًّا، وبعد مضي فترة من الزمن، فإنَّ ذلك يعطي للسارد، بعدًا وأفقًا أكثر شمولية، ورؤيا أكثر اتساعًا، ومحاكمة الحدث عقلانيًّا والنظر إليه من زوايا مختلفة، لذلك أنا أميل إلى الانتظار كي تتضح الرؤيا وتظهر النتائج، فتكون التجربة أنضج والسرد أعمق.
القاص ناصر الريماوي قال إنَّ أوّل ما يمنح هذه الجائحة تفردًا وخصوصية هو وحدة الشعور الإنساني تجاهها في كل مكان من العالم ودون أية استثناءات، وفي وقت زمني واحد.
هذه المشاعر على اختلافها وتنوّعها لم تكن متكلفة بكل تأكيد، بالإضافة إلى عفوية التفاعل مع كل متعلقاتها، من ظروف استثنائية مستجدة، وغرائبية غير مألوفة أو متوقعة.
لهذا فاقتناص اللحظة الشعورية المشتركة، الراهنة، على امتداد الكرة الأرضية برمتها، لتجسيدها عبر خلجات إبداعية متواصلة، يعمرها النبض العام، المشترك والعفوي، من خلال التشكيل الفني أو السرد الحكائي، هو أمر لا يمكن تفويته، أو أن نغفل عن أهميته.
في الوقت الراهن من الجائحة، الكتابة الأدبية هي ابتكارٌ، وفي الوقت ذاته هي اقتراب من الحسِّ الإنساني العام في محاولة للتماهي معه. وهذا من شأنه أن يتحقّق دون اكتمال يقيني للتجربة الخاصة في هذه الجائحة، حتى دون أن يتطلب الأمر استحضارًا أو حضورًا أرشيفيًّا من الكاتب.
فقط يكفي أن يبتعد الكاتب بمحاكاته عن التسطيح لينجو ببعض المزايا الجمالية لما يكتب، وهذا يكفيه، ويكفي المتلقي مرحليًّا.
الناقدُ الأستاذ موسى أبو رياش قال إنَّ جائحة "كورونا" الحدثُ الكوني الأبرز، والهمُّ الذي يؤرق الجميع على مستوى الأفراد والدول والمؤسسات، ولذا ليس من المستغرب أن يلتفت الأدباءُ إلى هذه الجائحة غير المسبوقة في سرعة انتشارها وآثارها، وما واكبها من إجراءاتٍ لم يتخيل أحدٌ حدوثها يومًا ما.
وعند الحديث عن تسريد هذه الجائحة، ينبغي أن نفرّق بين أمرين: الأول أنَّ جائحة "كورونا "من جانبها الطبي لم تكتمل فصولها بعد، وما زالت تضرب بعنف هنا وهناك، ولا يعرف أحد متى تضع الحربُ أوزارها، خاصّةً وأنَّ الفيروس ما زال يتطوّر ويتحوّر، وتتكرر الإصابة به عدة مرات، ولذا فإنَّ توظيف الجائحة من هذا الجانب، مغامرة متسرعة، حتى وإن كانت جزءًا من العمل، والأفضل الكتابة بعد مدة معقولة من السيطرة على المرض، وكلُّ كتابة عن الجائحة الآن كتابةٌ غير ناضجة، سرعان ما تفقد صلاحيتها.
الأمر الثاني: إنَّ ما واكب الجائحة من مشاعر وحظر وحجر وخوف وفقد وخسارات وحزن وألم، وتغير العادات الاجتماعية، والاعتماد بشكل متزايد على العمل والمعاملات والتعليم عن بعد وغيرها، كل ذلك راكم خبرات وتجارب كبيرة ونوعية، وخاصّة عند المبدعين الأكثر حساسية وملاحظة وتأثرًا، لما عانوه شخصيًّا أو المقربين والأصدقاء والمعارف، وكل ذلك وفر مادة غزيرة ثرية، تدفع المبدع للكتابة عن هذه الجوانب والتجارب، ويجب أن يفعل؛ تفاعلًا مع الناس من حوله وآلامهم ومعاناتهم ومشاعرهم وخساراتهم، وآمالهم بالانتصار على الفيروس، والعودة إلى حياتهم دون خوف أو قلق.
وبشكلٍ عام، فإنَّ الكتابة عن الجائحة بأيِّ شكل، حقٌ لكل من يريد، وللقارئ الكلمة الفصل، وهو جندي في معركة " كورونا" لا يرغب أن يقرأ عنها، فهو يعيشها، ومهما كُتب عنها، فلن يقارب حقيقتها وواقعها الأليم، إلا إذا كانت الكتابة إبداعًا يفوق التوقعات.