د. عبدالله أحمد جرادات
أكاديمي وباحث أردني
"Abdullah Jaradat" <abdjaradat@gmail.com>
كلنا يعلم ما لشتاء من أهميّةٍ في حياة الشعوب عامة، وفي حياتنا نحن الأردنيين خاصة، كون الأردن واحدًا من أشحّ دول العالم في المصادر المائية، ولهذا ينتظر الأردنيون عامة والمزارعون خاصة هطول الأمطار بتلهف، ويأملون أن يكون الموسم المطري في كل سنة أفضل من سابقه. والأمثال، كونها خلاصة تجارب الأجيال السابقة، لم تترك الشتاء دون أن تأتي على ذكرها، وبيان أشهرها وتفصيل تقسيماتها الزمنية الشهرية والصغرى، وطبيعة الأحوال الجوية خلال كل فترة، كما جاءت الأمثال على ذكر سلوكيات الناس خلال الشتاء، وتصرفاتهم الواجب اتباعها من حراثةٍ وزراعةٍ ورعي وتنقل وإقامة، وتوقعاتهم المبنية على مؤشرات جوية. وبهذا تصبح الأمثالُ خلاصةَ تجارب الأجيال السابقة وعبارات استرشاديّة يستدل بها الأردنيون على ما يجب فعله وما يمكن توقعه.
وقبل أن أدخل في صلب الموضوع، سأتحدث عن منهجية الدراسة.
أولًا: لمناقشة هذا الموضوع جمعتُ ما يزيد على سبعين مثلًا متعلقة بالشتاء من كتاب الدكتور هاني العمد "الأمثال الشعبية الأردنية". ثانيًّا: قمتُ بتقسيم الأمثال إلى قسمين مطابقين للموضوعين المذكورين أعلاه. يشملُ القسمُ الأول تقسيمات الموسم الشتوي الشهرية والصغرى، وطبيعة الأحوال الجوية فيها. أمَّا القسم الثاني فيشمل سلوكيات الناس وتصرفاتهم خلال الشتاء. ثالثًا: سأحاول أن أجعل الأمثال نفسها تتحدث عن الشتاء لا أن أتحدث عنها بنفسي ككاتب. رابعًا: جاء العنوان "الشتاء في الأمثال" لأنَّ الشتاء أو الموسم الشتوي بما فيه من ظواهر جوية يبدأ قبل التقسيم الفلكي لفصل الشتاء الذي يبدأ في الثالث والعشرين من شهر كانون أول (ديسمبر)، ويمتدُّ إلى الحادي والعشرين من شهر آذار.
القسم الأول: أشهرُ الشتاء وتقسيماتها والأحوال الجوية في كل فترة:
كلنا يعلم أنَّ فصل الشتاء يبدأ في الثالث والعشرين من شهر كانون أول (ديسمبر) ويمتدُّ ثلاثة أشهر حتى الحادي والعشرين من آذار، رغم أنَّ الشتاء وما يرافقه كظاهرة جوية من رعد وبرق وبرد وثلوج قد تبدأ قبل كانون أول، وقد تمتدُّ إلى ما بعد آذار. وفصل الشتاء هو ذروة الموسم الشتوي بما يشهده عادةً من أمطار غزيرة وبرد شديد وظروف جوية قاسية.
فبعد أن ينقضي "آب اللهاب"، الذي يُعدُّ ذروة فصل الصيف، تبدأ درجات الحرارة بالانخفاض رويدًا رويدًا، ويدخل في مكنون الناس أنَّ الشتاء قادمٌ؛ فيقولون: "أيلول ذيله مبلول"، والذي يعني إمكانية هطول الأمطار في نهاية الشهر. وحين يبدأ تشرين أول، يستبشر الناس خيرًا بقرب هطول المطر، ويحاولون تناسي المثل القائل: " بين تشرين وتشرين صيف ثاني". وهذا مثل متداول بين الناس مع عدم محبتهم له، فاستخدامه يدلُّ على تأخر الأمطار الأمر الذي يجعل الناس أكثر نزقًا، وخوفًا، وتحسبًا فيستخرجون من ذاكرتهم كل ما اختزنوه من وسائل لمواجهة هذا الخطر القادم كصلاة الاستسقاء، فترى الناسَ يلهجون بذكر الله وقدرته رافعين إليه أكفَّ الضراعة ليغيثهم بأمطارٍ تُنبت الزرع وتدرُّ الضرع وتكون خيرًا ورحمةً للبشر والدواب.
فإذا جاء كانون أول، تأكّد لدى الناس الشعور بأنَّ المطر قادمٌ لا محالة، ففي نهاية كانون أول يبدأ فصل الشتاء رسميًّا، وتنخفض درجات الحرارة إلى أدنى مستوى لها. ورغم أنَّ كلمة كانون في الأمثال لم تُحدِّد هل المقصود كانون أول أم كانون ثاني، إلا أنني أستطيع القول إنَّ المقصود هو كانون ثاني لأنَّه يضمُّ واحدًا وثلاثين يومًا من "المربعانية" التي تُعدُّ ذروة فصل الشتاء. وردت كلمة كانون في خمسة أمثال؛ أول هذه الأمثال هو: "بين كانونين، يا شقي لا تسافر"، ويدعو المثل الناس لالتزام بيوتها وعدم السفر بين شهري كانون، وذلك لأنَّهما أبرد أشهر الشتاء وأغزرهما مطرًا. أمَّا المثل الثاني فهو "شمسة كانون مثل الطاعون"، ويخبرنا المثل أنَّ شمس كانون مسببة للأمراض، ويجب الحذر منها، فهي مخادعة. والمثل الثالث هو "كل شي بهون إلا عتمات كانون" ويدلُّ المثل على سوء الأحوال الجويّة، وقسوتها وغزارة الأمطار فيها في شهري كانون؛ وخاصّةً كانون ثاني. ويصوّر المثل أنَّ جميع مصاعب الحياة سهلة بالمقارنة مع ليالي شهر كانون. والمثل الرابع فهو "مثل شمسة كانون" ويضرب المثل للتشبيه بين شخص مخادع لا يؤمن جانبه وبين شمس كانون المخادعة، التي توهم الناس بارتفاع الحرارة، وتحسن الأحوال الجوية بينما تنخر عظامهم، وتصلُ إلى نفوسهم فتهزها هزّا. وخامس هذه الأمثال هو "بعد كانون، الشتا بهون" ويبين المثل أنَّ كانون (ثاني) هو ذروة الشتاء، وبعد انقضائه يتنفس الناس الصعداء تيمننًا بخفة الظروف الشتوية.
ويمتدُّ فصل الشتاء ثلاثة أشهر أو تسعين يومًا، يقسمها الأردنيون إلى قسمين الأربعينية أو "المربعانية" وخمسينية الشتاء أي خمسين يومًا. ويعتقد الأردنيون أنَّ "المربعانية" إن دخلت على نشاف أي دون أمطار، ستبقى كذلك حتى نهايتها، وهذا ما يعبر عنه المثل "إن دخلت عنشاف، خرجت عنشاف". ولم أجد مثلًا آخر حول "المربعانية"، ولعلَّ أمثال الكوانين قد طغت على أمثال "المربعانية". فإذا انتهت "المربعانية" مع نهاية كانون ثاني، بدأت خمسينية الشتاء مع بداية شهر شباط (فبراير). وتمتد خمسينية الشتاء من الأول من شباط إلى الحادي والعشرين من آذار (مارس).
ويقسّم الأردنيون أو لنقل سكان بلاد الشام "الخمسينية" إلى أربع فترات متساوية طول كل فترة منها اثنا عشر يومًا ونصف، ويسمونها سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد سعود، وسعد الخبايا على الترتيب. وتكثر الأمثال المتعلقة بشهري شباط وآذار وتلك المتعلقة بالسعودات الأربع. وتجمع جميع الأمثال في شهر شباط على أنَّ الشهر متقلبٌ والظروف الجوية فيه أقلُّ حدةً من ظروف شهري كانون. ومن هذه الأمثال "شهر شباط إن شبّط وإن لبّط ريحة الصيف فيه" ويعني أنَّه مهما ساءت الأحوال الجوية فيه، فإنَّ رائحة الصيف فيه. أمَّا المثل "شمسة شباط بتخلي الراس مثل المخباط" فيشير إلى شدة شمس شباط التي تشعر من يتعرض لها كما لو أنَّه تعرض لضربة بالمخباط، وهي عصا طويلة تُستعمل لضرب الملابس عند غسلها. والمثل الثالث هو" مثل شباط ما على كلامه رباط"، ويستخدم المثل لتشبيه شخص لا يتمسك بكلامه ويغيره على الدوام بالأحوال الجوية المتقلبة والمتغيرة على الدوام في شهر شباط. ورابع الأمثال هو "مثل غيمة شباط"، ويستخدم لتشبيه شخص ما لا يمكن معرفة صدقه من كذبه بغيمة شباط التي لا يمكن معرفة إذا ما كانت ستمطر أم لا. والمثل الأخير هو "يا شباط شو خليت وراك؟" والمثل سؤال على لسان شخص ما - ويقول البعض على لسان شهر آذار- موجّه إلى شهر شباط الذي كانت في تلك السنة أمطاره غزيرة وظروفه الجوية قاسية، فيسأله السائل: ماذا أبقيت خلفك؟.
ويضمُّ شباط فترتين زمنيتين من تلك التي يسميها الأردنيون سعودات هما سعد الذابح وسعد بلع، وأول ثلاثة أيام من سعد سعود. وفي سعد الذابح يقول المثل " سعد الذابح بخلي الكلب ينابح" للدلالة على قسوة الظروف الجوية خلاله، ففيه ينتصف فصل الشتاء. وفي سعد بلع يقول المثل " سعد ابلع الدنيا بتشتي والأرض بتبلع"، ويشير المثل إلى غزارة الأمطار دون أي إشارة إلى قسوة الظروف الجوية كتلك الموجودة في سعد الذابح. وثالث السعودات هو سعد سعود ويبدأ في آخر ثلاث أيام من شهر شباط ويمتدُّ إلى التاسع من شهر آذار، وفيه يقول المثل " سعد سعود بتطب المية بالعود"، ويدلُّ المثل على اشتداد تشرب النباتات بالماء خلال هذه الفترة، فتزهر الأشجار، ويشتد ساق الأعشاب وتنتشر بسرعة. ويمتد آخر السعودات من التاسع من آذار إلى الحادي والعشرين منه، وبه تأخذ ملامح الشتاء بالاختفاء وتبدأ ملامح الدفء بالظهور، ويقول المثل "سعد الخبايا بتطلع الحيايا وبتتفتل الصبايا"، والحيايا هي الأفاعي؛ وهي كائنات ذات دم بارد لا تحتمل البرد على الإطلاق فتختبئ، وتبدأ بالظهور مع الدفء القادم، والقسم الثاني من المثل يدل على الدفء أيضًا.
وفي آذار، قيلت مجموعة كبيرة من الأمثال، منها ما دلَّ على قسوة الظروف الجوية وغزارة أمطاره، وهي: "آذار أبو الزلازل والأمطار" والإشارة هنا للأمطار الرعديّة، و"آذار أبو سبع ثلجات كبار"، "خبي فحماتك الكبار لعمك آذار". ومن الأمثال ما دلَّ على دفء الجو ولين الظروف الجوية كما في "آذار ساعة شمس وساعة أمطار"، و"آذار بدفا الراعي بلا نار"، و"آذار بطلع المواقد قدام الدار" للدلالة على تنظيفها استعدادًا للاستغناء عنها وتخبئتها للعام القادم. ومن الأمثال ما دلَّ على أهمية أمطار آذار في تحسن الموسم الزراعي، فآذار هو آخر أشهر الشتاء، وأمطاره إن كانت غزيرة سيبقى أثرها جيدًا في الموسم الصيفي وفي الزراعات الأخرى كالقمح والشعير، وفي هذا الموضوع يقول المثل " إن غلت وراها آذار، وإن أمحلت وراها آذار".
القسم الثاني: عادات الناس في الشتاء
يبدأ تفاؤل الأردنيين بالشتاء قبل أن يبدأ الموسم المطري، فاستخدام الأمثال الدالة على هطول الأمطار وغزارتها إنَّما هو استشرافٌ منهم وتفاؤلٌ بموسم مطريٍّ جيّد، فيتداولون المثل "أبرك أيامها اشتاها" الذي يشير إلى أنَّ الشتاء خير وبركة. ويستخدم الأردنيون الأمثال للاستدلال على جودة الموسم المطري فيقولون "بارك الله بالسنة اللي أولها ارعود وآخرها جمود"، ومن هذا المثل يحكم الأردنيون أنَّ السنة التي تبدأ بالرعود وتنتهي بالقليل منه سنة غزيرة المطر مباركة.
ومن الأمثال يستدلُّ الأردنيون على ضرورة اتقاء البرد لأنَّ "البرد سبب كل علة"، ويعني أنَّ البرد مسببٌ للمرض؛ وهذا أمرٌ صحيح فأمراض الجسم كاملة تزداد وتشتد في فصل الشتاء، وعليهم أن يلبسوا المزيد من الملابس الثقيلة للحصول على ما يكفيهم من الدفء؛ لأنَّ "الدفا عفا ولو كان بعزِّ الصيف".
وتبيّن مجموعة من الأمثال بعض الدلائل أو المؤشرات التقليدية على هطول المطر التي قد لا يكون لبعضها أساس من الصحة؛ كما في الأمثال التالية: "إن صاح الديك في الليل، بدا المطر والسيل" و"لين (لئن) ظهر سهيل أجا المطر والسيل"، و"إن أمطرت عبلاد بشّر بلاد" و"لو بدها تشتي غيمت" و"لو بيها مطر رشرشت".
وهناك مجموعة من الأمثال ترشد الناس إلى التصرف الصحيح خلال ظروف جوية محدّدة، كما في المثل "لين (لئن) أمطرت عصريّة دور لك عمغارة دفية" الذي يستدل منه أن الأمطار المسائية تستوجب الحيطة والحذر، فالمثل يطلب من الراعي أن يبحث له عن مغارة (كهف) دافئة إن جاء المطر عصرًا، أمَّا المثل " لين (لئن) أمطرت صبحية، خذ عصاتك والحق الرعية" الذي يستدل منه على أنَّ الأمطار الصباحية لا تستوجب الحيطة والحذر الذي تستوجبه الأمطار العصرية. والمثل "بين كانونين يا شقي لا تسافر" يحثُّ السامع على التزام بيته وعدم السفر خلال هذين الشهرين. والمثل "من صلّح بالقيظ، غنا بالشتا" يحثُّ السامعين على ضرورة إصلاح البيت، وسد ما به من عيوب خلال فصل الصيف.
ويستبين لنا في نهاية المطاف أنَّ للأمثال وظيفتين قيمتين، فالأمثالُ انعكاسٌ لحياتنا، وخلاصة تجارب من سبقونا، ويمكن من خلالها التعرف على معتقدات أمّة ما وعاداتها وطبائع أهلها. والأمثال، في وظيفتها الثانية، مرشدة لنا في حياتنا، نستطيع الاعتماد عليها للقيام بالتصرف المستقبلي الصحيح؛ وخلاصة القول: إنَّ الأمثال رسائل الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة.