د. رياض موسى سكران
أكاديمي وباحث عراقي
تكشفُ أيُّ محاولةٍ لقراءة أعمال المخرج المسرحي حكيم حرب وتجاربه عن حقيقة أنَّ هذه التجارب تعالقت بأنساق تشكيلاتها المتعددة والمختلفة، مع تلك الفضاءات الجماليّة للإخراج المسرحي التي بشرت بها التجارب والتيارات العالمية الحديثة في المسرح المعاصر، بكونها تجارب تنطلق أساسًا من فرضيات، وهذه الفرضياتُ تنطوي على رؤى وأبعاد فلسفية عميقة، لا سيّما وإنَّها تجارب غادرت تلك الفضاءات المغلقة والحدود الضيقة في التعبير والدلالة والإحالة؛ وهذا ما جعل هذه التجارب قادرة على الانفتاح على فضاءات المعاني المتعددة التي تتوالد باستمرار وتولد من رحمها تلك الأسئلة المتوالية المتعاقبة المتراتبة، وهي تثير النقاش بشكل متواصل ومستمر لما بعد العرض؛ لأنَّ طبيعة تلك الأسئلة سترافق المتلقي، وتدعوه للبحث الدائم والمتجدّد عن إجابات لتلك الأسئلة.
ونتوقف هنا عند أنموذجين لفرضيتين إخراجيتين تركتا أثرًا حاضرًا في فضاء تشكيل الرؤى المسرحية العربية، حيث اعتمدت المغايرة في المتن الجمالي والخروج عن النمط الشائع والشكل التقليدي والإطار المألوف والمكرور في التجارب المسرحية العربية، كما إنَّها غادرت الحدود والقواعد التي تفرضها قوانين ومهيمنات المدونة النصية التي وضعها الكاتب، عبر فرضيات إخراجيّة مبتكرة ومقاربات قرائية محدثة تقترح فضاءات جديدة ومغايرة للسياقات التقليدية الجامدة، هذه الفرضيات شكّلت علامة فارقة وملمحًا بارزًا في تشكيل الفضاء المعماري الجديد للرؤية الإخراجيّة التي قدمها "حكيم حرب" من خلال مجمل تجاربه المسرحيّة، والتي ارتأينا أن نقف عند تجربتين شكّلت فيهما الفرضية الإخراجيّة حضورًا وأثرًا منح هذه التجارب فرادتها.
• الفرضية الإخراجيّة في عرض مسرحية: (نيرفانا)
الـ(نيرفانا) هي مفهومٌ فلسفيٌّ يمثّل تجلي الروح الإنسانية ووصولها إلى لحظة السعادة السرمدية عبر رحلة البحث المضنية عن الجواب على السؤال المطلق والأزلي، من أجل كشف اليقين الرابض في الأعماق السحيقة من الذات الإنسانيّة، وهو أنَّ السعادة المطلقة تكمن في أسمى معنى للوجود الإنساني؛ وهو المحبة والألفة والتسامح.
لا يقدّم "حرب" هذا الخطاب بشكل مباشر؛ وإنَّما عمل على استفزاز ثقافة المتلقي ووعيه وتقديره للحقائق، لا سيّما وأنَّ العرض ينتمي في فلسفته إلى فضاءات التجريب المعاصر، وهو يسعى لإيجاد مقاربة حوارية بين رؤية "هرمان هسه" الفلسفية في روايته "سد هارتا" والتي تدور أحداثها حول حياة "بوذا"، واسمه الأصلي "سدهارتا غوتاما"، وأشعار "بودلير" من طرف، وبين التجليات الصوفيّة الشرقيّة متمثلة بأشعار الحلاج، وابن الفارض، وحافظ الشيرازي، ومحمود درويش من طرف آخر، فعمل (حرب) على نص النيرفانا من خلال النموذج الإنسانيّ البطل الذي يرفض الأفكار الجامدة والأنماط المغلقة والنظرة الأحادية التي لا ترى في العالم إلا وجهًا واحدًا وشكلًا واحدًا، وترفض الحوار مع الآخر وتقصي وجهة نظره، رافضة فكرة التنوّع الذي يُعدُّ جوهر الكون ومعنى الوجود، فلا أحد يمتلك زمام الحقيقة المطلقة إلا من يمتلك القدرة على التواصل الإنسانيّ مع الآخر والتحاور معه حول أفكاره والانفتاح على معتقداته واحترام انتمائه؛ وهو الطريقُ الوحيدُ لتحقيق السعادة السرمديّة الحقيقية التي يبحث عنها الإنسان، فلا يمكن لرؤية أحادية التفكير والمنهج ولا تعترف بمبدأ الانفتاح الإنساني والفكري والمعرفي على الآخر، وتتّخذ من ثقافة الإقصاء والتهميش والأحادية في التفكير والقرار منهجًا ومبدأ، أن تقود العالم نحو تحقيق القيم المثلى، وفي النهاية فإنَّ الاكتشاف العظيم في هذا العالم هو المحبة التي جعلها العرض المسرحي أيقونةً ترمزُ للحياة في معناها الأجمل والأعمق والأكثر شموليةً وانفتاحًا، فما أحوجنا إلى ثقافة المحبة وقيم التسامح التي ننتصر بها على الفكر التدميريّ، ونهزمُ رؤى الظلام والتطرف الضيقة.
هذه الرحلة الطويلة للبحث عن إجاباتٍ لأسئلة الوجود الإنساني الذي نسعى إليه، لن تتحقق إلا من خلال انعتاق الفكر وانطلاقه في فضاءات الحرية في التدبير والتعبير عما يودُّ ويرغب التعبير عنه؛ ليبقى إيقاع الحياة نابضًا بلغة العقل والمنطق الإنسانيّ.
فعرضُ مسرحية (نيرفانا) امتلك أدواته وعناصره التي شكّلت كيانه الماديّ والمعنويّ، وهي تبثُّ معانيه الخاصة والعامة، الموحية والمختزلة والمكثّفة لما نجده في الواقع، وجميع تلك الأدوات والعناصر كالممثلين ومفردات السينوغرافيا وملحقاتها، إنَّما هي مثل الحروف والكلمات التي تشكل أبجدية اللغة، تدخل في تنظيم الجملة وصياغتها وتركيبها لتنتج المعنى.. فالشخصياتُ والأدوار والعلاقات بين مكونات هذا العرض هي وحداتٌ تنظيميّة وتركيبيّة شكّلت منطلقًا إجرائيًّا في عملية التلقي، انطلاقًا من أن العرض المسرحي يبث للمتلقي إيحاءات، وهو صيرورةٌ دائمة، ما أن يحسب المتلقي بأنَّه قبض على معناه حتى يتحرك هذا المعنى وتنفتح القراءة، وفي كلِّ محاولة يقوم بها المتلقي ستكون تأكيدًا للرصيد الدلاليّ الذي يمتلكه العرض؛ ليبحث المتلقي عبر هذا الرصيد من أجل تشكيل المعنى العام للعرض.
وبذلك فإنَّ عرض مسرحية (نيرفانا) قد تخطّى عبر مجمل مفرداته بكونها استعارات ومجازات، عمليةَ التجسيد المباشر والنقل الحرفيّ والاقتباس النصّي للواقع، وهي الدعوة التي طالما نادى بها "ستانسلافسكي" إذ يقول: "من الضروري أن نصوّر الحياة، لا كما تحدث في الواقع، ولكن كما نحسّها على نحو غائم في أحلامنا ورؤانا ولحظات سموّنا الروحي".
ولعلَّ قراءاتنا هذه للفرضية الإخراجيّة لعرض (نيرفانا)، تُرسخ يقيننا النقدي بوجود قراءات ورؤى مفترضة أخرى ممكنة ومتعددة لخطاب هذا العرض المسرحي ذاته، من قبل المتلقين أو من قبل المخرج ذاته أو مخرج آخر، وهذه القراءات تمثّل مجموعةً من المعاني المفتوحة التي يمكن تبنيها والدفاع عنها، مع إنَّها قد تناقض قراءات أخرى قابلة أيضًا للتبني والدفاع، وهذه الحقيقة ترسّخ فكرة عدم إمكانية الوصول إلى معنى ما بشكل كامل ومحدّد ودقيق ومباشر وبعيد عن الافتراضات الأخرى، وهذه الحقيقة هي التي منحت خطاب عرض مسرحية (نيرفانا) امتياز شعريّته، بحكم انطوائه على درجة من الغموض، والقصد بالغموض هنا، هو الغموض الفني الغني بالدلالات الإيحائية التي تشكّل ثروة دلالية تهيء السبيل لإثبات فردية الإبداع وخصوصيته على نحو لا يفضي إلى الإبهام والتعمية والخوض في متاهات التجريب الشكلي، وإنَّما إلى تحقيق فعلٍ جمالي، بعيدًا عن المعاني الخابية المطفأة التي لا يؤدي توهجها الى إضاءة فضاءات جديدة في حقول التلقي.
فضلًا عن ذلك فإنَّ جوهر خطاب عرض (نيرفانا)، أقام عبر جدلية الفن والواقع مسافةً بين العالم والخطاب المعبر عنه، ومثل هذه المسافة هي التي أتاحت التقبّل الجمالي؛ لانطوائها على تلك الفرادة الشعرية التي تخلق روحًا حميمية؛ هي التي أسّست لفاعلية تواصل المتلقي مع خطاب العرض وفرضيته الجمالية.
ولأنَّ المعنى في عرض مسرحية (نيرفانا)، ظاهرٌ وباطنٌ، الباطن هو النواة الكامنة في الأعماق، وهو المحتوى المتخفي، قد يصرح به العرض بطريقة عرضية، وقد يظلُّ دفين طبقات من الكثافة العلاماتية، التي تدفع المتلقي إلى السير في سبل فرعية قد تبتعد أو تقترب من مكامن مركز الدلالة، فتتعدد هذه المراكز وتتباين، فينفرج العرض ويمتدُّ فضاؤه، ليتمظهر المعنى في بناءٍ غير نهائي أو محدّد، وإنَّما مفتوحٌ باستمرار ومتوالد بشكل غير متناه، فالإحالات التي يباطنها خطاب هذا العرض، هي إحالاتٌ تتأسس على متنٍ شعريٍّ عميقٍ، وتنفتح مثل طاقةٍ متجدّدة، لا تفنى بل تُستحدث وبشكلٍ مستمر..
وكما يرى (أمبرتو إيكو) فإنَّ المعرفة السريّة هي معرفةٌ عميقة؛ وعليه فإنَّ الحقيقة ستكون هي ما لم يُقل، أو هي ما قيل بطريقة غامضة، إلا إنَّ اتفاقنا مع رؤية "إيكو" هذه لا يعني أن الوصول إلى حقيقة المعنى قد حُسم على نحو مطلق، فالخطابُ في هذا العرض مكوّنٌ من دالات متعددة، وهي في معظمها مواد موجودة سلفًا، يأخذها ويوظفها لغاياته في الاتصال مع المتلقي، وهو يوظف كلَّ ما يمكن أن يفتح آفاقًا متعددة للمعنى، بوصف هذه المواد دالات تحمل عددًا من المدلولات الممكنة، فعملية التقاء الدلالات وتداخلها في عرض مسرحية (نيرفانا) نتج عنها تعددية قراءات العرض وانفتاحه على فضاءات التأويل، وأنَّ فاعلية فرضية العرض تنبع في نهاية الأمر من تحوّلاته المتعددة المتأتية من ذاك العمق الشعريّ الذي منح عرض فرادته الأسلوبيّة وطابعه الجمالي الخاص.
• الفرضيةُ الإخراجيّةُ في عرض مسرحية: (هملت يُصلب من جديد)
تنفتح فضاءاتُ الرؤية الإخراجيّة في فرضية (حكيم حرب) على تلك المناطق التي سعى السيميائيون لتأشيرها ورسم ملامحها والوقوف عندها، إذ تستند بنية هذه الرؤية الإخراجية إلى الفعل العلامي بعلاقاته المتداخلة والمتآزرة والمترابطة عضويًّا، بما يحمل هذا الفعل من مضامين، وما ينتج من مدلولات، وما يولّد من إحالاتٍ مفتوحةٍ، موحيةٍ ومكثّفةٍ ومختزلةٍ لما نجده في الواقع.
هذه الخطوطُ الأساسيةُ التي شكّلت ماهية الفرضية الإخراجيّة لعرض مسرحية (هملت يُصلب من جديد) بكونها منطلقاتٍ جوهريّةً عند المخرج (حكيم حرب)، حيث يقوم الفعل العلاماتي فيها من خلال اقتراح عددٍ لا نهائي من التراكيب المحتملة والمفترضة؛ وذلك عبر الاستثارة والتكرار والاستبعاد والتعديل والتشكيل لعلامات أخرى متوقعة وغير متوقعة، واقعية ومتخيلة، حاضرة وغائبة، وبشكلٍ متزامنٍ ومتراتب؛ لغرض تأسيس علاقة ما مع المتلقي عبر مختلف الأنساق، ومنها نسق (المساحة الفارغة) الذي حفر ضمن سياق استراتيجيات بناء العرض مع متلقيه، ذلك الأساس العميق الذي بنى عليه المتلقي منطقه في قراءة العرض وأبعاد الشخصيات ضمن صيغة لا تكمن في العرض وحده، ولا في المساحة الفارغة وحدها، مثلما لا ينتجها خيال المتلقي وحده، إنَّما هي قراءةٌ ناتجةٌ عن صيغة مزدوجة التركيب. فالمتلقي صار محكومًا بمجموع الإشارات التي يبثّها العرضُ بمجمل عناصره؛ ببناء فضائه السينوغرافي وتشكيله وتركيبه، بوصفه بيئةً لنمو الإحداث وحركة الشخصيات، فالمساحةُ الفارغةُ بمجملها شكّلت علامةً مركزيّة كبرى أساسيّة بين علامات الفرضية الإخراجيّة.
فعمليةُ التواصل في عرض (هملت يُصلب من جديد)، تحقّقت عندما وجد المتلقي نفسه إزاء ما هيأته له مشاهدُ العرض من (مساحات/ فراغات/ فجوات)، والتي تشكّلت من خلالها علاقة العرض بالمتلقي، وذلك عن طريق تحفيزه للبحث عمّا يملأ أو يسدُّ هذه الفراغات، ليبدو المتلقي كما لو أنَّه يكمّل جملةً لغويّةً ما لغرض إنتاج معنى ما، ربما لم يشأ أو يودُّ العرض أن يقولها للمتلقي بشكل كامل وتام، توافقًا مع معطيات المسكوت عنه التي أخذت مداها الواسع في عملية تشكيل الفرضية الإخراجية وصياغتها، ولعلَّ هذه العملية هي التي أتاحت فرصة بثّ الحياة في طبيعة العلاقة بين العرض والمتلقي.
كما إنَّ عملية تهميش اللغة المباشرة لمفردات فضاء العرض المادية وتعويم دلالاتها مثلًا، دفعت المتلقي- من خلال ما خلقته من فراغات- إلى البحث عما يعوّض تلك المفردات في نسج المدلولات والمعاني وبنائها وتراكيبها، تلك التي سعى العرضُ إلى بثِّها وإيصالها، وفي هذه العملية غالبًا ما كان المتلقي يضع ما يستعصي عليه فهمه جانبًا، ويؤجله إلى أن تظهر إشاراتٌ وعلاماتٌ جديدة ترتبط معها بعلاقات جدلية لتوضح المعنى لاحقًا، فمعنى إشارة ما أو حركة ما أو فعل صوري ما، يتم التحقّق منه والتأكيد عليه وتبنيه عبر السياق الذي يرد ضمنه، فكلُّ عنصرٍ من عناصر ذلك العالم الذي صيغ في الفرضية الإخراجيّة يمتلكُ دلالته، ويحمل مدلوله، ويبثُّ معناه.
والمتلقي هنا صار يتعاملُ مع تلك المنظومة المتشابكة من العلامات المرتبطة بنسقٍ مركزي، رسمته خطوط بنية تلك الفرضية الإخراجيّة، وجسّدت ملامحه تقنيات عرض هذه الفرضية من خلال مجمل عناصر البناء السينوغرافي الذي تشكّل عبر حركة الشخصيات وفعلها فيه وتفاعلها معه؛ ما كشف عن وجود رؤية متوازية مع خطوط الفرضية الإخراجية ومكملة لها، لا سيّما الفرضية البنائيّة للمشهد التي شغلت مساحة كبيرة على مستوى صياغة العرض وتحديد أبعاد الشخصيات ورسم ملامحها العامة والخاصة، فضلًا عن إنَّها منحت هذا العرض طابع الفرادة والخصوصيّة.
فالدلالاتُ النفسيّة أصبحت حاضنةً كبرى للمدلول المركزي والمعنى العام الذي أراد المخرج أن ينقله للمتلقي عبر فرضيته الإخراجية من خلال منظومة متداخلة ومتشابكة اشتركت في بناء وتشكيل ماهيتها مجمل مفردات صياغة مشاهد العرض وتشكيل صوره، والتي استمدت فاعليتها من ذلك الانفتاح الدلالي ضمن مخرجات المعنى الذي نتج عن الفضاء الفارغ، لينفتح أفق حركة توقعات المتلقي على فضاءات شعرية الصورة ومعانيها المتعددة؛ وهذا ما جعل من جميع مفردات الفرضية الإخراجيّة للعرض تنفتح على فضاءات القراءات التأويلية المتعددة، الناتجة أصلًا عن ذلك الارتباط العضويّ لمفردات تشكيل الصورة المسرحية، لدرجة أنَّ أي من مفردات سينوغرافيا العرض لم تكن قادرة على إنتاج معنى ما وحدها دون إن تشترك مع علامات تكمّل الإحالات؛ لتكون بذلك جميع مفردات العرض مرتبطة مع أبعاد الصورة وشكلها ودلالاتها، فمعنى مفردة ما أو إشارة ما لا يكتمل إلا من خلال ارتباطه مع مفردة أخرى وعلامة مكمّلة، في سياق اشترطته عملية بناء النسق الجمالي المؤسس ضمن الأبعاد النظرية والتطبيقية الخاصة بالفرضية الإخراجية.
مما سبق نتوصلُ إلى مجموعة من النتائج، خلاصتها؛ أنَّ الفرضية الإخراجيّة وإن رسخت حقيقة أنَّ نصوص "شكسبير" تحتمل كمًّا من القراءات المتعددة الممكنة، فهي في الوقت نفسه أكّدت على إنَّها تعمل على إنتاج مجموعة من المعاني المفتوحة التي تسعى نحو هدف التأويل في ما يمكن أن يُسمّى (بلوغ فهم معادل)، فلا بدَّ أن ينطوي خطاب العرض ضمنًا على مجموعة من الفرضيات التي لا ينبغي أن تُقدم صراحةً، فالكثير منها لا يمكن التصريح به أو تقديمه بشكل مباشر، ولا يمكن الحديث عنه بلغة الحكمة والموعظة.
كما إنَّ الفرضية الإخراجيّة القائمة على أساس قراءة نصٍّ راسخ مثل النص الشكسبيري (هملت)، لا تسعى لفرض معنى محدّد، ولكنَّها تقترح مضامين مفتوحة على تعدد القراءات، وإنَّ أية محاولة في الوصول إلى دلالة نهائية ومنيعة ستؤدي إلى فتح فضاءات دلالية متجدّدة لا حصر لها... فكل شيء يخفي داخله سرّه، وكلما تم الكشف عن سرٍّ ما، فإن هذا السرّ سيحيل الى سرّ آخر ضمن حركة تصاعدية موجهة نحو سرٍّ لا نهائي. كما إنَّ العرض يقوم على خلق متواصل للمعنى بحيث إنَّ كلَّ مستوى من مستويات المعنى يكون دائمًا دالًا لمستوى معنوي آخر، وهكذا.. فالمعنى يسلم إلى معنى آخر، ليظلَّ يوحي بقراءاتٍ متعددة تنطوي على المعاني المتنوعة، فالعرض لا يستمد تأثيره من كونه يفرض معنى وحيدًا على عدد من متلقيه، إنَّما لكونه يوحي بمعانٍ مختلفة مفتوحة ومتعددة للمتلقي الواحد.
إنَّ الفرضية الإخراجيّة القائمة على فعل قراءة نصٍّ راسخٍ في الذاكرة مثل النص الشكسبيري، تستطيع أن تولّد أعدادًا لا نهائيّة من العوالم البديلة أو المناظرة أو المفترضة لصور العالم السائدة، فمتلقي العرض سيجد نفسه وسط تلك المجموعات التي لا حدّ لها من الافتراضات والتشابهات والتضادات والتغيرات والتصورات،