وليد سليمان
كاتب وباحث أردني
الراحلُ والمثقفُ الشعبيُّ الكبير " حسن أبو علي " غادرنا بجسده في 25 آذار من العام 2022؛ ولكنَّ روحه ما انفكت ترفرف في قاع عمان؛ المدينة التي أحبَّها، وعلاقاته مع الناس والصحافة والأدب والفكر والفن تعيش في ذاكرتنا، سواء الفردية أو الجمعية.
عايشته منذ البدايات البسيطة.. فمنذ أن كنت فتىً صغيراً أتعرفُ على الجرائد والمجلات والصور والكلمات.. أخذت أطّلع وأقرأ المجلات من "بسطة" صحفه القليلة، تلك التي كان يضعها فوق درجة مرتفعة قليلاً، أمام الواجهة الزجاجية لمحل يوسف المعشر لأقمشة الجوخ الفاخرة قرب سوق الصاغة والذهب في شارع الملك فيصل؛ أشهر الشوارع الراقية والجميلة في عمان، وذلك منتصف القرن الماضي تقريبًا.
كنتُ بدايةً أقرأُ من مجلاته ما يناسب عمري مثل مجلات سمير وميكي، ثم فيما بعد عندما ظهرت المجلات العربية المترجمة الصادرة من بيروت مثل سوبرمان والوطواط ولولو... صرتُ شغوفًا بها؛ منها ما أتصفحها عند الجلوس بجانب البسطة، ومنها ما أقرأها في البيت ثم أعيدها له بترحيب كبير منه. وفي بعض الأيام كنتُ أنوبُ عنه في بيع الجرائد والمجلات، إذا ما غادر ساعةً من زمن إلى شأنٍ ما.
• انتقالُ "بسطة" الصحف
وبعدها تطوّر حسن أبو علي في مهنته تلك، حيث انتقل عدة أمتار إلى دخلة ماضي الشهيرة، (يُبسّط) ويضع مجلاته وكتبه الكثيرة في أول هذه الدخلة، إذ صار يهتمُّ بعرض الكتب كثيرًا بجانب الجرائد والمجلات المحلية والعربية القادمة من مصر ولبنان والكويت.
وفي تلك الفترة التي كانت "البسطة" الأرضية تتواجد في أول دخلة آل ماضي – واستمرت تلك الفترة لأكثر من عشر سنوات – كان يتردّد عليه العديد من زبائنه من القرّاء والأدباء والشخصيات السياسية وغيرها.. ومنهم على سبيل المثال: الشاعر علي فودة، والقاص والسينارست مصطفى صالح، والشاعر عز الدين المناصرة، والشاعر محمد القيسي، والشاعر محمد الظاهر، والقاص فخري قعوار، والكاتب فايز محمود، والكاتبة تريز حداد، والروائية زهرة عمر، والقاص خليل السواحري، والباحث د.حسين جمعة، وفنانين مثل إبراهيم حداد ومالك ماضي.
وبدأت أهتمُّ بهؤلاء الأدباء والكتاب وأقرأ لهم، بجانب قراءاتي التي تشعّبت نحو إبداعات المؤلفين الكبار والمشاهير الأردنيين والعرب والعالميين.
وبعد أن التحقت بالوظيفة وأصبحت معلم مدرسة، اهتممت ببعض المجلات الثقافية الشهيرة العربية والأردنية، والكتب الأدبية، وبالأخص القصص القصيرة والروايات، من مثل كتب نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وحنا مينة، وعبد الحليم عبد الله، وإسماعيل فهد إسماعيل، والطيب صالح، وبعض كتب النقد الأدبي كذلك.
• كُتب عالميّة
وفي تلك الفترة أو ما قبلها بقليل نشطت دار نشر الكتاب اللبناني، التي كانت تصدر كتبها في كلٍّ من بيروت وبغداد، نشطت في إصدار أهم الروايات العالمية القديمة المترجمة إلى اللغة العربية، وذلك بطبعات شعبيّة وبورقٍ أصفر زهيد الثمن، حيث كانت تُباع تلك الروايات والكتب والقصص بمبلغ (25) قرشاً للكتاب فقط، وهي كتب لكل من همنغواي، تولستوي، دوستوفسكي، ديكنز، فكتور هيجو، مورافيا... الخ.
وكان الكثير من الأدباء والقراء يشترون هذه الروائع بكميات وعناوين مختلفة، لأنَّها فرصةٌ ذهبيةٌ لا تُعوض، وهكذا اطلعت بشكل جيّد على بعض هذه الآداب العالمية.
ثم هناك كانت الكتب الحديثة بورق أبيض وأغلى ثمناً مما سبق ذكره، لكنَّها مع ذلك كانت مناسبة الثمن إلى حد معقول، فاشترينا وقرأنا كتب سارتر، وألبير كامو، وألبرتو مورافيا، وكولن ويلسون، وكتب عن جيفارا، وماوتسي تونغ، وكتب المفكرين العرب لكل من زكي نجيب محمود، وأدونيس، وغالي شكري، وأنيس منصور، ود. مصطفى محمود. وكتب لكلٍّ من طه حسين، إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي، العقاد، جبران خليل جبران، وكتب أخرى للفيلسوف هربرت ماركوز، جمال عبد الناصر، لينين، ماركس، محمد حسنين هيكل، صادق جلال العظم، يحيى يخلف، غادة السمان، جبرا ابراهيم جبرا، كوليت خوري... الخ.
• وكالة التوزيع الأردنية
بعد نكسة حزيران عام 1967، أخذ القراء يهتمون كثيرًا بقراءة الجرائد والمجلات العربية التي تتحدث عن أحوال العرب وصمودهم بعد هزيمة حزيران.. لأنَّها تبثُّ الروح والتفاؤل في نفوسهم؛ لذا فقد أخذت الصحف تهتمُّ وبشكلٍ مثير بأخبار المقاومة والمؤتمرات العربية، ومحاولات التوحد والوحدة ما بين بعض الأقطار العربية، وخطابات الحكام والرؤساء العرب، ورؤساء المنظمات الفلسطينية والعربية.. لذا أقبل الناس على شراء تلك الصحف وقراءتها بنهم، حيث كانت تستعين بإبراز المانشيتات المثيرة والصور المبهرة.
وكان حسن أبو علي يذهب إلى مكان توزيع الصحف العربية القادمة من مصر ولبنان، وهذا المكان هو (وكالة التوزيع الأردنية) لصاحبها رجا العيسى في أول طلوع الحايك بجبل عمان؛ ليحضر مئات الصحف والجرائد المثيرة بأخبارها ليعرضها على بسطته تلك، ويبيع منها العشرات؛ مثل جرائد الأهرام، والجمهورية، والأخبار، والصحف اللبنانية الشهيرة مثل الأنوار، والنهار، والحياة، والمحرر... الخ. ثم المجلات المصرية مثل المصور، وآخر ساعة، وروز اليوسف، وصباح الخير، والفنية والثقافية منها مثل الكواكب، والهلال، والموعد، والشبكة، والحسناء، والمجلة النسائية "حواء"، عدا عن مجلات الأطفال، والمجلات السياسية مثل: الصياد، والأسبوع العربي، والحوادث، والوطن العربي... الخ، كذلك المجلات والصحف الكويتية مثل: العربي، الوطن، السياسية، الرأي العام، البيان، النهضة، القبس... الخ.
ومن أشهر الجرائد الأردنية الأسبوعية آنذاك فقد كانت جريدة الحوادث، وأخبار الأسبوع، واللواء، ثم فيما بعد شيحان.
• أبوعلي يدخل التاريخ الثقافيّ الأردنيّ
"بسطة حسن أبي علي" دخلت التاريخ الثقافي الأردني، فما من مثقفٍ أو سياسيٍّ أو أديب أو فنان إلا وتعامل مع أبي علي شخصيًّا.. وذلك لأنَّه تميّز بحسٍّ ثقافيٍّ رائع، ويعرف ما هي الكتب القيمة والمهمة والمفيدة لزبائنه، من كل فئات المجتمع ومن مختلف الأفكار والأمزجة الثقافية، وقد امتلك -رحمه الله- حضوراً وكاريزما محببة!! في قسمات وجهه وترحيبه وأحاديثه الجذابة القريبة من القلب والروح.
ومن أجل هذا فلا نستغرب من نشر مئات المقالات واللقاءات الصحفية والتلفزيونية والإذاعية التي سبق أن أُجريت معه، كذلك دخول اسمه وشخصيته في عشرات من الروايات والقصص والقصائد الأردنية والعربية؛ فهو الشخصية العمانية الأردنية المؤثرة.
• بجانب البنك العربي
في منتصف السبعينيات أو بعد ذلك بسنة أو سنتين، انتقل أبو علي ب"بسطته" من دخلة ماضي إلى كشكه المعروف الآن بِ" كشك الثقافة العربية" بجانب مبنى البنك العربي - دخلة كنافة حبيبة- حيث بدأ مشوارًا تكميليًّا لما سبق من مسيرته الثقافية، مع عالم الصحف والكتب والتواصل مع مثقفي الأردن والعالم العربي، الذين أصبحوا أصدقاء حميمين له؛ من مثل: الشاعرة فدوى طوقان، الشاعر عبد الوهاب البياتي، الشاعر سميح القاسم، والمفكر الخليجي محمد المسفر، عدا عن معظم مثقفي الأردن من أدباء وشعراء وكُتّاب وصحافيين، وسياسي الأردن من رؤساء وزراء، ووزراء، وقضاة، ومحامين، ومهندسين، وأطباء، وموظفين...الخ، ومن كل فئات الشعب الأردني والعربي.
• مبدعون أردنيون وعرب وأجانب
في كشك الثقافة العربية زاد الاهتمام بتنوّع الكتب المعروضة، التي يعرف أبو علي أهميتها وحداثتها على الساحة العالمية والعربية والأردنية.. لذا نراه كان من الأوائل الذين أحضروا أهمَّ الكتب والروايات العالمية والعربية الحديثة لعرضها وبيعها للقراء الأردنيين والعرب هنا في عمان.
فقد اهتمَّ بإحضار كتب ماركيز وأهمّها مثلاً «100 عام من العزلة»، وكتب وروايات إبراهيم الكوني، وأمين معلوف، وجورج أمادو، وكارلوس فونتس، وجورجي بورخيس، وإيزابيل الليندي، وسارا ماجو، وامبرتو إيكو، وأورهان باموق، أحلام مستغانمي، سميحة خريس، وزياد قاسم، وإبراهيم نصر الله، وجمال ناجي، وإلياس فركوح، مؤنس الرزاز، هاشم غرايبة، هزاع البراري، وبسمة النسور وغيرهم.
وكتب أخرى في الفكر والأديان والسياسة، ومذكرات كبار شخصيات العالم العربي والأجنبي، ومؤلفات دين براون، والكتب التي تتحدث عن العدو الصهيوني وشخصياتهم الشهيرة منذ القديم، وكتب الساسة الأردنيين والعراقيين والفلسطينيين وغيرهم.
• وسيطُ الثقافة وباعثها
حسن أبو علي حالة ثقافية خاصة، مميزة ونادرة في مشهدنا الإعلاميّ الأردنيّ؛ بل والعربيّ؛ لأنَّه خدم الثقافة والوعي والفكر لدى العديد من أبرز شخصيات هذا البلد ومن كل التخصّصات.. فقد اعترف كثير منهم قائلًا: لقد تعلمنا من كتب "أبو علي" مثلما تعلمنا من جامعات الأردن. ومنهم من أكّد أنَّه كان يشتري الكتب منه بالأقساط، و"على الدفتر"، ومنهم من يقترض المال أيام "الزنقات" على حد تعبيرهم.
والكثير من زبائنه أصبحوا أصدقاء مقربين له، فتُرتب بينهم اللقاءات والزيارات الدائمة في الكشك أو في البيت.. حتى أن بعض الأدباء والصحافيين الذين توفّاهم الله من أصدقائه، كان أبو علي- رحمه الله- يستقبل التعازي فيهم بعد مدة من الزمن من الذين فاتهم الذهاب لبيت العزاء، أو ممن لم يعرفوا مكان العزاء.. فكان أبًا وأخًا للجميع.
لذلك فلا غرابة أبدًا أن يكون كشك حسن أبو علي للكتب والصحافة معلمًا حضاريًّا وسياحيًّا من معالم عمان الجميلة والتراثية.
ولكلِّ هذا؛ فقد استحق صاحب هذا الكشك الصغير والعظيم، وبسبب تأثيره الثقافيّ الأردنيّ، أن يُكرم من لدن جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين في العام 2002، حيث نال الميدالية الفضيّة من الدرجة الثانية، وفي العام 2007 نال وسام الاستقلال من الدرجة الرابعة