إبراهيم غرايبة
عضو تحرير مجلة أفكار
كان في وادي عربة مدنٌ للعرب البائدة الذين فنوا بالهلاك وتغيّرِ المناخ والتصحر، ما زالت لهم آثار مدن ومعابد وطرق، ولا بدَّ أنَّ بعضهم بقي حيًّا، كثروا وصاروا يحملون أسماء أخرى، وتاريخًا سريًّا وذكرياتٍ خفيّة، ولا بدَّ أنَّ لهم قصصًا وأسفارًا يمكن تخيّلها...
-1-
عندما منحت الشمسُ "بيلام" سرّها، وصارت القلاعُ متاحفَ والهياكلُ مسارحَ، وكفَّ الرجال والنساء عن العمل والحب،.. والموت أيضًا؛ لم يعد سوى الحياة صافية نقية، لكنَّها في ذلك لم تكن سوى ضوءٍ يتدفق في الفضاء.. ويصير الضوءُ ما نريد؛ قال "بيلام": ويرحلُ سيّدُ الجبال، يصعدُ إلى السماء، وتصيرون أنبياءَ،.. كلُّ امرئ نبيُّ نفسه!
وعندما غادر "بيلام" "سبيل الحوريات"، لحقت به حوريةٌ من الهيكل وقالت: يا سيّدي إلى أين تمضي؟ قال "بيلام": بكينا على خطيئتنا، ثم مضينا في الخطيئة، وتركنا الخطيئة ومضينا في طريق الحكمة، وظللنا نبكي لأنَّنا لم نخطئ.
قالت الحورية: يقول سيّد الجبال إنَّما كنّا لنخطئ.
قال "بيلام": فلماذا يجعلُ السيّد ذلك مؤلمًا؟!.
-2-
عاشقان يعبران الطريق
يقفان عند الإشارة الضوئيّة
منح طفلُ الإشارات وردةً للصبيّة
تركت صديقَها وتبعت الطفل.
-3-
قالت الحوريةُ للدرويش: لا أعرفُ عن الحياة أكثر مما يبدو لي حين أطلُّ من شرفة الهيكل.
قال الدرويش: لم أعرف عن الحياة في تجوالي الدائم مدى الحياة أكثر مما عرفت.
لكنَّهما حين سارا معًا وجدها تعرف الحياة وفنونها أكثر منه بكثير.
-4-
كان مبتدأ السور للمكان المقدس الذي يُدفن فيه الأموات، وتُقام فيه الصلواتُ والاحتفالات. لكن حين شغّل أهل المدينة قاتلًا مأجورًا لحراسة المكان؛ جعل السور سجنًا ومخزنًا للغلال والأتاوات والأسرار.. وصارت القلاع والهياكل والأرباض.. وصار أهل السور في سجن وعذاب يحسبه الناس خارجه رحمةً.
وحين صارت المدن بلا أسوار، صارت الأرض كلها دير، وصارت القلاع والهياكل أكوامًا من الرماد، وصار أصحابها (صيادو المكافآت والمرابون والكهنة) قتلةً مأجورين، وصار المجدُ للدرويش و"الهاشتاق".
-5-
كالحياةِ نفسِها يتسربُ الأصدقاءُ، مثل الماء من بين الأصابع، نحتاج إلى يأس كثير. وليس لديَّ من اليأس ما يكفي كي أنسى وأتذكّر، لكن لديّ خطواتي في الخوف، والظلام للنسيان، ظلٌّ ثقيلٌ يصير مثل العنقاء، لا أحد يرحل، ولا أحد يموت. وطأة الزمان بعد انقضائه أشد من مجيئه، يصير ما كان متواليةً من الغابات والصخور، وهذه تصير متواليةً من القصور، المقابرُ تصير مدنًا وقلاعًا وأرباضًا وهياكلَ، والذين رحلوا صاروا جيوشًا، والمعارك تصير مهرجاناتٍ، والأبطالُ يحلّقون مثل بالونات "هيليوم" بلا عودة.
-6-
الدرويشُ المتجوّلُ في الطرقات لا يملك سوى أنَّه لا يكره أحدًا ولا يعادي أحدًا.. هكذا يحصلُ على الطعام والشراب والمبيت كلَّ ليلةٍ ورفقةَ حوريات الهيكل، وأحيانًا هدايا من أصحاب القلاع حين يسألونه تأويلَ أحلامهم، أو أن يقرأ لهم شيئًا ما.
لماذا أطلقوا السهامَ عليه؟ لماذا لم يقتلوه؟ لماذا لم يدعوه وشأنه؟
لم يكن سوى درويشٍ عابرٍ في الطريق، لم يكن يريد سوى رغيفِ خبزٍ وشربةِ ماءٍ وكأسِ نبيذ. كان يرشدُ القوافلَ، ويعلّم الصانعين وحدّائي القوافل، البيطريين والحدادين والنجارين والبرادعيين والطهاة، وصناعةَ الأدوات والمواعين وصيانتها؛ السيوف والمطارق والمناجل والرماح والسهام، ويعدُّ الدواء، ويساعدُ في الخانات، ويؤنسُ ويخدمُ الزوّار والضيوف، ويتحدّثُ في الأماسي ويروي القصصَ والأخبارَ والأشعار. لم يشتم الأغنياء، ولا أحدًا من الناس، ولا سار مع المحتجين والمتمردين، ولا عرف الفلسفة والزندقة... لم يكن يحمل سوى الكتب، يشتريها ولا يبيعها.
لم يدعوه يومًا إلى مهرجان، أو مجلس للملأ، ولا غشي مجالس المدن وصالوناتها. ولم يذكر أحدًا بسوء، لم يؤذهم بشيء سوى صمته.. لم يكن خطيرًا إلى الحدِّ الذي يجعلهم يتخلون عنه.
-7-
العاشقان نسيا الطريقَ ونسيتهما
شغلتهما الفرجة
مرت القوافل
ظلَّ الفتى ذاهلًا
ومرّت الفتاة بالكاهن في الطريق
كان كاهنًا للزهرة
تبعته فاحترقا
الزهرة تبارك العاشقين، لكنَّها تحرقهم.
لا تكن عاشقًا أكثر من الزهرة فتغضبها، ولا تعرض عنها فتغضبها، بوسعك أن تصلي في محرابها، وأن تتسرب فيك رويدًا رويدًا، لا تكن هي، ولا تفوّت صلاتها في الصبح حين تكون نجمةَ الصباح، وفي المساء حين تكون هي نجمةُ المساء، لا يليق بالزهرة غيابك، ولا تعجبها لهفتك!.