د. عصام واصل
أستاذ الدراسات الأدبية المشارك – جامعة ذمار - اليمن
لا يرحلُ المفكرون والمبدعون.. إنَّهم خالدون فينا أبدًا، وفي الحياة، وتساؤلات الكون.. بل إنَّهم بفكرهم وإبداعهم قد غدوا جزءًا أصيلًا من عناصر هذا الكون، إنَّهم ضوؤه وصراط أرواحنا إلى صفحات الخلود.
لقد رحل المقالح رحيلًا مجازيًّا بعد 85 عامًا من الإنتاج والإسهام في تنمية الوعي، وترميم أرواحنا، وخلق ما يبدّد العتمة عن وطنٍ مثقلٍ بالوجع والتيه، لقد رحل، لكنَّه الرحيل الخالد، الرحيل في أرواحنا ووعينا.
على مدى 85 عامًا ظلَّ المقالح ينتج شعرًا ونقدًا وفكرًا تنويريًّا استطاع بموجبه أن يؤسس لمسيرة الإبداع والنقد والفكر في اليمن، وقد حاول طيلة هذه المدة أن يبرز الوجه الأجمل لليمن، ويوصله إلى العالم، بل ويغيّر ما استطاع من الملامح النمطيّة الجاهزة عن هذا البلد لدى القارئ، وقد تمكّن من ذلك، لا سيّما حينما استقطب العشرات من أكاديميي ومثقفي العالم للعمل في جامعة صنعاء، أو الجامعات اليمنية الأخرى، فضلًا عن كتاباته الدائمة عن الفكر والمفكرين، عن رموز اليمن وتاريخه، في الدوريات والصحف في الوطن العربي، وهي كتاباتٌ مسؤولةٌ، وحاملةٌ لكثير من المشاعل.
لقد كان منذ بداياته الإبداعيّة والنقديّة الأولى كاتبًا ملتزمًا بقضايا الإنسان والوطن، وقضايا الأمة برمّتها، وجراء ذلك تعرض لكثيرٍ من الأذى، لكنَّه لم يتوقف، إذ هجا المهادَنَات والمهادنين، فطُورِد، ومن ثم هجا التسلّط والتعالي والغطرسة؛ فهُوجِم ولُوحِق وكُفِّر، إلا أنَّه استمر ينشر النور، ويهجو كل ظلام.
إنَّه الشاعرُ المجدّدُ المتجدّدُ، والناقد المتعدد، والمفكر المتنوّع، غزير الإنتاج، الذي لم يكن بإمكان القارئ تحديد نتاجاته الإبداعية وحواملها بسهولة، وإذا ما استطاع هذا القارئ تحديد مسيرته الشعرية -كميًّا- فإنَّ من الصعب تحديد مسيرته الفكرية والنقدية وتأويل نصوصه بشكل حدّي؛ ذلك أنَّ نشاطًا كبيرًا ظلَّ يحرّك المقالح، ولم يستطع تدوينه في نصوصه شعرًا ونقدًا، وأنَّ نشاطًا تأويليًّا ظلَّ يسكن نصوصه الإبداعية والفكرية، يصعب محاصرته أو الوصول إلى كنهه، فضلًا عن أنَّه قد وازى نشاطَه الشعري الجديد -بحسب مصطلحاته النقدية- نقدٌ أكثر جدة منه، فهو رائدُ القصيدة الجديدة في اليمن، وهو -بالمقابل- رائدُ النقد الجديد في اليمن كذلك؛ إذ إنَّه لم يشتغل عميقًا على تجديد النصِّ الشعري فحسب، بل عمل جاهدًا على التأسيس لنشاطٍ نقديٍّ موازٍ، فاقترح مصطلحاتٍ تستطيع تشخيصَ ما يريد قوله، وما يريد أن يجعل منه أداةً لقراءة ذلك القول في الآن ذاته، فقد اقترح مصطلح الشعر الجديد ليتجاوز به مصطلحات إشكالية كانت مطروحة، لكنَّها كانت مرتبكة، لكنَّه كان يرى أنَّ مصطلحاته -لو أمعن النظر فيها- قد تحل إشكالية هذا الارتباك. وفي الآن ذاته قارب النص الإبداعي شعرًا ونثرًا، وعمل على توصيف الظواهر الإبداعية المشكِلَة، والموضوعات الموغلة في التجريديّة، وترك وراءه -وأمامنا- كثيرًا من النصوص الإبداعيّة والنقديّة التي سنستضيئ بها دومًا.
لم تقتصر كتابات المقالح المبدع -أساسًا- على الإبداع في نمطٍ شعريٍّ واحد، بل تنوعت وزاوجت بين الأشكال جميعًا في نصٍّ واحد، أو جميعها في دواوين متلاحقة، كما لم يقف عند الإبداع فحسب، بل كتب نقدًا، ولم يتوقف عند النقد فقط، بل تجاوزه، وتجاوز الكتابة الإبداعية إلى الكتابة عن الرموز التنويرية، والمناضلة التي أسهمت في الخروج باليمن من مآزق الظلام والضلال والتيه الوجودي، فكتب عن المربّين، والمؤرخين، والثائرين، والسائرين على صراط المحبة والجمال والحرية. ولم يقتصر على ذلك، بل كتب في فكر الفِرَق، والمعتقدات، وفي الثورة، والحرية.
إنَّ نشاطه الإبداعيّ والنقديّ الوثّاب قد وازاه نشاطٌ إنسانيٌّ كبير وأكثر حيوية منه، إذ أسّس لصداقاتٍ وعلاقاتٍ طويلة الأمد بين الأجيال داخل اليمن، فعدّه المجايلون له والمنتمون إلى الأجيال اللاحقة رمزًا لهم، يحاكونه تارةً، ويقتبسون منه تارةً أخرى، ويتجاوزن ما يرون أنَّه تجاوز تارات أُخر. كما استطاع أن يخلق صداقاتٍ عميقةً جدًّا مع الأجيال الناقدة والشاعرة والمفكرة من خارج اليمن منذ أن كان رئيسًا لجامعة صنعاء التي استقدم إليها عمالقة النقد والفكر وكبار العلماء في تخصّصات شتى، فضلًا عن علاقات المودة الكبيرة التي ربطته بكبار الشعراء من سائر أقطار الوطن العربي وخارجه، وكان –وهو يبني تلك العلاقات- ينظر إلى الأبعد، والأكثر وطنيّة.. لقد عقد تلك الصدقات بالوطن، فكانت بمثابة النافذة التي تفتح آفاق البلد على آفاق وعي هؤلاء الأصدقاء، لقد كانت تلك الصداقات بمثابة الجسر الممتد بين وطنٍ منسيٍّ، وقراء ونقّاد ومفكرين يسكنهم شغفٌ بمعرفة كنه هذا البلد المنسي، وناسه المنسيين.
لقد فتح المقالح آفاق البلد المغلق على العالم، وجلب العالم إلى أعماق هذا البلد، وبثَّ الضوء بقوة في كتاباته، لقد كتب فأضاء بكتاباته.. وبحث عن المنهج من أجل الوصول إلى المعرفة فعرفنا به ومن خلاله ما كنا نبحث عنه، ومن ثم سعى إلى معرفة الكون والأشياء فعرف وعرفنا، وعشق الوطن والإنسان فاكتمل الحبُّ وصار طوفانًا من الدهشة.