د. فيصل خليل الغويين
أكاديمي وباحث أردني
ولد قسطنطين زريق في دمشق سنة 1919 لعائلة أرثوذكسية تعمل في التجارة، وتلقى تعليمه المدرسي في مدارس هذه الطائفة. نال شهادة الثانوية سنة 1923، وحصل على منحة مكّنته من الالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت، حيث قضى فيها خمس سنوات، وفي سنة 1928 تخرج بدرجة البكالوريوس في التاريخ.
عاش زريق نشأته الأولى في مدينة دمشق(1909 – 1923). وشهدت هذه المرحلة خروج العثمانيين من سورية، ودخول الجيش العربي إلى دمشق، وتأسيس أول مملكة عربية بقيادة الملك فيصل بن الحسين(1883 – 1933)، ثم معركة ميسلون(24 تموز 1920)، وانهيار الحكم العربي، وبداية الانتداب الفرنسي. وتركت هذه الفترة في شخصية الدكتور زريق أعمق الأثر الذي سيظهر لاحقًا، والذي تمثّل في تجرده من العصبيات الدينية والطائفية، وانغراس الشعور القومي في وجدانه، وتطلعه إلى الحرية في معناها الأرحب، وإلى حرية العرب واستقلالهم في معناها الخاص.
تابع قسطنطين دراساته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، ودرس في أهمِّ جامعاتها، وهي شيكاغو وكولومبيا وبرنستون، ونتيجة احتكاكه المباشر بالمجتمع الأمريكي أدرك العلاقة الوثيقة القائمة بين العلم والتقدم الاجتماعي، كما اكتشف جهل ذلك المجتمع بأوضاع العرب وبلادهم، وقوّة حضور النظرة الصهيونية في مراكز القرار السياسية والاقتصادية، ما أسهم في ترسيخ شعوره بالانتماء الوطني العربي، والهُوية العربية، وإيمانه بالأهداف القومية.
قضى زريق معظم سنوات حياته في حمل رسالته التنويرية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي الجامعة السورية في دمشق، وأسهم في تنشئة العديد من الشباب العرب، وتربية عدد من المناضلين القوميين المعروفين.
وبعد الحرب العالمية الثانية مارس العمل الدبلوماسي لسنوات في المفوضية السورية في واشنطن، وفي المفوضية السورية لدى هيئة الأمم في نيويورك، كما أسهم في تأسيس عددٍ من الجامعات والمؤسسات البحثية العربية، وانتُخب عضوًا في مجمع اللغة العربية في دمشق وبغداد. وفي سنة 1977 تقاعد زريق من التدريس، إلا أنَّه واصل الاهتمام بالشأن القومي حتى وفاته في بيروت بتاريخ 12 آب 2000.
وخلال دراسته خضع زريق للعديد من التأثيرات، والتي أسهمت في تشكيل شخصيته الثقافية، وجعلت منه شخصية فكرية متمايزة عن غيرها من المفكرين القوميين العرب.
كان من أبرز أساتذته في جامعة برنستون "فيليب حتي"، و"أسد رستم" في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث أهدى إليهما كتابه "نحن والتاريخ". ومن المعروف أن هذين الأستاذين كانا من أبرز المؤرخين العرب في النصف الأول من القرن العشرين.
كما تأثر بالدراسات الحضارية والتاريخية الأنكليزية والأمريكية، وخاصة "أرنولد توينبي"(1889 – 1975)، الذي وضع كتابًا موسوعيًّا مهما عن دراسة التاريخ وفلسفته، و"إدوارد تايلور"(1832 – 1917)، أحد أبرز علماء الانثروبولوجيا في القرن التاسع عشر، والذي كرّس جهدًا كبيرًا للتعرف على بداية تاريخ الإنسان وعلى معالم الحضارة البدائية، كما يمكن تلمس أثر ابن خلدون (1332 – 1406)، ومقدمته على تفكير زريق، إضافة إلى اطلاعه على أفكار الألماني "أزوالد شبنغلر" ( 1880 – 1936)، صاحب الكتاب الشهير"انحطاط الغرب".
ترك قسطنطين زريق عددًا كبيرا من المؤلفات، يمكن توزعها على أربع مجموعات:
الأولى: وعبرت عن اهتمامه بنشر الأصول التاريخية نشرًا علميًّا، وترجمة أبحاث المستشرقين إلى اللغة العربية، إضافة إلى ترجمة بعض الكتب الغربية المرجعية؛ مثل "أمراء غسان"، للمستشرق "ثيودور نولدكه"(1836- 1930)، و"اليزيدية قديمًا وحديثًا"، لإسماعيل بك جول(1735- 1791) أمير اليزيدية، والمجلدات السابع والثامن والتاسع من:"تاريخ ابن فرات"، و"تاريخ العلم" لجورج سارتون (1884 – 1956)، و"تهذيب الأخلاق" لمسكويه (932 – 1030).
الثانية: واشتملت على الكتابات القومية المهتمة بقضايا العرب ومصيرهم، وهي: "الوعي القومي"، و"معنى النكبة"، و"القضية العربية"، و"معنى النكبة"، و"معنى النكبة مجددًا"، و"ما العمل"؟ "حديث إلى الأجيال العربية الطالعة".
الثالثة: مؤلفاته ذات الطابع الأكاديمي، والتي عبرت عن نزعته الاستشرافية، وجعلته من روّاد الدراسات المستقبلية في الوطن العربي، وهي:"أي غد؟"، و"نحن والتاريخ"، و"نحن والمستقبل"، و"مطالب المستقبل العربي".
الرابعة: وتضم دراسات حضارية تناولت حاضر الواقع العربي في تشابكاته الإنسانية، مثل "هذا العصر المتفجر، نظرات في واقعنا وواقع الإنسانية"، و"في معركة الحضارة".
يمكننا اعتبار قسطنطين مفكرًا قوميًّا؛ فقد جعل الشعوب العربية والتاريخ العربي والمستقبل العربي هاجسًا له. وقد اختار العقيدة القومية وارتبط بها وعبّر عنها في كل ما كتب. ومع ذلك لم يدّعِ أنَّه وضع "نظرية قومية"، بل أنَّ كتابه الأول والأهم بعنوان "الوعي القومي" يحمل دعوة مفتوحة لمفكري الأمة أن يبذلوا قصارى جهودهم لوضع فلسفة قومية شاملة واضحة ومنظمة.
طرأت على فكر زريق القومي تحوّلات وتبدلات خلال فترة امتدت على أكثر من ستة عقود. وقد برزت ثلاثة اتجاهات في طروحاته، هي:
1- التمييز بين القومية العربية والإسلام، وقد ظلَّ هذا الاتجاه ثابتًا في تفكيره القومي، معتبرًا أنَّ الدين عنصرٌ من العناصر التي توحد الشعوب، لكنَّه ليس العنصر الحاسم لتعيين قوميتها، مؤكدًا على ارتباط القومية بالعلمانية، وأنَّ القومية العربية سوف تعجز عن أن تكون أداة لتكوين أمة وتطويرها، إذا لم تنجح في أن تتعلمن، مفهومًا وتطبيقًا، وتضمن المساواة المبدئية لجميع أبناء المجتمع العربي على اختلاف طوائفهم ومذاهيهم. وإذا كان عنصر التوافق الرئيس بين القومية العربية والإسلام يتمثل بأنَّهما حركتان تحريريتان، إلا أنَّ كلاً منهما يسلك إلى هذا الهدف طريقه الخاص؛ فالقومية تستمد دساتيرها وقوانينها من الاختبار الإنسانيّ، وهي خاضعةٌ للتطوّر بالاختبار والمناقشة، في حين أنَّ الدين يعتمد شرائع غير قابلة للتطوّر، ويفرض مبادئ وأحكامًا صيغت في عصور سابقة على عصور لاحقة مختلفة عنها.
يتضح من ذلك أن زريق لا يرى تعارضًا بين القومية والدين وخاصّةً في حالتنا العربية، وهو ما يتفق عليه كلُّ المفكرين القوميين العرب، حيث يعتبرون الدين أحد عناصر القومية العربية، لأنَّه جزءٌ شديد الارتباط بالثقافة العربية والتراث العربي.
2- التأكيد على وجوب احتواء أية دعوة قومية على جوهر اقتصادي اجتماعي ثقافي، واقتناعه بضرورة تكوين العقيدة القومية الصحيحة، وبناء قواعد متينة لها في المجتمعات العربية، قبل الإقدام على محاولة تطبيقها سياسيًّا أو فرضها فرضًا فوقيًّا.
واستنتج من ذلك بأنَّ القومية، بكونها ظاهرة من ظواهر الحداثة، لن تتحقق إلا في مجتمع قد أحرز قدرًا من التطوّر الحضاري. وراح يسلط الأضواء على العوامل الاجتماعية التي تعرقل تبلور الوعي القومي العربي، ويحثُّ على العمل من أجل توفير الشروط التي تنقل المجتمعات العربية من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة. فما من نهضة قومية تحريرية قامت في العالم إلا وسبقتها أو لازمتها نهضة فكرية، وأنَّ الأمة أو القومية هما مظهران لواقع اجتماعي يبرز إلى الوجود عندما تتوفر شروط اقتصادية واجتماعية وثقافية معينة.
ومع أن زريق لم يقلّل من أثر العوامل الخارجية التي كانت تحول دون قيام كيانات وطنية عربية حديثة، ودون تحقيق الوحدة العربية، إلا أنَّ ما يميّزه عن غيره من المفكرين العرب هو تركيزه على الدور الحاسم للعوامل الداخلية، المتمثلة في العصبيات الطائفية والقبلية والجهل، والتي تعود حسب رأيه إلى سبب أساسي هو تخلف المجتمع العربي عن الطور الذي يؤهله لأن يكون مجتمعًا قوميًّا.
3- اعتبار أنَّ القومية العربية تخفق في تحقيق هدفها التطويري، إذا لم يصاحبها تطلع إلى الأمام. ومن هنا دعا زريق العرب إلى السعي من أجل امتلاك القدرة الذاتية، بوجوهها الأربعة التالية:
- قدرة العقل المتمثلة بالعلم
- قدرة النفس، أي القدرة الخلقية
- قدرة المجتمع على رد العدوان عليه، وإزالة الظلم في داخله.
- قدرة المجتمع على تكوين بنيته الوطنية.
تبنى زريق توجّهًا قوميًّا مستقبليًّا، استند إلى القناعة بوجود تفاعل جدلي مستمر بين الماضي والحاضر والمستقبل، يجعل الموقف الذي يتّخذه المجتمع من ماضيه مرتكزًا إلى حدٍّ بعيد على القوى والمشكلات التي تجابهه في حاضره، وعلى الغايات التي يرسمها لمستقبله، وعلى أساس تلك القناعة، أكد زريق بأنَّ الوعي القومي لأمة من الأمم لا يكتمل إلا إذا تقدم من فهم ماضي الأمة وإدراك حاضرها إلى تقدير مستقبلها وتصوير مصيرها، داعيًا إلى "التحرر من أفيون التاريخ"، أو ما أسماه في كتابه "نحن والتاريخ" ب "التاريخ العبء". وكي يكون التاريخ حافزًا للعرب، لا عبئًا عليهم، ينبغي عليهم وعلى مفكريهم، أن يقوموا – كما رأى- بتقييم تاريخهم واستخلاص التراث الإيجابي الذي يتضمنه، على أن ينظر إلى هذا التراث الإيجابي من ضمن نطاق التراث الإنساني الأوسع.
ومن منطلق اعتقاده بأنَّه ليس ثمة تناقض بين النظرة التقدمية المستقبلية وبين التمسك بالكيان التاريخي والتراث الإيجابي، خلص إلى أنَّ المجتمع العربي التقدمي المنشود، لا يحتاج لأن يقطع صلته بتراثه الباقي، ما دام هذا التراث نتيجة لنظرة تقدمية.
وفي المرحلة الأخيرة من حياته وجّه زريق انتقاداتٍ صريحةً إلى دعاة القومية العربية، لكونهم صرفوا جهودهم على الجانب التوحيدي أكثر من المحتوى الحضاري، ولم يعطوا المضمون الاقتصادي والاجتماعي والحضاري للدعوة القومية الاهتمام الذي تستحقه.
ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى حد اتهام دعاة القومية العربية بأنَّهم لم بكونوا صادقين في دعوتهم، وخاصة عندما عمدوا إلى الاستعانة بالعسكر ليستمدوا منهم القوة.
وبالرغم من ذك لم يتراجع زريق عن قناعاته بأنَّ العرب جديرون بأن يؤلفوا أمّة واحدة. وقد تميزت القومية العربية التي ظلَّ مؤمنًا بها بانطوائها على بعدٍ إنسانيٍّ واضح، وصار يعتبر العرب قد أصبحوا جزءًا من كيان إنساني متواصل متفاعل، معتبرًا أنَّ التطوّرات التي يشهدها العالم قد دفعت شعوب الأرض نحو الأخوة الإنسانية، وجعلت مشكلاته الأساسية عالمية النطاق، إنسانية الصفة والموضوع. وفي مواجهة ما أسماه ب "أزمة المجتمع الإنساني"، راح زريق يؤكّد على ضرورة إحداثِ تحوّلٍ في طبيعة الإنسان وتوجهاته يقابل التحولات الجذرية التي يحدثها تسارع المعرفة، فالعالم الجديد في رأيه صار يتطلب إنسانًا من نوعٍ جديد، وستظلُّ الحضارة الإنسانية في اضطراب ما لم يحدث هذا التغير الإنساني.
أصبح زريق في سنواته الأخيرة أكثر تشاؤمًا، لكنَّه لم يفقد الأمل بقضيته القومية، وظلَّ مقتنعًا أنَّ المجتمع العربي قادرٌ على التحرّر من القوى المهيمنة عليه، والانطلاق في مسارات التقدم، على قاعدة تنمية القدرة الذاتية ومضمونها الحضاري. لذلك فقد راهن على المثقف العربي، ودعاه إلى الصمود، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الشعوب العربية ومن تاريخ الإنسانية ككل.
توصل زريق من موقعه أنَّه بات على المفكرين العرب أن يجهدوا في إعادة صياغة مفهوم جديد معاصر للقومية في بلداننا، وإعادة صياغة مفهوم جديد للعلاقات العربية – العربية في اتجاه وحدة من نوع مختلف عن كل التجارب السابقة التي فشلت.
كان قسطنطين زريق المفكر الكبير ورائد التفكير العلمي، والأستاذ لجيل كامل نهل على يديه طرائق التفكير الحديثة، ومناهج البحث التاريخي، محرضًا إيّاه على الخروج من الهزيمة إلى رحاب المعرفة، وبناء المؤسسات كشرطٍ لا بدَّ منه للتقدم والانتصار، وكان في الوقت نفسه داعيةً إلى التحرر والديمقراطية والعلم.