أهمية جغرافيا الأردن "المكان والزمان" في صناعة الأفلام السينمائيّة العالميّة

د. محمد الفالح
أكاديمي وناقد سينمائي أردني

يُعتبر الفنُّ السينمائيُّ في العموم فن "زماني ومكاني" وهذا يدلُّ على أنَّ الزمان والمكان يرتبطان بعلاقة متينة ومتبادلة، تشُكّل جغرافيا ينتج عنها في نهاية المطاف، مادة بصرية تصبح بحدّ ذاتها وثيقة مرئية تحمل أحداثًا وأماكن وزمانًا، ربما يكون ماضيًّا أو حاضرًا، لتصبح هذه المادة البصرية مشاهدة في مختلف بقاع العالم.
والمكان والزمان عنصران أساسيان في البناء الفيلمي، حيث يبني كاتب السيناريو القصة الدرامية بالاعتماد عليهما بشكلٍ أساسيّ، وتُرسم الشخصيات في الفيلم بالاعتماد عليهما أيضًا، ثم يترجم المخرج من خلال أدواته وحرفته، ويحوّل المكان والزمان المكتوبين على ورق إلى صورٍ فيلمية تقدّم قصة الفيلم من خلالها، ومن خلال الشخصيات في العمل السينمائي.
يتمتع الأردن بمناخ جغرافي متنوّع مميز، حيث يجمع بين المناطق الجبلية والسهلية والصحراوية، إذ تعتبر صحراء الأردن من أهم المناطق الصحراوية في العالم في تشابهها بسطح المريخ، حيث يُعتبر الأردن بمناخه المتنوع أستديو مفتوح لتصوير الأفلام العالمية منذ عام 1962، عندما صُوّر الفيلم العالمي "لورنس العرب"(Lawrence of Arabia) للمخرج العالمي "ديفد لين"(David Lynn)، حيث تم تصوير الفيلم في منطقة "الطبيق" الصحراويّة في الأردن التي جعلت الفيلم يحصل على جائزة أوسكار في التصوير.
هذه الجغرافيا المتنوّعة في الأردن جعلت منه مكانًا مميزًا للتصوير إذ صوّر فيه ما يقارب (78) فيلمًا عالميًّا، حيث يتم تصوير قرابة 30% من الفيلم داخل الأردن، الأمر الذي شجع شركات سينمائية أجنبية عالمية بالتوجه إليه لتصوير العديد من مشاهد أفلامها. ووجود الهيئة الملكية للأفلام عمل على توفير المناخ السينمائي المناسب لتصويرها، بالإضافة إلى وجود شركات سينمائية أردنية تقدّم مختلف الخدمات الفنية لصناعتها، كما تسهم في إيجاد الممثلين المحليين ومشاركتهم في هذه الأفلام. يؤكد "مهند البكري" مدير عام الهيئة الملكية للأفلام «أنَّ مؤسسة الهيئة الملكية للأفلام تقدّم الكثير من الحوافز لصنّاع الأفلام بدءًا من تسهيل الحصول على تأشيرات الدخول إلى الأردن وتوفير مواقع وتصاريح التصوير، كما تعمل الهيئة الملكية للأفلام على تقديم حوافز عديدة لجذب المنتجين العالميين لتصوير أفلامهم في الأردن، أهمها الإعفاءات الضريبية التي تصل إلى25%.
العديد من الممثلين العالميين أكّدوا في العديد من المقابلات الصحفية عن أهمية جغرافيا الأردن لتصوير الأفلام العالمية، حيث أكّد الممثل العالمي "ويل سميث" الذي جسّد شخصية علاء الدين في فيلم "علاء الدين"، «عندما هبطنا في الأردن بدأت تتجسّد فينا مشاعر الشخصيات، لمجرد أن تمشي في المكان وتتأمل ما حولك تتقمص الشخصية التي سوف تؤديها وهذا بالنسبة للممثل أمرٌ غاية في الأهمية.»
المكانُ في السينما
يُعدُّ المكانُ في السينما عنصرًا مهمًّا من عناصر البناء الفيلمي الذي تدور فيه الأحداث الدرامية، وتتحرك فيه الشخصيات السينمائية؛ سواء شخصيات رئيسة أم ثانوية أم كومبارس، والتي تعبّر عن إحساسها بالنصّ ليس بمعزل عن المكان، كما يرسم المكان دورًا أساسيًّا في إظهار الشكل والمضمون الاجتماعي والسياسي والجمالي لقصة الفيلم. قد يعمل صانع الفيلم "المخرج" من المكان افتتاحية ومقدمة للفيلم السينمائي، ويمكن أن يكون المكان مكانًا معينًا تمهيدًا للفيلم وفق سياق الأحداث فيه سواء أكانت هذه الأحداث سردية أم غير سردية لا تنتج عن تتابع درامي، والهدف منها الاستهلال للفيلم وربما إيجاد عنصر التشويق الفيلمي، أو تكون هذه البداية تابعة لرؤية المخرج حسب بناء التسلسل الدرامي.
يختار صانع الفيلم المكان بعناية، وبما ينسجم مع الحدث الدرامي والشخصية التي تعيش في هذا المكان، بمعنى أن "تنسجم الشخصية مع المكان المراد تصويره فتحبّه وتعيش ألفة معه، وينتج عن هذا الحب إحساس عالٍ للشخصية، وربما يكون المكان متناقضًا مع الشخصية، فيولد هذا التناقض نوعًا من الصراع الذي يحدّد فيما بعد أبعاد الشخصية بالمكان وبالشخصيات الأخرى". فعندما يكون المكان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا وحقيقيًّا بقصة الفيلم السينمائي، فإنَّه يجذب الشخصية ويجعلها تقدّم إحساسًا عاليًا في الفعل الدرامي داخل المشهد السينمائي، ولربما في بعض الأحيان يزور الممثلون الذين يؤدون شخصية معينة المكان الذي سيتم فيه تصوير المشهد، ويتجولون فيه لخلق علاقة متينة في الإحساس بين الفعل الدرامي والمكان، وهذا يولد الإحساس العالي والداخلي بين الشخصية والمكان، حيث "المكان أشبه بمشهد درامي مركب من الشخوص الإنسانية التي تصنع الحدث ومن الشخوص المكانية التي تحتوي الحدث. وعليه فإنَّ الحضور المكاني يرتبط بعلاقات مع الحضور الإنساني والمحيط البيئي". ويُعدّ المكان في الفيلم السينمائي أحد أهم عناصر السرد المسيطرة على الفيلم حيث "إنَّ السرد لا بدّ أن ينطوي على مكان تجري فيها المادة الحكائية"، وهذا ما حدث في فيلم "لورنس العرب"، عبر تحرك الشخصيات والانتقال من مكان إلى مكان ضمن سياق تسلسل الأحداث الدرامية، وعلاقة الشخصيات ببعضها ضمن هذه الأحداث؛ وعليه "فإنَّ الحضور المكاني في العمل السينمائي يرتبط بعلاقات مع الحضور الإنساني والمحيط البيئي"، وهذا يقودنا إلى مسألة تحديد المكان في الفيلم السينمائي؛ وهي مسألة نسبية تعتمد على آلية التوظيف مع صانع الفيلم بما يتناسب مع الحدث الدرامي داخل المشهد السينمائي.
• الزمانُ في السينما
الزمان والزمن هما كلمتان مترادفتان من حيث المعنى والدلالة، وتجمعان على زمان وأزمنة وهو اسم لقليل من الوقت وكثيره، وتشير كلمة الزمان في العربية والإنجليزية إلى دلالة الوقت، لكنَّها في الفرنسية (Temps)، حيث تشير إلى حالة الجوّ. والوقت مقدار من الزمن، وقد استعمل العالم اللغوي سيبويه لفظ الوقت للدلالة على أنَّه مثل الزمان.
الزمن له دورٌ مهمٌّ في الفيلم السينمائي، فهو محرك الأحداث، وهو أشبه بلوحة ترتسم عليها الشخصيات. فالمعطيات التي نتلقاها من المشاهدة يفعل فيها الزمان فعلًا مؤثرًا، "إذ تتحقق المشاهدة عبر دائرة زمانية هي عمر الشريط على الشاشة وهو زمن مباشر ندركه عبر متوسط زمن الفيلم"، لكن هذه المدة الفيلمية هي في الواقع خلاصة خارجية للزمن، ترتبط بحقيقة وجودنا وحسابنا للزمن، ونحن في صالة العرض أو في المنزل أو في مكان آخر، أمَّا الأزمنة الموازية المتغلغلة في بنية الفيلم، فهي التي تولد القراءة الجمالية للفيلم.
إنَّ زمن العرض الذي أشرنا إليه سابقًا يُضاف إليه "زمن الأحداث"، سواء زمن وقوعها في السياق الفيلمي أم ما تستغرقه من زمن مرئي، ويبنى زمن الأحداث على زمنين آخرين وهما: زمن اللقطة وزمن المشهد. من هنا وجدنا أنَّ المرونة العالية في الانتقال بين الأزمنة (ماضٍ وحاضر ومستقبل) ستوجد زمنًا توليديًّا متجدّدًا هو (الزمن الفاصل) ممثلًا في إدراكنا الآني لانتقال الأحداث بين أزمنة فيلميه متعددة، أمَّا الزمن الآخر المكمل فهو (زمن نفسي) يقترن بتبعثر الذاكرة والتغلغل في الزمن المعاش، ويأتي للدلالة على ذلك الإحساس الذاتي والشعور بمرور الزمن أو بعدم مروره، مع تقدير قدره انطلاقًا من هذا الإحساس.
للزمن فلسفةٌ يعبر عنها كثير من مبدعي السينما، ليس بوصفه هيكلية ببعدها الثلاثي: ماض، حاضر، مستقبل، وإنَّما سلسلة من الزمن المنحوت من الواقع، ومن الخيال، ومن الافتراض؛ سماه "تركوفسكي" النحت في الزمن، إذ من المستحيل أن يتواصل المتلقي مع الأحداث والحكاية من دون الربط الزمني المنطقي، وإلا أصبح الفيلم عبارة عن لوحات صور متلاحقة.
إنَّ العلاقة بين الزمان والمكان في السينما علاقة مونتاجية، يتحكم في توجيهها المونتاج، فقد نُشاهد لقطة لرجل يصعد الدرج، وننتقل عبر المونتاج إلى مكان آخر لنشاهد رجلًا ينزل من الدرج نفسه في اللحظة نفسها، ثم تندمج الصورتان مع بعضهما البعض حينما يلتقيان معًا، وبالتالي تنطوي أبعاد المكان والزمان وتندمج في وحدة مونتاجية سينمائية. لهذا فإنَّ عملية المونتاج مهمة بشكل كبير، ليس لأنَّها فقط تكوِّن أجزاء الفيلم المتفرقة في قطعة كاملة متوازنة؛ وإنَّما أيضًا لأنَّها أداة المخرج في التحكّم بالزمن السينمائي، حيث يستطيع التلاعب بالزمن عن طريقها. فيكمن الدور الكبير لصانع الفيلم ألا يبعد المشاهد من زمن الحدث والزمن الدرامي للفيلم بشكلٍ أساسي.