محمود الزيودي؛ رائدُ الدراما الأردنية

ريم العفيف
كاتبة أردنية
إبّان الحقبة الذهبية للدراما الأردنيّة، ظلَّ اسم محمود الزيودي لامعًا في أكثر من عمل تلفزيونيّ ومسرحيّ، فما إن يفرغ هذا الرائد من تقديم عمل إبداعيّ، إلا وكان يفاجئ متابعيه بعمل جديد، سواءً في كتابة النصوص أو الأداء التمثيلي اللافت، دون أن يتوقف على لون معين، فهو حاضر وبقوة بسائر أنواع الدراما البدوية والريفية والمدنية، وكانت شركات ومؤسسات الإنتاج التلفزيوني في القطاعين الخاص والعام، تتنافس على اسمه الذي حفره بنجاح على أعمدة المشهد الثقافي الأردني والدرامي خاصةً، بعصاميّة نادرة، وفق أسسٍ وأحكامٍ تتطلبها طبيعة العمل الدرامي وأطره، سواءً في استعادة الماضي القريب، أو في النبش بالواقع المعاصر لمكوّنات النسيج الاجتماعي الأردني.
في سائر اشتغالات الزيودي الدرامية، بأنواعها المشرعة على هموم وتطلعات الإنسان الأردني، لم تغب تلك اللقيات الفطنة، التي كانت تبغي توجيه رسائل إلى المتلقي، والتي للأسف غدت شبه مفقودة الآن، رغم زحام عناوين الأعمال، حيث جرى ترك العنان للمنتج، الذي بات يتحكم في كثير من المسلسلات في فرض سطوته عليها، على حساب كاتب النص، من دون الأخذ والتعاطي مع مفرداته ورؤيته في استعادة حراك وقائع الأفراد والجماعات، على خلفية من التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية.
رأى الزيودي في أكثر من مناسبة، أنَّ الدراما مرتبطة بالمنتج، والقنوات التي ستعرض عليها نصوصه، سواءً كان ذلك مسلسلاً أو مسرحية أو فيلمًا، لافتًا إلى أنَّ حالة الدراما العربية بشكل عام، شهدت شكلاً من التراجع، نتيجة لكثير من الأوضاع والأحوال السائدة، ملمحًا إلى أنَّ الكثير من المحطات العربية، التي اعتادت شراء الدراما الأردنية بشكلٍ مستمرٍ ودائم، تحوّلت عنها صوب اشتغالات درامية متباينة، يغلب عليها الترفيه المجاني، الذي ينأى عن الواقع وتحوّلاته العصيبة، والتي إن حضرت فهي باتت أشبه بمنابر خطابية ودعائية، ولم تعد مهتمة بالترفيه والإمتاع، الذي تسنده رسائل بليغة، قادمة من مفردات تفاصيل البيئة والعيش الإنساني، فضلاً عن ضرورة توفر تلك العناصر الجمالية، وما تقدمه التقنيات السمعية البصرية من رؤى وأفكار، ترتقي بالعمل الدرامي وتثري قيمته الفنية.
غاب الزيودي عن تقديم أيّ منجز درامي محلي في السنوات الأخيرة، تحت وطأة مجموعة من العوامل والظروف الصعبة، التي أسهمت في تراجع الدراما الأردنية بشكل لافت، من ضمنها تراجع اهتمام عدد من المؤسسات بالبعد الثقافي عامةً والفني خاصةً، كما أنَّ هناك ضعف الإمكانات المادية للمنتج، الذي غدا أسير المؤسسة الإعلامية، التي ستشتري منه العمل، فضلاً عن عدم دعم القطاع الخاص للعمل الدرامي في الأردن؛ لأن المنتج غير مستعد خوض مغامرة إنتاج دون أن يضمن استعادة رأس المال وأرباح إضافية، ومثال ذلك أنَّ إحدى أبرز شركات الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني بالمنطقة، قدّم لها الزيودي مجموعة من النصوص، إلا إنَّها للأسف لم تنتج بعد، باستثناء إنتاجه لمسلسل (عوده أبو تايه) الحائز على تسع جوائز ذهبية في مهرجان القاهرة، مبينًا أنَّه في العام ٢٠١٥ كان قد انتهى من كتابة مسلسلٍ يتحدث عن تأسيس الدولة الأردنية وما شهده تاريخ الوطن آنذاك من قيادات ورجالات، إلاّ أنه ما زال ينتظر إنتاجه.
ظلَّ الزيودي على الدوام، وفي أكثر من مناسبة، يطرح أمام المسؤولين والقائمين على الثقافة والفنون والإعلام، الكثير من التساؤلات، عن تلكؤ جهات إنتاجية عديدة، في الإنجاز الدرامي، رغم توفر الكثير من النصوص والقصص والحكايات، التي توثّق لمئة عام من تأسيس الدولة الأردنية، خاصةً وإنَّ من بينها ما يظهر بدء حركة التطوّر الأردني في المراحل السياسية والثقافية والاقتصادية في عهد الملوك الهاشميين، ومعارك الجيش العربي العام ١٩٤٨، الذي قاتل ببسالة في فلسطين في أكثر من موقعة، وكان ندًا قويًّا أمام جحافل الغزاة والمستوطنين.
وتحقّق حلم الزيودي حديثًا، عندما أنجز التلفزيون الأردني، مسلسل "المشراف"، الذي يستعيد فيه محطات تاريخية عايشها الأردنيون في أكثر من فترة زمنية خلال القرن الفائت، وهو عمل فني يزخر بالكثير من الحكايات المستمدة من ذاكرة الناس العاديين، المفعمة بتفاصيل العيش اليومي إبّان معركة الكرامة، وأثرها على الواقع الاجتماعي في ستينيات القرن الماضي، وبثَّ العمل في أحداثه، الكثير من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية النبيلة، وبالتوازي مع مواقف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تزخر بها تلك اللحظات العصيبة المكللة بالنصر والفخر ومواقف الألفة والحنين والروح الوطنية.
دائمًا؛ وفي سائر أحاديث ومقالات محمود الزيودي، هناك إصرار على أنَّ أزمة الدراما الأردنية، ليس في ما نستطيع تقديمه للفن، إنَّما هي في مشكلة عدم الاهتمام بالفنِّ والفنان، وغياب الدعم والتمويل للمنجز الدرامي الأردني، سواءً عبر دعم العروض الإبداعيّة أو صناعة المسلسلات التلفزيونية وإنتاجها، أو في صناعة الأفلام، فضلاً عن أهمية صناعة الظاهرة النجومية، والإسهام في محاولات اكتشاف أصحاب المواهب وتعزيز قدراتهم بالتدريب وإقامة الورش، وإشراكهم إلى جوار طاقات إبداعية راسخة؛ لأنَّ هذا كله، هو العامل الأساس في تسويق العمل الدرامي وتحصينه، دون أن يكون على حساب النص المكتوب، والتأثير في مخيلة المخرج، أو التقتير في إطلاق إمكانياته التقنية التي تمنح العمل الدرامي سماته الجمالية.
من الصعوبة بمكان على الباحث أو الدارس، أن يقدم صياغة مختصرة لمجمل إبداع الزيودي المديد، فهو المولود العام 1954 في قرية "غريسا" بمحافظة الزرقاء، كتب مجموعةً وفيرةً من الأعمال الدرامية للإذاعة والتلفزيون، التي أشادت بها أقلام النقّاد، وما زالت عالقة بذاكرة أجيال الأردنيين، كونها كانت بسيطة وصادقة في طروحاتها عن الحالة الأردنية على غرار: (المحراث والبور) 1981، (شمس الأغوار) 1981، (حارة أبو عواد) 1981، (قرية بلا سقوف) 1982،(هبوب الريح)، 1982، (الطواحين) 1983، (المسعور) 1983 ،(جروح) 1984، (شمس الزمان)، (الغريب)، 1988، وفيلم (نزهة على الرمال) 1989، (وجه الزمان) 1988، (خيمة على الطريق) 1996، و(عودة أبو تايه) 2008، وصولاً إلى مسلسل (المشراف) 2021، وسواها كثير.. مثلما أدى من خلال البعض منها، جملةً من الأدوار المتنوعة، لفتت اهتمام النقّاد والمشاهدين، بتلك التلقائية والعفوية الآسرة، الآتية من معايشة حقيقية للمبدع لواقع بيئته في أكثر من مكان وزمان، فهو الذي نال تعليمه الابتدائي في مدرسة (القويرة) بالبادية الأردنية الجنوبية، ثم استهل حياته بالعمل لحساب القوات المسلحة (قوات البادية) منذ العام 1961 حتى العام 1972، قبل أن ينتقل للعمل في إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية منتج برامج العام 1972 حتى العام 1978، بعدها عمل رئيساً لقسم الفنون الشعبية في وزارة الثقافة الأردنية من العام 1980 حتى العام 1994.
ظلَّ محمود الزيودي وفيّا لهُويته الأردنية، مهتمًا بالتراث البدوي وبالفلكلور، وباحثًا في الأدب الشعبي المحلي، وما زالت ذاكرته عامرة بالطموحات الكبيرة المحملة بالتفاصيل والذكريات وبالأمل في الوطن وحكايات أناسه الطيبين، وفي النتيجة حلّقت أعمال الزيودي داخل الوطن وخارجه، ونالت استحسان المتابعين وثناء أقلام النقاد، وجرى تكريسها في الذاكرة الأردنية والعربية بوصفها قامات إبداعية.
بعد مشوارٍ طويلٍ مع خشبة المسرح وميكروفون الإذاعة والشاشة التلفزيونية، على مدى أكثر من أربعة عقود، قدّم الزيودي عشرات الأعمال الدرامية، بالإضافة إلى مجموعة من البحوث والدراسات والأفلام الوثائقية والقصيرة، منحته العديد من الجوائز العربية والمحلية، منها: وسام الاستقلال من الدرجة الثالثة العام 2012. كما شارك الزيودي كعضو لجنة تحكيم في عدد من المهرجانات منها: مهرجان القاهرة للسينما والإذاعة والتلفزيون العام 1996، ومهرجان مسرح الشباب الأردني العام 1990، كما أدى الزيودي العديد من الأدوار في مسلسلات: (عودة الفارس) 1975، (قرية بلا سقوف) 1981، (بير الطي) 1984، (التبر والتراب) 1989، (المحراث والبور) 1989، (السحاب والشوك) 1999، ومن بين أعماله المسرحية هناك: (الضباع) 1972، (المحجر) 1975، (رسالة من جبل النار) 1976، (امرأة بين خمسة جدران) 1978، (ضيف الغروب) 1979، (معايد قريتين) 1981، (بيادر وحكايات) 1984، (المضبوعون) 1991، (شجرة على الحدود) 1996، ومسرحية (الشيخ والقلعة) 1998.
في حقل الأفلام القصيرة بشقيها التسجيليّ والروائيّ كتب الزيودي أعمال: (مسافر في الصحراء)، (شيخ السردية)، (القاتل وعدالة البادية)، (نزهة على الرمال)، (ليل الأحرار)، (القافلة)، (الشوك والبرعم)، و(نار الغضى).
التزم محمود الزيودي طيلة مسيرته الإبداعية المديدة، على الوفاء والحرص على الذاكرة المغمسة بهُويته الوطنية الأردنية الأصيلة، وبان ذلك في كلِّ نصٍّ كتبه، أو دورٍ لعبه تحت إدارة هذا المخرج أو ذاك، فهو عاشقٌ حقيقيٌّ لرائحة المكان ومكوّناته، سواءً في الريف أو البادية أو المدينة الكبيرة، ومن خلالها يتوهج قلمه في رسم تلك التفاصيل والنماذج الإنسانية، لينطلق بوداعة في بناء أحداث درامية من صلب الوطن وتاريخه وسماته، ورسم بمهارة شخصيات واقعية مزنرة بمواقف الفرح والحزن والأمل والألم والفقد والحنين، مشبعة بمقولات الحكمة في إظهار التفاني في الإيثار والكرم والشجاعة، على نقيض ما يحصل الآن حين تحوّلت الواقعية إلى شعبوية فاقدة لوجهتها، مثلما هو في الكثير من الأعمال الدرامية السائدة.