(شهادة فنية)
• جلال طعمة
مخرج ومنتج سينمائي أردني
أبصرت عيناي النورَ عام 1942، داخل بيئة ريفيّة، لم تكن تعرف معنى الترفيه أو الدراما، التي عملتُ على خوض غمارها في السنوات اللاحقة من عمري، حيث أُتيحت لي فرصة الدراسة في مدارس داخلية ببيروت وبيت لحم لاحقًا، وهناك بدأتُ التعرف على مبادئ التمثيل المدرسيّ في العديد من المناسبات، ووجدتُ نفسي فرحًا ومنسجمًا مع مثل هذه النشاطات والفعاليات، التي وجدت فيها بمعية أقراني من الطلبة، وتحت إشراف مدرسين وتربويين متمرسين بأطياف من الموسيقى والأداء المسرحي، عالمًا جديدًا أخذني صوب التفكير بهذا الحقل الإبداعي الرفيع من الفنون، وما زاد الأمر إصرارًا ولهفة، تلك الفترات التي كنتُ أذهبُ فيها إلى صالات المسرح والسينما القريبة من المدرسة الداخلية خلال فترات العطل الأسبوعية، لمشاهدة أحدث المسرحيات والأفلام العربية والعالمية، التي تناسب ذائقة عمري آنذاك.
بداياتُ الشغف بدنيا الأطياف والأحلام
وفي سنوات الدراسة، تعلّمتُ اللغتين الإنجليزية والايطالية، وهو ما قادني إلى العمل مبكرًا مع إحدى الشركات الايطالية في بيروت، ولدى عودتي إلى الأردن، علمت أنَّ هناك فريقًا سينمائيًّا يتبع لإحدى شركات الإنتاج الكبرى بصدد تصوير فيلم عالمي، وعزمت الأمر أن أذهب إلى هناك للاطلاع على عمليات تصوير هذا العمل، الذي كنت أتابع فترات تصويره عبر أخبار الصحف في تلك الفترة، وهذا الفيلم الذي كانت تتناقل أخباره وكالات الأنباء العالمية، لكونه يضمُّ أشهرَ صنّاع السينما العالمية ونجومها، ووجدتُ نفسي أنخرطُ مع عشرات التقنيين و"الكومبارس" في هذا الفيلم العالمي الشهير المعنون "لورنس العرب" للمخرج البريطاني "ديفيد لين"، وكانت الصدفة وحدها أن تعرفت على زوجة المخرج أثناء الاستراحة من تصوير أحد المشاهد، وهي ايطالية أصابتها الدهشة بعد أن سمعتني أدندنُ بلحن أغنية ايطالية دارجة، وقدمتني إلى زوجها المخرج العالمي، الذي رحب بوجودي ضمن العاملين بالفيلم، وطلب إليَّ أن أذهب إلى أحد معاهد السينما لصقل تجربتي كي أصبح مخرجًا، وأخذت أشتغل في عدة مهن كي أجمعَ ثمن تذكرة الطيران للذهاب إلى روما، وأُتيحت لي الفرصة أن أعمل في عدة مهن داخل مدينة الزرقاء، بعد أن قرّرت أسرتي الرحيل إليها بحثًا عن عمل لوالدي، وهنا وجدت الفرصة المتاحة لي لأن أشاهد قاماتٍ رفيعةً من الإنتاج السينمائيّ العربيّ والعالميّ في صالات سينما "ركس والنصر والحمراء"، وهو ما زاد شغفي في الإصرار على أن أكون مخرجًا.
وفي مسعى لتحسين دخلي كي أتمكن من دراسة الفن السينمائيّ أكاديميًّا؛ غادرتُ الزرقاء إلى الكويت لأعمل هناك في حقل الترجمة، وفعلاً نجحت في تجميع مبلغ وفير ثم توجهت إلى ايطاليا، وفيها تعرفت إلى المخرج المصري فاروق عجرمة الذي كان يعمل في السينما الايطالية، وطلب إليّ أن أدرس في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، الذي أُفتتح حديثًا، وغامرت بالسفر إلى القاهرة، وخضت امتحان القبول في المعهد، وكنت أحد الناجحين القلائل من بين عشرات المتقدمين .
وخلال السنة الثالثة لدراستي بالمعهد، تعرفت إلى وزير الإعلام آنذاك "صلاح أبو زيد"، الذي كان في زيارة رسمية للقاهرة، وطلب مني أن أتوجه فور الانتهاء من الدراسة بالمعهد، إلى عمان للعمل في التلفزيون الأردني، حيث كانت تجري عمليات التحضير لافتتاحه، وبالفعل تقدّمت إلى التلفزيون بوظيفة مخرج بعد أن اطلعوا على مشروع لفيلم قصير أنجزته بالقاهرة بأسلوبية الصور المتحركة وحمل عنوان "شبشب"، وبدأت العمل في قسم السينما بالتلفزيون، وفيه أنجزتُ مجموعةً من الأفلام الوثائقية عبر تقنية كاميرا السينما 16 ملم، وكانت الفرصة متاحة لي بإخراج فيلمي القصير المعنون "الغصن الأخضر" الذي شاركت فيه بمهرجان "أوبر هاوزن" بألمانيا، وفيه صوّرت ما يتهدّد الغابات والثروة الحرجية، ثم أعقبته بفيلم "صراع من أجل حياة أفضل" عن الثروات الطبيعيّة في الأردن، إلى أن أُتيحت لي الفرصة العام 1970 لإخراج الفيلم الروائي الأردني الطويل المعنون "الأفعى"، الذي أُنتج من خلال قسم السينما في التلفزيون الأردني، واضطلع بأداء الأدوار الرئيسة فيه ممثلون أردنيون وعرب من بينهم: سهيل إلياس، مهدي يانس، لينا الباتع، ثراء دبسي، محمود أبو غريب، وكتب قصته سامي مدانات .
"الأفعى" محاولةٌ أُولى على الطريق الصعب.
تناول الفيلم الذي مثّل الأردن في أكثر من مهرجان وملتقى سينمائي عربي ودولي، من بينها مهرجان دمشق لسينما الشباب العام 1972، حكايةً بسيطةً تنهج تلك الدراما المستمدة من مواضيع الأفلام المصرية والهوليودية السائدة في عروض الصالات المحلية إبّان تلك الحقبة، وأذكرُ أنَّ الموزّع السينمائي الأردني "ميشيل الصيقلي" حضر إلى مقر التلفزيون وطلب توزيع الفيلم في الصالات المحلية مقابل نسبة لم يُتفق عليها.
كنتُ صوّرت في فيلم "الأفعى"، حكايةً عبر أسلوبية "الفلاش باك" من خلال تداعيات رجل وجد نفسه على رصيف الشارع ذات ليلة قبل أن يطرح عليه عابر سبيل سؤالاً عن الأسباب التي حدت به إلى أن يقضي ليلته بهذه الحالة الصعبة، ليبدأ في سرد قصته المأساوية التي تتلخص في زوجة جشعة تشتعل فيها الغيرة من قريبتها التي تعيش مع زوجٍ ثريّ.
ثم أتبعتُ "الأفعى" بفيلمٍ روائيٍّ طويل آخر، أطلقت عليه عنوان "الابن الثاني عشر"، وهو من النوع الكوميدي الاجتماعي الذي يستقي أحداثه من مفارقات داخل أسرة محلية، شارك فيه مجموعة من الممثلين أبرزهم: محمود أبو غريب، غسان المشيني، نعيم الموج، رشيده الدجاني، أحمد القوادري وسهيل إلياس، وجرى عرضه على شاشة التلفزيون الأردني وفي عدة احتفاليات من بينها عرض خاص في المركز الثقافي السوفييتي آنذاك، وأثار الكثير من النقاش والجدل مع الحضور.
كانت المحطة التالية في مسيرتي، هي العمل في الكثير من البرامج والمسلسلات الدرامية، التي استحوذت على متابعة قطاع عريض من المشاهدين الأردنيين والعرب، كان من بينها مسلسلات: "قلوب حزينة"، "حارة الزين"، "فيروز والعقد"، "نادي الأطفال"، "بون بون" وهو مسلسل كرتوني، "يوريكا" مع موسى حجازين، عقب هذه الأعمال أنهيت عملي في التلفزيون الأردني، واتجهت إلى القطاع الخاص، وقمت بتأسيس شركة "كاتي فيلم"، وأخذت في تصوير مجموعة من الأفلام القصيرة لحساب بلدان عربية مثل اليمن وسلطنة عمان، وأيضا لصالح العديد من المؤسسات والشركات الأردنية من بينها مجموعة أفلام دعائية وإعلانية لشركة عالية للطيران.
ظلَّ هاجسي على الدوام، أن تكون لدينا صناعة سينمائية أردنية تنافس مثيلاتها في العالم العربي، وكنت أرى أن يكون هناك مركز إرشيف للأفلام وأستوديوهات ومعامل سينمائية، فضلاً عن إقامة مراكز وورش تدريبية على عناصر الصنعة السينمائيّة، وفي سبيل ذلك بحثتُ مثل هذه الموضوعات والهموم مع العديد من وزراء الثقافة والزملاء العاملين في قطاع الإنتاج الدرامي، وتقدمت بعدة دراسات ذات جدوى اقتصادية عملت عليها بالتعاون مع شركة "طلال أبو غزالة"، وكل ذلك من أجل أن تكون لدينا سينما أردنية، إلا إنَّ هذا الطموح لم يصل إلى غايته، في إيجاد صناعة سينمائية متطوّرة، تمتلك بنية راسخة في الإنجاز والتوزيع، بعيدًا عن المحاولات الفردية التي تنجز عبر قدرات شابة، لا تلبث أن تتجه إلى مصادر أخرى للعيش بعد نجاحها بتحقيق أعمال مبشرة.
الهيئة الملكية الأردنية للأفلام
لكنَّني بهذا الصدد، لا بدَّ من الإشارة، إلى أنه يُحسب للهيئة الملكية الأردنية للأفلام، التي مضى على تأسيسها عشرون عامًا، أنَّها أسهمت في إيجاد حراكٍ في عالم صناعة الأفلام المحلية، عبر توفيرها مظلة تدريبية لأعداد من الشباب الأردني، ومنحهم الفرصة في تحقيق أعمال لافتة من فنون الصنعة السينمائيّة، البعض منها جال في العديد من المهرجانات العربية والعالمية، وهي بالتالي نجحت في وضع بصمة على الحياة الثقافية الأردنية والمشهد السينمائي العربي عمومًا، بيد أنَّ الرغبة ما زالت ملحة في مأسسة هذه القدرات، لتكون هناك إنجازات متتالية لتنافس غيرها من السينمات العربية، لتسير في طور الصناعة والاحتراف والتميّز والرسوخ، تتنوّع في نتاجاتها، وتنتهج أساليب عمل أفلام درامية وتسجيليّة وتجريبيّة مشبعة بقضايا الواقع، مثلما تنجح في تقديم معالجات سمعية بصرية، بحيث تستعرض فيها كاميرا الفيلم جوانبَ من إيقاع تفاصيل الحياة اليومية لبعض من الأمكنة في البيئة المحلية، المليئة بالقصص والحكايات النابضة بهموم وآمال الأفراد والجماعات، حينئذ يمكن أن تقود هذه الاشتغالات شرارةَ البدء في نهضة سينمائيّة أردنيّة جديدة.