دُورُ سينَما قاع المدينة.. نوستالْجيا تحوّلات الزَّمن

محمد جميل خضر
كاتب وإعلامي أردني
ليست دُور سينَما قاع المدينة وسط العاصمة عمّان، وحدها، التي تشكو وجع التحوّلات، وغبار المقاعد والمداخل والبوابات، وتزْفُر نوستالْجيا الزَّمن القديم.
هي حالة انسحبت على دور سينما باقي مناطق عمّان وجبالها (منها، على سبيل المثال: سينما الأمير في الهاشمي الشمالي، سينما القدس في جبل الحسين، سينما الفيومي في جبل اللويبدة، وسينما الأهلي في منطقة المحطة وغيرها). كما انسحبت على دور سينما باقي المحافظات مثل سينَمات: الحمراء، سلوى، ركس، النصر، فلسطين، الحسين وزهران في الزرقاء، وسينَمات إربد: الفردوس، البتراء، دنيا، الزهراء، الجميل (في إيدون) وزهران آخر صالات العرض السينمائية في إربد تشييدًا وأولها توقّفًا، متزامنٌ توقّفها مع توقّف عروض داريّ دنيا والزهراء، وأما آخرها توقّفًا في إربد فَدار سينما الفردوس التي شُيّدت عام 1913، ليمتد عمرها 104 أعوام حيث هُدمت في العام 2017.
اللافت أنَّ محافظات رئيسة كبرى في الأردن لم تعرف عبر تاريخها، لا القديم ولا الحديث، وجود دور عرض سينمائية فيها، مثل محافظات الكرك والمفرق (اكتشفت حديثًا بقايا سينما في الصفاوي (70 كيلومترًا شرقيّ المفرق) تأسست عام 1933، وشيّدت بمواصفاتِ دُور العرض البريطانية كوْنها بُنِيَت زمن الانتداب البريطاني) ومعان وجرش وعجلون ومادبا، علمًا أنَّ بعض المصادر تشير إلى وجود صالة عرض سينمائية واحدة في العقبة هي سينما "الجلاء" التي تأسست قرب ثَكَنات الجيش في المحافظة عام 1956. ويبدو من اسمها أنَّ مؤسسها كان متأثرًا بالعدوان الثلاثي على مصر في ذلك العام، وما سبق العدوان من قيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بِتأميم قناة السويس.
من المفارقات، أيضًا؛ أنَّ مدينة المفرق التي لا يوجد في قلبها النابض ولا أي دار عرض سينمائية، كانت شاهدة مطلع العام 2019، على افتتاح دار عرض سينمائية، ليس في متنِ المدينة، بل في هوامشها، وتحديدًا في مخيم الزعتريّ للاجئين السوريين الواقع داخل أراضي المحافظة، بدعمٍ من المنظمة الفرنسية "لوميير في الزعتري"، وشراكةٍ مع منظمة اليونيسف، وتنسيقٍ مع مديرية شؤون اللاجئين السوريين (مراكز مَكاني)، وتنفيذ شركة "نقطة خيال للأفلام والإنتاج الفني" الأردنية.
سُطوع..
ليس بعيدًا عن سطوع فنِّ السينما على امتداد الكوكب ابتداءً من مطالع القرن العشرين، وازدهار مختلف متعلّقاته عالميًا، من إنتاج سينمائيٍّ، إلى افتتاح دور عرض وصالات فرجة، إلى تطوّر صناعة كاميرات تصوير الأفلام، واستفادة حقول مساعدة مثل حقل المطبوعات الخاصة بِملصقات الأفلام (الأفيشات)، وحقل العمارة الخاصة بِصالات العرض، وديكوراتها، ومختلف مستلزمات تأثيثها؛ فإنَّ حال السينما في الأردن على وجه العموم، والعاصمة عمّان على وجه الخصوص، كان متأثرًا بهذا السطوع، ليس على صعيد صناعة السينما وإنتاج الأفلام، بل على صعيد افتتاح دور عرض للأفلام المُنْتَجة في الغرب الأميركيّ ومصر والهند، وإلى حدٍّ ما، المُنْتَجَة في سورية ولبنان، وإِنْ بدرجةٍ أقلّ بِكثير.
صحيحٌ أنَّ بعض دُور السينما الأردنيّة، افتُتحت ثلاثنينيات القرن الماضي، إلا أنَّ المُواكَبةَ الحقيقيةَ لِسطوع السينما عالميًا، بدأت بعد العام 1948، عام النكبة الفلسطينية وما رافقها من لجوء مئات آلاف الفلسطينيين إلى الأردن، مع نيلِ العاصمة حصةَ الأسد من هؤلاء اللاجئين، حيث بدأ انتشار دور العرض السينمائي العمّانية يسطع بشكلٍ لافت، ويتوسّع من وسط البلد (قاع المدينة)، نحو جبل عمّان، وجبال أخرى: جبل الهاشمي الشمالي، جبل اللويبدة، جبل الحسين، وهلمّ جرّى.
أسهمت تحوّلات القيم العمّانية، من روحٍ شبه بدوية، إلى حالة مدينيّة، لها أدبياتها وأولوّياتها وسلوكياتها، منذ مطالع خمسينيات القرن الماضي نحو ستينياته، بزيادة الإقبال على دور العرض السينمائية. إقبالٌ بدأ يأخذ، في حالات بعينها، شكلًا عائليًا في كثير من سينَمات المدينة وقلبِها، مثل سينما الخيام في جبل اللويبدة، وسينما زهران في شارع السلط على تخوم وسط المدينة، وسينما أمير في جبل الهاشمي الشمالي، وكذلك سينما الرينبو في شارع الرينبو قريبًا من دوار جبل عمّان الأول.
بَكَرَةُ الأفلام تدور، وصناعة السينما تزدهر، والعالم كلّه تحوّل، تقريبًا، إلى شاشة فضيّةٍ عِملاقة، تصدّر أبطالها، وتشعل التنافس بين صنّاعها، وتفرض خصوصيّتها، وتعمّم عالمَها، وأحلامَها، وشجنَها.
هذا ما أصبح عمّانيًّا شعلةً لا تخبو مع نهايات ستينيات القرن الماضي ومطالع سبعينياته، وفي تلك المطالع ما أزال أذكر كيف كنّا نذهب إلى سينما زهران، على سبيل المثال، أنا وباقي أشقائي وشقيقاتي، بوصف ذلك فعلًا اجتماعيًا لا يخجل الناس منه، ولا يخصُّ أبناء الطبقة المخملية دون غيرهم، بل يمتدُّ ليشملَ أبناء الطبقة الوسطى بمختلف درجاتها، وصولًا لِلمنتمين إلى ذيل تلك الطبقة الجامعة.
لقد تكوّن ما بدأ يُعرف بمصطلح العمّانيين، والعمّانيون هم خليطٌ عجيبٌ من سكّان المحافظات المهاجرين من الريف والبوادي إلى المدينة، ومن الفلسطينيين، سواء الذين استقروا في عمّان بعد النكبة، أو الذين جاءوا قبلها لأسباب كثيرة ليس هنا مكان التفصيل فيها. إضافةً لبعض السوريين الذين استقروا في العاصمة، وخصوصًا قرب سيْلِها، مطالع القرن العشرين، حتى إنّ بعضهم استقر في عمّان والبلقاء قبل تأسيس الدولة. وفي تلك الخلطة مكوّنات أُخرى يمنيةٌ وعراقيةٌ وبخاريةٌ وقفقاسيةٌ وقوقازيّة (الشركس والشيشان) الذين وصل بعضهم إلى عمّان وسيْلها وحول قلعتها في عام 1885، ويُقال إنَّ بعضهم وصل قبل ذلك (بعض المصادر تشير إلى العام 1878، وبعضها، يشير، حتّى، إلى ما قبل ذلك). هؤلاء العمّانيون صار لهم ثقافتهم، ولهجتهم البيضاء الجامعة، وعاداتهم، وتقاطعاتهم، التي لا يشبه كثير منها ما يجري في باقي المحافظات. الذهاب إلى السينما في هذا السياق، شكّل، بامتياز، عادةً عمّانيةً تستوعب في رحاها معظم الطيف السكّانيّ العمّانيّ من مختلف الأصولِ والمّنابت والطّبقات.
تراجعٌ..
ما إن دخل العالم، والأردن ليس استثناءً، أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وصولًا إلى أواخره، حتى بدأ تراجع العصر الذهبي للسينما يطلُّ برأسِهِ بشكلٍ مُتدرّجٍ مُتدحرِج. تراجعٌ أسهم فيه عالميًّا ظهور جهاز الفيديو المستقبِل لأشرطةِ الـ(الفي أتش أس) VHS و(البيتاماكس) Betamax، وبداية انتشار الصحون اللاقطة التي زادت من قيمة التلفاز، ومن تنوّع معروضاتِه.
محليًّا ظلّت دور العرض صامدةً، بشكلٍ، أو بآخر، حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، ومطالع الألفية الثالثة، حيث سرعة انتشار الشرائط السينمائية، لم تكن تماثل سرعتها في دول متقدمة، أو دول استهلاكية حولنا (دول الخليج العربي على سبيل المثال). وحيث التراجع الأردنيّ العمّانيّ لم يرتبط (منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي) بموضوع جهاز الفيديو حصرًا، فقد لعبت عوامل أخرى؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية وقيمية، أدوارًا حاسمة بأول علامات أفول دور العرض السينمائية في الأردن على وجه العموم، والعاصمة على وجه الخصوص. ومن تلك العوامل: ازدياد تأثّر الأردنيين بالتيارات الدينية المتشدّدة، مع انتشار ظاهرة عدم الاختلاط، وشيوع ظواهر التحريم والتنفير، وما إلى ذلك من مختلف مظاهر التشدّد البعيد كل البعد عن روح الإسلام، حتى بات الواحد لا يكاد يلتقط أنفاسه بين التحريم والآخر، مع خلط مؤسف بين التحريم والتجريم، ومع تنطّح غير المؤهلين لِلفتاوى. حتمًا، مع كل هذا وذاك، شكّلت دور العرض السينمائي أوّل الضحايا وأكثرها تضرّرًا، فآخر هم الناس، في تلك الأيام، الذهاب إلى حضور فيلم في صالة سينما، فما بالك بالذهاب الأسريّ الجماعيّ!
ومن أسبابه الاقتصادية، ما حدث في العام 1989، من تراجع الدولة عن دعم كثيرٍ من المواد الأساسية، وارتفاع الأسعار المرتبط مع أزمةٍ اقتصاديةٍ نفطيّةٍ خليجيّة. سياسيًا شهدت ثمانينيات القرن الماضي أحداثًا سياسية كبرى مثل اجتياح بيروت واحتلالها في العام 1982، من الجيش الإسرائيلي، وكذلك انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987.
في تلك الفترة لم تحظَ بِمُشْترٍ للتذاكر سوى دور العرض العمّانية التي كانت تقدم وجبةً إباحيةً تخْلو من سياقٍ دراميّ (تجميع مشاهد من عدة أفلام)، علمًا أنَّ من كان يُتاح له مشاهدة شرائط الفيديو بنوْعيْها، كان يستغني من فوره عن الذهاب لدور العرض إيّاها، فتلك الشرائط كانت أكثر سخاءً عندما يتعلق الأمر بِحجمِ الإباحية في المشاهد المُثيرة. وعليه، كان من يتسنى له الحصول على جهاز العرض، يصبح مهوى أفئدة الشباب، يتوافدون إلى المكان الذي استقروا عليه لحضور المشاهد الكاملة، ومن العادي، جدًّا، أيامها، أن يتفاجأ صاحب المكان بشبابٍ لا يعرفهم، جاءوا للمُشاهدةِ فقط!
اضمحلالٌ..
القرن الواحد والعشرين، ومنذ سنواته الأولى، تمظهرَ بوصفِهِ قرن اضمحلال دور العرض السينمائيّ أردنيًّا، واندثارها، وسقوط آخر أوراقها.
هذا ما حدث مع معظم دور عرض قاع المدينة (صمدت سينما ريفولي على سبيل المثال للأسباب التي ذكرناها أعلاه، ولكنّ صمودها لم يدم طويلًا)، وهذا ما حدث مع دور عرض المحافظات التي كان فيها مثل تلك الدُّور.
مع الألفية الثالثة أسهمت عوامل جديدة بمزيدٍ من تراجع مشاهدة الفيلم السينمائي في دور عرضه، والأمكنة التي ظلّت لزهاء قرن، مرتبطة، حصريًا به، من تلك العوامل ظهور الأقراص المضغوطة والمدمّجة والرقميّة (سي دي CD ودي في ديDVD )، ومنصّات العرض المنزلي، وظهور قنوات تلفزيونية فضائية متخصّصة بالأفلام، وبعضها متخصّصٌ بآخر الأفلام وأحدثها.
اندثارٌ تزامنَ مع ظاهرة دور العرض المرتبطة بمولات ومجمعات تجارية عديدة؛ وهي دور عرض (فخمة)، بأسعار تذاكر مرتفعة نسبيًا.
دون تلويحة وداع..
هكذا سار الأمر.. حلّ الغبار مكان الأنفاسِ المبهورةِ بالسينما، الشاهقةِ دهشةَ أفلامِها، النائمة ومعها من المشاهد شَحنة، ومن عبير الشاشة بعضَ ما يُشعل الليل، ويُضيء النجوم.
وبسبب خصوصية محليّة لها علاقة بالذاكرة السمكيّة قصيرة المَدى، فإنَّ اندثار دور العرض السينمائيّة في الأردن جاء، في كثير من الحالات، سريعًا ومروّعًا، كما لو أنَّ تلك الدور كانت أثرًا بعد عين، حالها حال مقاهٍ هُدّمت (مقهى العاصمة ومقهى الجامعة العربية على سبيليّ المثال)، ومراكز ثِقلٍ تسوقيٍّ قُضي عليها (كان وسط البلد هو مركز الثِقل التسوقيّ، ثم انتقل فجأة إلى جبل الحسين، ثم فجأة إلى الصويفية، ثم فجأة عاد بعضه إلى وسط البلد، دون عناوين واضحة ولا ضوابِط موْثوقة)، وبيوتٍ قديمةٍ لم يُحافظ عليها، وذاكرةٍ قابلةٍ، دائمًا، للنّسيان.
كلُّ ما تبقّى بعض نوستالْجيا، يتجرّعها، على مهلهِم، أولئك المُولَعين بِحقائبِ الحَنين، وذكريات الزّمن الدَّفين.