حسن أبو شعيرة
مخرج وممثل أردني
منذ أن تفتحت عيناي على أحرف الكتابة الموزّعة على نصوص الأدب في كتب ودوريات محفوظة في خزانة الأسرة، جاء صوتُ المذياع في البيت وما يبثّه من برامج وأغنيات ومسلسلات دراميّة، ليثري ذائقتي بالشغف كأيّ هاوٍ محبٍّ للفنون، بعوالم جديدة من الرؤى والأفكار التي تواصلت معي خلال سنوات الدراسة، لأن اتّجه صوب حقل الفن والدراما، حيث كنتُ معروفًا لدى زملائي وأساتذتي بأنَّي أجيد تقليد الفنانين المشاهير وبعض حركات أساتذتي المتميزين، ومن هذه البدايات قادتني خطاي أن أختار حياتي المهنية العملية كممثل شبه محترف في ثلاثة أفلام سينمائية أردنية أُنجزت ما بين العامين 1970 – 1971 وهي على التوالي: "البرتقال الحزين" تحت إدارة المخرج أحمد اللبابيدي، "الطالب الجامعي" إلى جوار المخرج جلال طعمة، وفيلم "الشحاذ" مع المخرج محمد عزيزية، هذا الى جانب تأدية العديد من الأدوار الرئيسة؛ سواءً على خشبة المسرح أو في المسلسلات الدراميّة الإذاعيّة.
بيد أنَّ أول فرصة حقيقية احترافية أُتيحت لي كممثل كانت في المسلسل التلفزيوني الشهير "دليلة والزيبق" العام 1976 بجانب النجمة العربية منى واصف، مع المخرج السوري شكيب غنام. ثم توالت بعد ذلك مشاركاتي كممثل بأدوار بطولة مطلقة في عدد من الأعمال الدرامية من بينها: "السيف الذهبي"، "قمر البر والبحر"، "جدار الشوك"، "الظاهر بيبرس"، "وامعتصماه"، "خالد بن الوليد"، "رجم الغريب"، "بير الطي"، "المبروكة".. وغيرها كثير..
ثم جاءت رحلتي الاحترافية كمخرج عندما أنجزت المسلسل الأردني المعنون "أنا ودموعي" العام 1976، والذي أعقبه مجموعة من اشتغالاتي كمخرج في العديد من المسلسلات التلفزيونية التي كانت تُصوّر في العديد من البلدان، والتي تنقلت فيها بين الأردن والخليج واليونان ومصر وبريطانيا، والتي تعدت الخمسين مسلسلًا دراميًّا منها:" الوحل"، "السياط"، "وتعود القدس"، "عمان في التاريخ"، "الكفن"، "التائه"، "التجربة"، "أبناء الضياع"، "كنز الحياة"، "رمال لا تموت"، "أيام الرماد"، "بنت الشمار"، "الغرباء"، "الذئاب"، "اللغز"، "ومرت الأيام"، "عيون عليا"، "أخوة الدم"، و"شارع طلال"، بالإضافة إلى ما يقرب من عشرة أعمال درامية موجّهة للأطفال كان أبرزها: "مدينة الأطفال"، "كليلة ودمنة"، و"المناهل".
أنجزت تلك الأعمال التي أصبحت في أغلبيتها عالقةً في ذاكرة كثير من الأجيال، بشغفٍ حقيقيّ على الصورة والكلمة رغم الإمكانات البسيطة الدارجة في تلك الحقبة بعكس ما هو سائدٌ اليوم من تقدمٍ تكنلوجيّ مبتكر في المعدات التقنية الحديثة، التي من شأنها أن تعجّل وتقلص فترات التصوير والمونتاج؛ ولأنَّني دائمًا شخصٌ متفائلٌ وعمليّ وواقعيّ أخلصت لهذا الحقل الإبداعي رغم عدم توفر الإمكانات المالية والتي إن وجدت كانت محدودة في زمننا أيام الريادة الأولى للدراما الأردنية، إلا إنَّ روح الفريق الواحد التي جمعت بيني وطاقم العمل كانت ركيزةً أساسيّةً في نجاح تلك الأعمال ووصولها إلى المتلقي الذي استقبلها عبر أكثر من محطة باهتمام وحب ومتعة، فقد كنّا نعمل أسرةً واحدةً متحابة، وكنا نتنافس كفنانين وصناع دراما بشرف الفرسان، حين كنا نضع مصلحة الدراما الأردنية هي الأولى عند كلِّ واحدٍ منا، وكانت هناك طقوس وعادات وتقاليد وأصول وأعراف مهنية يحترمها الجميع بلا استثناء، مثلما كان هناك عشق ووفاء حقيقيان لدى كل فنان، وكنا نتعامل مع مهنتنا بأنَّنا هواة نسعى إلى المزيد من المعرفة والتطوّر والإبهار والتميّز، وكان المُنتجُ يحرص كثيرًا على تقديم كل ما هو مفيدٌ وممتعٌ لعين المشاهد ولم تكن غايته تحقيق الربح المادي فقط، ونال المخرج آنذاك موقعه الحقيقي بوصفه القائد الحقيقي للعمل، ولم يحدث أن تدخل في توجيهاته المهنية أحدٌ من الجهات الإنتاجيّة أو خضع لطغيان الظاهرة النجوميّة في محاولة لتقليص دوره كمخرج؛ لأنَّه أخذ على عاتقه أنَّه المسؤول الأساسي والأول عن نجاح العمل أو عدم نجاحه، وكنت ترى المخرج قادرًا على تطويع محتوى نصِّ المسلسل الدرامي حسب رؤيته، وهو وحده من يتحمل مسؤولية النجاح أو الفشل أمام المشاهد، فقد كنّا نحرص دومًا على أن يمتلك هذا المحتوى كلَّ مفردات النجاح من هدفٍ نبيل وتشويق وإثارة وتميّز وافتتان بعناصر اللغة الدراميّة والجماليّة، إلى جانب إدارة المخرج المحكمة لأدوار التمثيل في العمل مهما صغر أو علا شأنها في تسلسل الأحداث، بهذا كله كنّا الأوائل على خارطة الإنتاج الدرامي العربي لمدة عشرين عامًا تقريبًا، وحتى نعود إلى ريادتنا وتميّزنا ونكون كما كنا الحصان الأول في مضمار سباق الدراما محليًّا وعربيًّا، لا بدَّ من القول بأنَّه بين الحلم والواقع مسافاتٌ طويلة وطريقٌ وعر محفوف بالصعوبات والمخاطر، ويبقى أمر هذه المسافات في قصرها وطولها وصعوبتها وسهولتها، مرهونًا بقدرات وإمكانات الأشخاص الذين حملوا أو سيحملون مشاعل النور للمرحلة القادمة. والمهم الآن أنَّنا نحتاج لزادٍ جديد ليستمر المشوار نحو الخطوة الثانية، نحو مستقبل مفعم بالألق للدراما الأردنيّة، نشخّص فيه واقعنا بصدق وبمعايير علمية وموضوعية، لكن يتوجب علينا أن نوفق في وضع العلاج الناجع الذي ينبغي أن يستند عليه مستقبل الدراما الأردنية، ونحقّق الحلم الجميل الذي يسعى إليه كلُّ النبلاء المخلصين..
دومًا كنت أرى في الدراما العديد من المعاني والدلالات الثقافيّة والتاريخيّة الشديدة الصلة بالواقع المعاصر، على نحو يتوازى مع البراعة الاحترافية للمخرج الركن الأساس في العمل الدرامي الذي يستطيع بثقافته وفكره المستنير أن يحقّق التميّز؛ لأنَّه يمتلك ذائقة محملة بأدوات وعناصر تحتم عليه خلق حبكة العمل ومنحه هُوية خاصة مميزة، بحيث تعيد تشكيل إنتاج حقائق الحياة في أبعادها الواقعية في قراءة سمعية بصرية لتفاصيل حراك المجتمع وإعادة إنتاجه تاريخيًّا ومعرفيًّا وثقافيًّا، ضمن فضاءٍ ينهض على سعة الخيال والابتكار، مهما تنوّعت وتعدّدت معالجات النص ذاته لدى هذا المخرج أو ذاك.
طبعًا هذا كله، لا ينفي ممارسة النقّاد لدورهم في طرح أسئلتهم الجريئة تجاه العمل الدرامي؛ لأنَّي أراها عاملاً إضافيًا في تعزيز الدور الذي يقدمه العمل الدرامي بكونه أداة فن وتعبير وصناعة، فكما يعلم الجميع فإنَّ الاقتصادَ عصبُ الحياة لأيّ بلدٍ وشعب، والدراما أيضًا مشاريع اقتصادية تسهم في صناعة الإنسان ليكون عضوًا نافعًا لمجتمعه وأمته ووطنه ، مثلما تدفعنا إلى فهم معنى الحياة، وإذا أحببت أن تعرف شيئًا عن شعب ما، انظر إلى أعماله الدرامية المنتجة محليًّا، فهي تعكس لك كل شيء داخل هذا المجتمع سلبيًّا وإيجابيًّا، فالدراما لا تأتي إلى المجتمع كنوع من الترف والتسلية بقدر ما هي عامل حقيقي يسهم بشكلٍ فاعلٍ في التنمية الاجتماعية والتربوية والوطنية.
وحتى تؤدي الدراما دورها الفاعل في تنمية المجتمع، وتعزّز ذائقة أبنائه بأطياف من المعالجات والرؤى البليغة والعميقة، لا بدَّ من الإشارة لبعض الملاحظات والتوصيات التي أراها حاجةً ماسةً للأجيال الجديدة لنتلافى محطات انكسارها، ولننطلق في تصعيدها إلى آفاق أرحب، مثل اختيار المبدعين من الكتّاب والمخرجين، وإتاحة الفرص لهم لخوض غمار العمل الدرامي عوضًا عن تهميشهم وإبقائهم في دوائر الظلِّ والعزلة والغياب. خاصةً وأنَّ الحياة الثقافية والفنية الأردنية مليئة بمثل هذه الطاقات، طبعًا هذا كله لا يمنع من وضع خطة واضحة المعالم للدراما من بين أولئك الأفراد والجماعات والمؤسسات الإنتاجية في القطاعين الخاص والعام، التي ما زالت على قناعة برسالة العمل الدرامي ودوره.
وبالإمكان أيضًا، الإشارة إلى ضرورة تنويع أعمالنا الدرامية وعدم اقتصارها على لون واحد، فنحن أحوج ما نكون إلى تلك الدراما الآتية من بطون تاريخ بلدنا وأمتنا وتراثه وواقعه الغني الفريد بالقصص والحكايات، وهذا لا يتأتى إلا بالتعاون مع أهل الاختصاص من الدارسين والباحثين في دراسة توجّهات الرأي العام والذوق السائد في المجتمع، والعمل على تحفيز أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار في مشاريع الدراما الأردنية، والإفادة من تلك الطاقات الأدائية والتقنية الآتية من معاهد وكليات الفنون، وهذا لا يمنع من البحث عن الطاقات الموهوبة الجديدة ودعمها وتبنيها، والإفادة من كتّاب القصة والرواية الأردنيين، وعمل مسابقات لتحويل إبداعاتهم إلى أعمالٍ دراميّة تلفزيونيّة وسينمائيّة.