حامد بن محمد محضاوي
كاتب وناقد تونسي
ولد « بشارة الخوري » سنة [1885] في بيروت، لأسرةٍ متوسّطة الحال، وعاش طفولةً مرحة. في سنّ التعليم؛ دخل بدايةً إلى الكتّاب ليتعلّم أبجديات الكتابة والقراءة، وفي سنّ العاشرة دخل المدرسة الأرثوذكسيّة، قضّى فيها أربع سنين كطالب يدرس اللغة العربية والفرنسيّة. انتقل إثر ذلك إلى معهد الحكمة الذي أمضى فيه ثلاث سنوات وانتقل بعد ذلك إلى عدّة معاهد حتّى أنهى دراسته سنة [1905]. انطلق في غمار الحياة العمليّة وقد خاض تجربة صحفيّة مهمّة، عبر مآلاتٍ متعدّدة. حبّه للشعر كان تعبيرًا عن الذائقة الإنسانيّة والحسيّة وترجمةً لصدى الهوى والجمال في مسيرته، رحل سنة [1928] وبقيت أشعاره صدى للحبّ والحياة. كثيرٌ يعرفون أغنية "جفنه علّم الغزل" التي قام بتلحينها وأدائها الفنان "محمد عبد الوهاب" ولا يعلمون أنَّ القصيدة للشاعر بشارة الخوري. في هذه السطور نحاول سبر أغوار أشكال الجمال والغزل في أشعاره.
ما يُعرف عن بشارة الخوري أنَّه ذو نزوع فطري للحسن والجمال. بالرّغم من نضاله الصحفي وتبعات الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، حافظ على هذا الانسياب الفطري مع الحياة والمتع. يقول في سطوة الحُسن:
"قل لمن لام في الهوى
هكذا الحُسنُ قد أمر
إن عشقنا فعذرنا
أنّ في وجهنا نظر"
التقى في هذا الجانب مع شعراء الحب الحسيّين، كان خفيفَ القلب لا يلهمه لونٌ على لون. سعى إلى تنضيج شعره في هذا الإطار عبر تلوينه بإيقاعِ روحِ عصره وبيئته ومجتمعه؛ فأمدّه بجوٍّ حسيٍّ تجتمع فيه أطيافٌ متعدّدة: لقاءُ الحبيب، ألحانُ غناء، طبيعةٌ جميلة. أعطى كلّ ذلك لغزله روحًا غنائيّة وصبغة احتفائيّة:
"ونشدنا ولم نزل
حلم الحب والشباب
حلم الزهر والندى
حلم اللهو والشراب".
بهذا الطرح احتفى بشارة الخوري بالجمال وسار فيه حرفةً طوال حياته:
"وأنا الذي غذّى الجمال بشعره
وحنا عليه سافرًا وملثّما".
ما يميّز أشكال الغزل عند بشارة الخوري هو التنوّع بين الظاهر والباطن؛ وهو ما خلق تلوّنًا بين تجاربه الشعوريّة وبين أطياف الحياة والتجارب. عاش الخوري في شبابه تجربةَ حبٍّ فاشلة، أثّرت في كيانه؛ وقد عانى هذه التجربة بعاطفة تلتهب بانفعالات صاخبة وخيال رومانسي. عبّر عن ذلك بمضامين لا تختلف عن الغزل القديم:
"أيّها الغائب الذي في فؤادي
حاضر، كيف حال قلبك بعدي؟
أين عيناك تنظران؛ وكفي
فوق قلبي، ودمعتي فوق خدي؟
هائمًا في الظلام يلذع حر الوجد
قلبي، ويلذع البرد جلدي"
يخيب الحب، ويمضي مع الماضي، ويقفز الواقع، فيستعيده إليه ذكريات جميلة يعلّل نفسه بها ويشغل حاضره:
"عمرك اللّه هل عرفت فؤادًا
كفؤادي عليه جار ذووه؟
ليتهم يذكرون ليلة كنّا
والهوى نحن أمّه وأبوه
وعيون النجوم ترنو إلينا
ولسان الدجى يكاد يفوه".
اشتغل بشارة الخوري على قصائد باللغة الفرنسيّة، وألبسها جملة الحالات التي كانت تمرّ به، من الوحدة والتنكّر والجفاء والشوق. قام بترجمة القصائد متصرّفًا في معانيها بعض الشيء، مدخلاً عليها إيقاع نفسه، لولا إشارته أنّها مقتبسة لاعتقد القارئ أنَّها له، يقول في إحداها واصفًا روحه المفعمة بالحب:
"أنا لو كنتُ يا سليمى نسيمًا
لقطعتُ الربا وجبتُ السهولا
وحملتُ الهوى إليكِ جريحًا
وتراميتُ في يديكِ عليلا
غير أنَّي _ كما علمتِ _ ضعيفٌ
حمّلته الأيام عبئًا ثقيلا
إنّ ما يقدر النسيمُ عليه
بات صعبًا عليَّ بل مستحيلا".
وفي قصيدةٍ أخرى مقتبسة صوّر الوحدة بأسلوبٍ رومانسيّ، حيث قام بتفصيل شكلها خلال التعبير على حالته الشعوريّة، يبدؤها بتصوير هدوء الطبيعة في الليل الساكن، وهو ساهرٌ حزينٌ:
"أنا ساهرٌ والكون نام
وكلُّ ما في الكونِ نام
نام الجميعُ ومقلتي
يقظى تجولُ مع الظلام
حتى نجوم الأفق نامت
فوق طيّات الغمام".
وينتهي من تصوير العالم الخارجي الهادئ إلى ذاته الخاصّة التي تحركها أحزانُ الحب:
"في ذلك الصمتِ الرهيبِ
وذلك الليلِ الجهام
ما كان يخفق غير قلب
كاد يتلفه السقام
ما أعظم الضوضاء
يُحدثها فؤادُ المستهام
إذ راح يخفق وحده
خفقان أجنحة الحمام".
تُعدُّ هذه القصائد جزءًا من تجربة حبّه الأول لأنّه اقتبسها وعرّبها من خلال المشاعر التي يحسّها في تلك المرحلة، فكانت روحه تسري في معانيها.
كانت بعضُ المناسبات السياسيّة والاجتماعيّة فرصةً للشاعر يقوم خلالها بإنتاج شعرٍ قصصيٍّ أبطاله فتيات بائسات… كان يستهل هذه القصص بغزل يصوّر فيه جمال الفتاة بطلة القصة. يصبغ النص بألوان تجربته وعبر وسائل الشعراء القدامى المعبّرة عن الجمال تعبيرًا حسيًّا. من ذلك، أوحى إليه إعلان الدستور العثماني بقصيدة جعلها في قالب قصصي، تحت عنوان: «ليلى بعد مقتل أبيها» استهلّها متغزّلا بجمال الفتاة كأنَّه يتغزّل بحبيبته:
"عشتَ فالعب بشعرها يا نسيمُ
واضحكي في خدودها يا نجومُ
من ملاك في بردتيها مقيم
جسدٌ طاهرٌ وروحٌ كريمُ
شعرها قطعة من الليل والخد
قبّلته شمس الضحى فتورّد".
في قصيدةٍ أخرى يصوّر مأساة فتاةٍ أطاحت المجاعة بوالديها تاركين لها أخًا صغيرًا خلال الحرب، فغدر بها متصرّف جبل لبنان مستغلّا بؤسها وفقرها، يبدأ القصيدة بتصوير حسي لجمال الفتاة كأنّه يتغزّل بها:
"المها أهدت إليها المقلتين
والظبا أهدت إليها العنقا
فهما في الحسن أسنى حليتين
للعذارى جلّ من قد خلقا
ودرى الروض بتين المنحتين
وقديمًا يعشق الروض الحسان
فكسا بالورد منها الوجنتين
وكسا مبسمها بالأقحوان".
وكان الشاعرُ يسعى عبر التصوير الغزليّ إلى كشف تناقضات الحياة بأسلوبٍ شاعريٍّ، يجعل هذا الجمال يقارع الفساد الاجتماعي ويحتجّ عليه احتجاجًا عاطفيًّا.
مع مرور الزمن وتوديع الشاعر لشبابه بقيت روحه عاشقةً ومحبّةً للجمال. كان مقبلاً على الحياة ولا يفلت فرصةً للهو والفرح. كان يلاحق سمات الحسن في كلّ شيء معبّرًا عنها بتمائم حسيّة وأسلوبيّة مائزة، يقول تغزّلاً بإحدى الحسناوات:
"الصبا والجمال ملك يديكِ
أيّ تاج أعزّ من تاجيكِ؟!
نصب الحسن عرشه فسألنا
من تراها له؟! فدلّ عليكِ
قتل الوردُ نفسه حسدًا منك
وألقى دماه في وجنتيكِ".
خلال موقفٍ آخر؛ وبعد أن أخذ العمر من ملامحه الشيء الكثير أجرى مساءلةً للجمال الهارب منه في قصيدته" يا عاقد الحاجبين":
"ماذا يريبك منّي وما هممتُ بشين؟
أصفرةٌ في جبيني أم رعشةٌ في اليدين؟"
تأثّر غزل بشارة الخوري الذي لُقّب ب" الأخطل الصغير" ورؤيته للجمال؛ بحياته وما مرّ فيها من مؤثّرات نفسيّة وثقافيّة وفنيّة. فقد تلوّن بعواطفه التي كانت تصبو إلى الجمال في رحلة العمر، حبًّا وإعجابًا في فصول الشباب والنضج، ثمّ حسرة مرّة على الجمال وقد عجز عنه. تغيّرت طرقه التعبيريّة وتخلّت عن التقليد وصارت أكثر أصالةً ورونقًا، فأدخل الطبيعة إلى غزله بروح جديدة، بثّ فيها مشاعره فصارت تهفو إلى الجمال بكلِّ ألوانها وأشكالها وحركاتها، فرحة عاشقة له، نابضة بكلّ عواطفه.