سريعة سليم حديد.
كاتبة وباحثة سورية
على متن لغة العاطفة الرقيقة والأجواء الرومانسية ينقلنا الكاتب الياباني "هاروكي موراكامي" ضمن أحداث روايته "جنوب الحدود غرب الشمس" التي ترجمها الأستاذ "صلاح صلاح" إلى عالم مفعم بالجمال والعلاقات العاطفية المتشابكة.
لتكن البداية من الغلاف، فهو مقسومٌ إلى نصفين، النصف الأول عبارة عن نصف وجه لفتاة يابانية جميلة مبتسمة توحي نظرتها بالدفء والحب وسط انسدال شعرها الأسود الطويل. أمَّا النصفُ الآخرُ من الغلاف فقد احتلَّ العنوان مكاناً فيه مثيراً تساؤلات عدة: ماذا هناك خلف جنوب الحدود، وأيّ حدود يقصد المؤلِّف، وماذا يوجد غرب الشمس؟ لكن عندما يقرأ المتلقي الرواية يتفاجأ حقيقةً بأنَّ العنوان ما هو إلا بضع كلمات من أغنية كانت تتردد ضمن أحداث الرواية.
بُدأت الرواية دون إهداء أو مقدمات، راحت الأحداث تتوسَّع ببطء عارضة حياة طفلين وحيدين صديقين، عاشا معاً أحداثاً لطيفة في المدرسة الابتدائية، ومن ثم انتقل الصبي إلى الدراسة الثانوية في منطقة أخرى لكنَّه ظلَّ مواظباً لفترة طويلة على زيارة صديقته "شيماموتو" التي أحبّها وأحبّته كثيراً. فقد كانت تعاني من العرج، ولكن هذا لم يضعف من شخصيتها على العكس تماماً؛ فكلُّ من حولها كان يحسب لها ألف حساب حتى معلِّموها.
أجمل ما كان يميِّز تلك العلاقة الطفلية التي كشفت عن المعاناة التي يعيشها الطفلان وهما وحيدا أسرتيهما؛ تلك العفوية والبراءة في المعاملة، وهذا ما جعل علاقتهما تزداد قوّةً على الرغم من كل المنغصات التي مرَّا بها، نقتطف:
"على نقيض الأوقات التي كنت أقضيها مع الفتيات الأخريات كان بإمكاني الشعور بالراحة مع "شيماموتو". أحببتُ السير معها من المدرسة إلى البيت، كانت تعرج قليلاً أثناء سيرها؛ لذا كنا نستريح قليلاً على مقعد في منتصف الطريق، لكن ذلك لم يزعجني؛ بل على العكس، كان يسرني لأكسب مزيداً من الوقت معها." ص10
ينقل الكاتبُ المشاهدَ بطريقةٍ عفويةٍ بسيطة مسترسلاً في ذكر ما جرى مع الصبي دون أن يذكر اسمه، فهو راوي الأحداث وعليه تقع مسؤولية قيادتها، وهذا على ما يبدو سياسة الكاتب في السرد، فنجد الأسلوب ذاته في رواية له بعنوان "سبوتنيك الحبيبة" أيضاً.
منذ الصفحات الأولى يكتشف المتلقي سبب تسمية الرواية باسم "جنوب الحدود غرب الشمس" وذلك ضمن مقطع أحسن الكاتب فرد كلماته وأفكاره بطريقة رومانسية، تدخل المتلقي عالم الطفولة بكل براءته وعفويته: الطفلة "شيماموتو" تستمع إلى الموسيقى بصحبة صديقها الصغير، وراحت تنقِّل أناملها فوق ركبتيها، فوق المربعات المنقوشة على طرف تنورتها، بينما الصديق كان يراقبها بحب وإمعان نقتطف:
"كان ثمة شيء غريب في ذلك، كما لو أنَّ خيطاً خفيّاً ينبعث من رؤوس أناملها، ينسج فكرةً جديدةً تماماً للزمن. أغلقت عينيّ، لمحت في الظلمة دوَّامات أمامي، كانت دوَّامات لا تحصى، تولد أمامي وتختفي دون صوت في البعيد. كان "نات كنج كول" يغني "جنوب الحدود"، كانت الأغنية حول المكسيك، لكنَّني لم أعرف آنذاك. كان لكلمات "جنوب الحدود" وقع مغر. كنت مقتنعاً بأنَّ شيئاً ما رائعاً يكمن جنوب الحدود.." ص18
الصبي الذي كبر وأصبح في المرحلة الثانوية يتعلَّق بحب فتاة في المدرسة اسمها "أزومي" وقد راح يتبادل الحب معها على سطح المدرسة، وهو ما زال يقارنها ضمنياً بــ "شيماموتو".
يتابع الكاتبُ سرد الأحداث بطريقة عفوية، فظلَّ البطلُ محافظاً على حبّه لــ "شيماموتو"، وصورتها بقيت موطن مقارنة بينها وبين أية فتاة يتعرَّف إليها، هذا ما يؤكّد عمق العاطفة التي تنشأ منذ الصغر.
تبدأ وتيرة الأحداث بالتوهُّج منذ بداية معرفة الراوي بفتاة أخرى تعرج أيضاً، فقد ظنَّها "شيماموتو" تلك الفتاة الصغيرة التي انقطع عن التواصل معها منذ المرحلة الابتدائية. والآن هو متزوج وله ابنتان. راح يلاحق الفتاة دون أن يكلّمها، ولما نوى ذلك، شعر بيد رجل قوي تقبض على يده، ويعطيه "ظرفاً" فيه مبلغ من المال مقابل أن يبتعد عن الفتاة.
غالباً ما يهتمُّ الكاتب في إظهار شخصياته ضمن وصف الألبسة التي ترتديها، نقتطف من وصفه للباس "شيماموتو":
"كانت تضع مسحة من مساحيق التجميل، وترتدي ملابس فاخرة: ثوب حريري أزرق، مع سترة من الكشمير رمادية اللون، تبدو ناعمة كورق البصل، ووضعت على القاطع حقيبة يد تنسجم مع ثوبها تماماً.." ص93
الروايةُ عامرةٌ بذكر أسماء الأماكن والمدن اليابانية مثل مقاطعة "أشيكاوا" و"شيجوكو جوين" ومطار "هانيدا"، كذلك يواظب المؤلِّف على ذكر العديد من المقطوعات الموسيقية الرائجة في اليابان والمغنين أيضاً مثل لحن "كوركوفادو" و"نات كينج كول" و"بنيج كروسي" و"روسيني". إضافةً إلى ذكر بعض أنواع المشروبات التي تقدَّم في البارات مثل "عش روبن"، إضافةً إلى ذكر أسماء السجائر مثل "سيليم" و"البيس"، كذلك أنواع السيارات مثل "ساب" و"جاكورا" و"ألفاروميو" و"مرسيدس"..
من اللافت في الرواية أيضاً ذكر اسم الراوي البطل وذلك بعدما تقدَّمت الأحداث بشكل كبير، واسمه "هاجيمي".
انشغل "هاجيمي" بالفتاة "شيماموتو" حيث التقاها بعد إعلان في الجريدة عن البار الذي افتتحه، فتبيَّن له أنَّ الفتاة التي تبعها ذات يوم هي "شيماموتو" حقيقة. فيعودان إلى الحب من جديد على الرغم من أنَّه كان يحبُّ زوجته وطفلتيه؛ إلا أنَّه لم يستطع التخلي عن حبه القديم.
تسير الأحداث بلطف وعفوية دون تكلف أو ملل، حيث يكتشف "هاجيمي" أنَّ الرماد الذي نثرته "شيماموتو" في النهر أثناء الرحلة التي ذهبا فيها معاً ذات يوم بارد هو رماد جثَّة طفلتها؛ علماً أنَّها لم تعترف له بشيء عن زواجها السابق على الإطلاق. أثناءها أُصيبت بحالة كادت تودي بحياتها لولا إعطاؤها الدواء في الوقت المناسب. لقد كان الغموض يلف "شيماموتو" مما جعل "هاجيمي" يعيش حياة توتر وقلق.
تندفع الأحداثُ مدعمة سبب تسمية الرواية بــ "جنوب الحدود غرب الشمس" حيث يدعو "هاجيمي" حبيبته "شيماموتو" إلى كوخه في "هاكوني" ويجلس قربها على الكنبة، وكانت قد قدَّمت له هديةً وهي عبارة عن إسطوانة لأغنية "نات كينج كول" جنوب الحدود، واستمعا إليها كما لو أنَّهما يستمعان لها عندما كانا في المرحلة الابتدائية.
يعتمد الكاتبُ على إظهار عنصر الصراع الداخلي لدى بطل الرواية "هاجيمي" معتمداً على إثارة العواطف حول النساء اللواتي قابلهن في حياته، من "شيماتو" إلى "أزومي" إلى "يوكيكو" وغيرهن، ولكن الرابط القوي الذي كان يثير مشاعره هو علاقته برفيقة الطفولة "شيماموتو" بالدرجة الأولى. ولكن "يوكيكو" بدت هي الزوجة التي استطاع الاستمرار معها على الرغم من كل عواصف الحب التي عصفت به. وبالتالي الأحداث التي ساقها المؤلِّف استطاع أن يشكِّل منها روايةً محشوَّةً بالعديد من العلاقات المتشابكة التي تجعل المتلقي ينسجم معها لبساطتها أولاً، واختلاق المواقف المدهشة في كثير من الأحيان ثانياً؛ مما جعل الرواية تطفو على ساحة الذاكرة، وخاصةً في امتدادها فيما يتعلَّق بذكريات الطفولة.
في نهاية الرواية يهيم "هاجيمي" على وجهه في الطرقات بحثاً عن "شيماموتو" وقد تفاجأ حين رأى "أزومي" في العربة، لكنَّه لم يستطع اللحاق بها؛ هذه الحادثة جعلت عاطفته تضعف حيال "شيماموتو" ويعود إلى صوابه، وبالتالي إلى عائلته التي فكَّر حقيقةً في التخلي عنها كرامة لـ "شيماموتو".
اختتم المؤلِّف الرواية بطيف من التخيُّل ضمن جو من الرومانسية الموحية، نقتطف:
"رأيت داخل تلك العتمة المطر ينهمر على البحر، مطر يهطل بنعومة على بحر شاسع، دون أن يكون هناك من يراه. ضرب المطر سطح البحر، مع ذلك لم يدر السمك حتى بهطوله. إلى أن أتى شخصٌ، ووضع يده بخفَّة على كتفي، كانت أفكاري تدور حول البحر." ص283
الرواية بالمجمل عبارة عن تداعيات عواطف جرت لشاب سُردت بطريقة عفوية، وبأسلوبٍ سلسٍ بعيدٍ عن التعقيد حاول فيه المؤلف إبراز الجانب الرومانسي في كثير من زوايا الرواية بالاعتماد على الموسيقى والمناظر الطبيعية والاهتمام بحالات الحب التي كانت صريحة بعض الشيء.
لقد اعتمد المترجم "صلاح صلاح" أسلوب البساطة في الترجمة فجاءت العباراتُ بعيدةً عن التعقيد ومترابطة بشكل يجعل المتلقي يتابع القراءة بكل راحة ومتعة؛ هذا مما يعزّز فكرة الترجمة التي تجعل من الكتاب ينتقل من حالة إبداعية إلى أخرى، فالترجمة توفر للمتلقي فرصة للاطلاع على ما يكتب عالمياً، وهذا بحدِّ ذاته يُعتبر نقلةً نوعيّةً بالنسبة للمتلقي.
وُلد الكاتب الياباني هاروكي موراكامي في مدينة كيوتو عام 1949، لاقت أعماله نجاحاً باهراً حيث تصدرت قوائم أفضل الكتب مبيعاً على الصعيدين المحلي والعالمي، وتُرجمت أعماله إلى لغات عدة. وقد حصل "موراكامي" أيضاَ على بعض جوائز أدبية عالمية؛ منها: جائزة عالم الفنتازيا، وجائزة فرانك أوكونور العالمية للقصة القصيرة، وجائزة فرانز كافكا.
الرواية: "جنوب الحدود غرب الشمس". عدد الصفحات 283
الكاتب: هاروكي موراكامي.
ترجمة: صلاح صلاح.
دار النشر المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب.