عامر سلمان أبو محارب
أكاديمي وباحث أردني
1:0 تأسيسٌ أرشيفي:
تنطلق هذه الورقة من مقولة مؤداها أنَّ القصص التي تنطوي عليها مجموعة "مجرد صديقة" لصبحة علقم تمثّل أرشيفًا نابضًا بمفارقات الأنوثة وشعريّة التفاصيل وجدليات الهُوية الأنثويّة، على اعتبارها قصصًا تمركز أرشيف الأنثى بوصفه فضاءً نصيًّا.
وإذا كان أرشيف الإنسان إمبراطوريّة من العلامات التي أشار إليها "رولان بارت" فإنَّ أرشيف الكتابة الأنثوية، وكما يتبدّى في قصص هذه المجموعة، مرتبطٌ، والحال هذه، بعدد لا متناه من المفارقات والتفاصيل والمضيء والمعتم والمتوتّر، عبر بنية سردية قلقة، تهدف إلى تأسيس عالم مغاير أو بديل تحقّق الأنثى فيه حضورها الرمزيّ والمركزيّ والفاعل.
ولا ريب أنَّ هذه المجموعة تنمذج الأرشيف الأنثوي؛ بغية إعادة تفكيك الأنظمة الجدلية التي تربط الذكر والأنثى بوصفهما أقنومي الحياة في إطار ما يُسمّى بقراءة العالم" Reading the world"
وتبرز في هذه المجموعة ظواهر ترتبط بهذا الأرشيف ارتباطًا مركزيّا، أبرز مفارقات الأنوثة بصورها المتعددة، وذلك على اعتبار أنَّ تاريخ الإنسان عامةً وأرشيف الأنثى محتشدٌ بالمفارقات.
وإذا كان الأرشيفُ مرتبطًا بالحياة اليومية وتفاصيلها فإنّ القاصة تُعيد اكتشاف التفاصيل العادية واليوميّة التي تكوّن جزءًا مهمًا من حياة الأنثى، إذ تبرز في هذه المجموعة القصصيّة شعرية التفاصيل التي تضيء جانبًا معتمًا من حياة الأنثى وأرشيفها.
ولعلّه لا ندحة من القول إنَّ هذه المجموعة تسعى من خلال هذه القصص إلى إعادة تحبيك التاريخ الأنثويّ وتأثيت الهُوية الأنثوية، عبر الرد بالسرد كما في النظريات ما بعد الحداثية والنقد النسويّ، ولا يتأتى لها ذلك دون أن تمتلك الأنثى دفّة السرد؛ لصوغ أرشيفها من منظورها الخاص.
وإذا كانت المرأة/الأنثى تابعة في مختلف الثقافات الإنسانية كما تؤكد ذلك "غايتري سيبفاك" Gayatri Spivak فإنَّ السرد يمثّل قوّةً كما يقول "أمبرتو إيكو" Umberto Eco، ولذا فإنَّ السرد يمكن أن يمثّل فضاءً رحبًا يدوّن فيه المنتمون إلى الأقليات أرشيفًا مغايرًا ومختلفًا.
1:1 الأنثى وأرشيفُ المفارقة:
تكشف قصص هذه المجموعة عن تمركز فاعل لثيمة المفارقة، إذ تحاول الساردة عبر تقنية المفارقة ترسيم جانب من الجدليّات والإشكالات التي يمتلئ بها أرشيف الأنثى، خاصةً في أتون علاقتها الملتبسة مع الرجل، على اعتبار أنَّ تقنية المفارقة تستطيع تجسيد تلك الجدليات والإشكالات، إذ إنَّ المفارقة تتأسس، بوصفها صيغة بلاغية، على جماليات اللامتوقع والمدهش.
وفي هذه المجموعة تكشف المفارقة عن صورة من صور التضاد بين الأنثى والآخر/ الرجل أو الذكر، وذلك حين تُقدّم الأنثى في صورتين، أمَّا أولاهما ضحيّة للمفارقة التي يصنعها الرّجل، وأمَّا ثانيهما فصانعة للمفارقات التي يغدو الرجل ضحيةً لها.
ففي قصة "تجاعيد" تسعى الساردة إلى صناعة المفارقة عبر بنية اللامتوقع المتسجدة في ردها على كذب الرجل حين يقول لها: "ما زلت جميلة!" فيكون الرّدّ مدويًّا "وأنتَ ما زلتَ تكذب!"، إذ يصبح الرّجل ضحيّة المرأة الواعية، بدلًا من أن تكون المرأة/ الأنثى هي الضحيّة، ولا شكّ أنَّ الرّدّ من لدن الأنثى ينضوي على سخرية مضمرة، تؤكد وعي الأنثى، بمؤامرات الذكورة/ الرجل.
وفي قصة "واقع" تتجلّى المفارقة في صورة الأنثى الرائية، التي تكسرُ توقُّع الرجل والمتلقي في آنٍ معًا، وتبدو واعية بمصائده، ومصائر السير الأعمى خلف نداءات القلب والغرام، ذلك أنّ طلبها يمثل سببًا مقنعًا للغياب بناءً على ما سيكون، وذلك يكوّن صورة من صور المفارقة الحادة، وأداة للخلاص من الوقوع ضحية للفراق المحتمل.
هذا ما يرتبط بالأنثى صانعة لمفارقات الأرشيف الأنثويّ، بيد أن هذا الأرشيف، كما سبقت الإشارة، بدا مليئًا بالمُفارقات التي تغدو فيها الأنثى ضحية للمفارقة، ففي قصة "جدار" ينكسر أُفُق التّوقّع، وتغدو المرأة الثانية هدية ولكنَّها غير مرغوبة وغير متوقعة، يقدّمها الرجل مكافأة للمرأة الأولى، على إخلاصها ووفائها لها ولأسرتها، ولا شكَّ أنَّ المفارقة اللفظية تبرز في مفردة "هدية"، التي اختارتها الساردة للتأكيد على حدث المفارقة، إذ الأنثى تغدو وفقًا لذلك هامشًا مستباحًا في ضوء الممارسات الاجتماعية التي يمارسها الرجل تجاهها.
وفي قصة "ذبول" تغدو الأنثى ضحية مرة أخرى، إذ تتهاوى القيم الإنسانيّة، والتصورات الأخلاقيّة، وتنفجر المفارقة المؤلمة حيت تغدو الأنثى "مجرد صديقة" بعد عَقْدٍ من الوصال والهيام، تقول الساردة: "بعد عقد من الهيام والوصال فاجأها بقوله: أنتِ مجرد صديقة، بكت قليلاً وضحكت كثيرًا، ركنت إلى إحدى زوايا القلب ترتجف.. "، وتتعمق المفارقة في هذه القصة عبر حدثَي البُكاء والضّحك؛ ذلك أنّ الضحك هاهنا يعكس تمثيلات الصّدمة النفسيّة التي تمرُّ بها الأنثى، بل إنّ المفارقة تتخذ صورة حادة حين ضحكت الأنثى كثيرًا وبكت قليلاً.
ولا ريب أنَّ المفارقات الرومانسيّة التي تقع الأنثى ضحيتها ترتبط، بحال أو بأخرى، بمقولة عنف الأرشيف، إذ يمارس الذكر/ الرجل تجاه الأنثى عنفًا رمزيًّا، يكرّس به مقولة المركزي والهامشي.
1:2 الأنثى وأرشيف التّفاصيل:
تتبدى شعريّة التّفاصيل في الأرشيف الأنثويّ في هذه المجموعة من خلال قدرة السّاردة على تحويل الأشياء بوصفها تجليًّا من تجليات التفاصيل إلى عنصر مركزيّ في هذه القصص، ولا شكّ أنّ هذه الأشياء والتفاصيل المهمّة تكوِّن جزءًا مهمًا من أرشيف الأنثى، وتعكس حساسيتها إزاء مكونات الوجود، ورغبتها في سرد أرشيفها الخاصّ، غير عابئة بالأرشيف الذي كُتِب بأقلام الرجل.
وإذا كان الأرشيف يتكوّن في أصله من فسيفساء من التفاصيل اليومية؛ فإنَّ الساردة استطاعت استثمار التفاصيل التي تتشكّل، والحال هذه، من دقائق اليوميّ والمعيش لتسريد أرشيفها، إذ تصرُّ الساردة على استبطان تفاصيل الحياة، وخلق مناخ مُدهش من "مركّب التفاصيل".
وتتجلّى بلاغة التفاصيل بوصفها إحدى تمثيلات الأرشيف الأنثوي في هذه القصص من خلال قدرة الساردة على مركزة التفاصيل في إطار سرديّة قصيرة تستطلب الإيجاز، وهنا أقصد القصة القصيرة، بوصفها فنًا سرديًّا يُقام أوده على الإيجاز والتكثيف.
وعليه؛ فإنَّ "أوراق الترمس" في قصة "أوراق الترمس" والعطر في قصة "أرقام"، واللفحة في قصة "لفحة"، والتجاعيد التي تحيط بالعين في قصة "تجاعيد"، والصورة والباب والمجوهرات القديمة في قصة "رحيل" تضحى جزءًا مهمًا من أجزاء الأرشيف الأنثويّ.
ومن الأمثلة التي تبرز شعرية التفاصيل في قصص المجموعة التقاط الساردة لتفاصيل العين وما يحيط بها من التجاعيد في قصة "تجاعيد"، إذ تنمذج الساردة هذه التفاصيل/ التجاعيد لتوظفها بوصفها علامةً سيمائيّةً دالّةً على سيرورة الزمن وتحولاته السالبة، وطول زمن الفراق بين الحبيبين.
إنّ قصص هذه المجموعة أرشيف من تفاصيل أو نهر من التفاصيل، ذلك أنّ التفاصيل تمثل الفضاء الذي تتحقّق داخله أفعال الشخصيات وتنعكس على صفحته أهواؤها وجدلياتها ومشاعرها المضطربة، وعليه؛ فليس الحدث في معظم هذه القصص شيئًا آخر غير حضور هذه "التفاصيل" في النسيج السّرديّ والقصصي، وهكذا استطاعت الساردة، عبر تسريدها لتفاصيل الأشياء أو حكاية الأشياء والتفاصيل، من سرد جانب مختلف ومنسي ومسكوت عنه من أرشيفها.
1:3 الأنثى وأرشيفُ الهُوية الأنثويّة:
لا مريةَ في القولِ بدءًا إنَّ قصص هذه المجوعة، بوصفها سردًا نسويًّا، تسعى إلى التّأسيس لهُويّة جندرية أنثوية خاصةٍ ومتفردةٍ تنمازُ بها الأُنثى، بصورة تعكسُ نظرتها الخاصة للعالم والمجتمع من حولها وفقًا، لمنظورها الأنثويّ الخاصّ؛ وذلك لأنّه قد قرَّ أنَّ الأنثى في المخيال الجّمعيّ الاجتماعي العربيّ، والأجنبيّ كذلك، تابعٌ ورديفٌ، كما تعبّر عن ذلك "غاياتري سبيفاك" إحدى أبرز المنظّرات لدراسات التّابع Subaltern’s Studies في مقالتها الموسومة بـ هل يستطيعُ التَّابع أن يتكلَّم؟ Can the subaltern speak?).
ولا ريبَ أنَّ السّاردة تتغيَّا من وراء ذلك أنْ تستعيدَ سُلطة/قوّة التَّمثيل Power of Representation؛ لتُعبّر عن ذاتها، وكينونتها، وهُويتها، كما تشاءُ هي، لا كما تشاءُ السُّلطة الأبويّة، وذلك وفقًا لرؤيتها الجّندريّة الخاصّة والمنمازة للوجود من حولها؛ ذلك أنَّ بناء الذّات الجّندريّة وتشييدَ هُويتها وأرشيفها يقومُ على استعادة سُلطة التّمثيل.
ويمكن تلمّس أوّل مظاهر تشييد الهُوية الأنثويّة، وبذلك الأرشيف الأنثويّ، من خلال تأنيث السرد، إذ تتولى المرأة أو الأنثى من خلال صوت أنثوي سرد هذه القصص، ونقل أحداثها، بما يحقّق أنثوية السرد، فالهُوية تُصاغ باللغة وبها تتأسسُ الهُويّة الجّندريّة، ولعلّ النظر في هُويّة راوي قصص المجموعة يلحظ أنَّها مسرودة جميعًا تقريبًا من خلال هذا الصوت الأنثوي، أي الراوية الأنثى، بما يستدعي من الذاكرة الثقافية صوت شهرزاد في ألف ليلة وليلة.
وإذا كان نقّاد السّرد يشيرون إلى أنَّ الهوية الأنثوية تتخلق في العمل السرديّ من خلال الالتفات إلى ثيمة الأمومة أمًّا وزوجة، فيمكن الإشارة إلى أنّ عددًا من القصص احتفت بتمثيلات الأمومة من مثل قصة "شاورما"، وقصة "أحلام مؤجلة"، وبذلك تكشف هذه القصص المتمركزة حول الأم والأمومة جانبًا آخر من جوانب أرشيف الأنثى.
وتتحقق الهُوية الأنثوية من خلال فعل التّحديق The Gaze، أي (التّحديقُ في الذّكورة والرجل المثال)؛ إذ تبدو قصص المجموعة مشغولة بهاجس التسآل عن الرجل المثال، ذلك أنَّ تحقّقه مرتبط بالهُويّة الأنثوية، وهو ما يمكنُ تسميته بمديح الأبّ المثال، الغائب أو المغيّب، ولعلّ فعل التحديق يتجلّى في عددٍ من القصص التي تنضوي عليها قصص المجموعة من مثل قصة "منفضة"، وقصة "هجرة"، وقصة "دعوة غير متوقعة".
وهكذا عبّرت قصص المجموعة عن صور الهُوية الأنثويّة من خلال محاور متعاضدة، من قبيل تأنيث السّرد، والاحتفاء بالأمومة، وفعل التحديق، رغبةً في تشييد عنصر مركزيّ من عناصر الأرشيف الأنثويّ وتمثيلاته.
تركيب:
لقد كشفت القراءة الفاحصة في مجموعة "مجرد صديقة" عن ذاتٍ أنثوية مشغولة بالأرشيف الأنثويّ وتمثيلاته المختلفة. فالموضوعات الإشكالية والجدلية التي تضمنتها هذه المجموعة ترتبط، والحال هذه بالأرشيف الأنثوي، ولذلك أبدعت الكاتبة في إثارة جدليات وتصوّرات حول واقع الأنثى في عصرها، واستثمرت طاقة اللغة الفن القصصي ليكون منطلقًا للكشف والبوح.
إنَّ الأنثى، كما يبدو، تتخذ من المفارقة والهُوية والتفاصيل للكشف عن مكوِّنات أساسية تشكِّل أرشيفها، إذ تشكّل هذه الظواهر في هذه المجموعة صورةً للذات المصابة بحمى الأرشفة حفظًا للذات وتخليدًا لها كما يقول "ميشيل فوكو"، الفيلسوف الفرنسي، فظاهرة الأرشفة في هذه المجموعة لافتة وتنضوي على أبعادٍ موضوعية دالّة لا تنكشف إلاّ بفعل القراءة النقديّة