الدكتور ضياء خضيّر
أكاديمي وباحث عراقي
بين الغربة والارتباط الحميم بالوطن، وبين الموهبة والمعرفة النظريّة، وبين حرارة التجربة العملية والدراسة الأكاديمية المنظمة، يبدو الفنان العراقي "صبيح كلَش" في أعماله الفنية الأخيرة كما لو أنَّه قد عثر على نفسه من جديد. فبعيدًا عن مشاغل التدريس الجامعي والتوزع بين ضرورات العيش والتزامات الوظيفة، يطلُّ علينا الفنان هذه المرة بروحٍ أخرى لا تشغلها الهوامش وضرورات المهنة عن التركيز على جوهر التجربة الفنية في رسم اللوحة ألونًا مصفاة، وضبطًا للمقاييس والنسب، وقدرة على التعبير الذي ظلَّ يتراوح بين الواقعية الصميمة المشدودة إلى ما يحدث في الوطن العراقي الممتحن، وبين الرؤية الشعرية الموغلة في الحنين والأنين الذي نستشفه في بناء اللوحة وأعماقها اللونية والتعبيرية التي تحرّرت من البعد الواحد على الرغم من بقائها في إطار رؤية الفنان الملتزم بالتعبير عن قضايا وطنه وما يعانيه الإنسان فيه من امتهان وإهمال وعنت.
وصبيح كلش من الجيل الرابع أو الخامس من أجيال الرسامين العراقيين الذين توفرت لهم فرصة دراسة الفنون التشكيلية في المدارس الغربية بإيطاليا وفرنسا وبريطانيا منذ أكرم شكري (درس في استنانبول في الثلاثينات من القرن الماضي) وعطا صبري وحافظ الدروبي وجواد سليم وخالد الرحال وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد؛ وغيرهم من الفنانين العراقيين الكبار الذين نجحوا في اجتراح أساليب خاصة في الرسم تجمع بين العناصر المستوحاة من التراث العراقي القديم والوسيط (سومر وبابل وآشور والإسلامي بمدرسته البغدادية التي أرسى يحيى الواسطي أسسها الجمالية واللونية المتميزة)، والعراقي الحديث بتقنياته ومدارسه المحلية والغربية المختلفة. وصبيح كلش الذي بدأ دراسته لفن الرسم بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، وأنهاها ب"بوزات" باريس beaux-arts يمثّل حلقةً أخرى من حلقات هذه السلسلة المضيئة بإنجازاتها الفنية المتميّزة على الصعيد العربي والعالمي.
وانتماء صبيح كلش إلى جذوره الجنوبية العمارية - الميسانية الأولى، بما تحمله من عفوية وطيبة وبساطة ولغة شعبيّة حيّة مكتنزة بتقاليدها وبلاغتها الخاصة، وبمظاهرها الشخصية والاجتماعية الفارقة، لم يتطففْ ولم يختلف رغم بقاء صاحبه زمنًا طويلاً خارج وطنه وتعرضه لكثير من المؤثرات الفنية والفكرية. بل إنَّنا نرى، على العكس من ذلك، تعميقًا لهذا المنحى الخاص بالارتباط الوثيق في أعماله الأخيرة التي تحوّلت اللوحة فيها إلى معرض للألوان الهادئة والداكنة التي تميل إلى إبقاء خيوط الحزن العراقي بصيغته الجنوبية المعتّقة وتعبيراته العميقة وحسّه الحضاري القديم والجديد هي المهيمنة في مجمل النسيج السردي لهذه اللوحة.
وتراجع اللون الأزرق السماوي بمساحاته اللونية البسيطة الممتدة في فراغ اللوحة على النحو الذي كان يظلل بعض لوحات كلش بأبعادها الرومانسية المرافقة في مرحلة سابقة من حياته الفنية، يشير بحدّ ذاته إلى الحرص على توفير جماليات لونيّة بديلة غير خاضعة لعواطف فنية وجمالية مفردة أو منتمية لمدرسة فنية دون أخرى.
وحين يتحدث صبيح كلش في بعض لوحاته الأخيرة عن شفافية الألوان المائية وأسرار تعلمها وتقديمه دروسًا عملية مسجلة في كيفية استخدامها، فهو إنَّما يتحدث عن التصفية الداخلية للرؤية الفنية، ورهافة الإحساس وارتقاء بالوعي الفني الذي يصرّ على أن يرى انعكاساته اللونية معرّضة للضوء والهواء الطلق بكل تفاصيلها الجمالية المذهلة في رهافتها وفتنتها البصرية عبر الأعمال التي عبرت عنها لوحات معرضه الأخير في الإمارات، وتلك التي يعمل عليها حاليًا في مشغله العُماني الأخير. ووجود الفنان إلى جانب بعض لوحاته على طريقة الفرنسي "دييغو فيلاسكيز" في (الوصيفات) يحيلنا إلى هذا الوعي المزدوج بالذات لرؤية الموضوع المنجز أو الذي في طريقه إلى الإنجاز بالتوافق مع نظرة الفنان المحدّقة والكاشفة عن صورة العمل في بُعْديه المتوقف والمتحرك، المرئي وغير المرئي؛ هذه النظرة التي يمكن أن تحرّر المشهد الفني كلّه أمام المشاهد لتوقفه على عملية الإبداع وصاحبه المبدع كليهما في صورتهما ولحظتهما الزمنية المحددة. وما يعنينا هنا هو الإشارة إلى أنَّ رسم اللوحة بأبعادها الفنية والدلالية المختلفة يتم مرتبطًا بالوعي به. وحضور الفنان في لوحته حضورًا مباشرًا بهذا الشكل يشبه من بعض الوجوه حضور صوت الكاتب الشخصي في روايته فيما صار يسمى بالميتا رواية metafiction، وما يعنيه ذلك من تجاوز الحبكة التقليدية في الرواية أو المسرحية المحكمة الصنع في التغريب البريختي، بالطريقة نفسها التي يتم فيها تجاوز المنظور في اللوحة التقليدية، وتفكيك بنيتها الداخلية بحضور عناصر غريبة عنها، وما يتصل بذلك من وجود هاجس الشك وفقدان الأمن والخوف من ضياع العمل ووجود الرغبة في حضور الفنان باسمه ورسمه أحيانًا إلى جانب عمله الذي بدأ هو الآخر يتغيّر ويفقد وحدته وحبكته التقليدية.
إنَّها طريقة الفنان في قراءة نفسه وتأكيد ذاته في لوحاته وإبراز مدى ما يحمله من جمال وخير، على الرغم من حزنه والنقاط الكئيبة المعتمة التي عمّقتها في أعماله أحداثُ الواقع العراقي الجديد بعد الاحتلال، وإحساسه المتدرج بالعثور على هذه الذات ورصدها في ضوء جديد وملامسة شيء من وضوح الرؤية بعد رحلة البحث الطويلة عن أسلوب مناسب يحتوي الذات والموضوع كليهما، على وفق الاشتراطات الحديثة المعقدة للرسم الحديث. هذه الرحلة التي طوّف فيها الرسام في آفاق جغرافية ومحطات مكانية عديدة (بغداد، باريس، عمّان، ليبيا)، ومدارس فنية مختلفة قبل أن يلقي عصا ترحاله بسلطنة عُمان منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، وليتفرغ أخيرًا لنفسه وفنّه على نحو يفتح أمامه عهدًا جديدًا ومرحلة أخرى كإنسان وفنان يواصل العمل على ممارسة مهنته وإبداعه بأسلوب ورؤية جديدين، مدجّجًا بمخزونه المعرفي والتشكيلي الوافر.
لقد كان صبيح كلش في بداياته الأولى قادرًا على أن يستوحي الطبيعة العراقية (الجنوبية منها بشكل خاص)، ويرسم صورًا وبورتريهات لبعض وجوه سكانها، ويوحي بأوضاعهم البشرية الواقعية والمتخيلة، ولكن اللون وطريقة التكوين والرؤية الذاتية الجديدة المكملة هي العناصر التكوينية التي ترسم صورة الأهازيج والقصائد الحسينية وحزن الأغاني الجنوبية الممزوج بطين الأرض ورائحة نبات الهور، وحركة أسماكه، وأصوات طيوره المهاجرة وأشواك الحقول المتروكة بعد الهجرة الجماعية الاضطرارية القديمة والحديثة إلى بغداد وغير بغداد. وذلك هو التحدي المطروح على الرسام الواقعي الملتزم لتكون واقعيته بلا ضفاف، وليخرج من قيود المادة العينية المفردة لمعانقة حلم الأبعاد الجمالية والروحية في اللوحة على طريقته الخاصة.
هذه الطريقة التي صارت تمنح مساحات متزايدة لتداخل الألوان وصناعة التكوينات المعبرة من التي تبدو صورة الجسد الإنساني فيها مختلفة بعض الاختلاف وهي تشتبك مع كائنات وعناصر الوجود المحيط الأخرى في لحظات المعاناة واحتدام المشاعر والتغيرات المفصلية الفارقة بين الحياة والموت. وكأنَّ اللوحة منها معنية بتسجل لحظات الأحلام والرؤى الليلية بألوانها العميقة وأحاسيسها المختلطة في نوعٍ من التجريد المعبر. وهو ليس نوعًا من التجريد المعارض للواقع أو البديل عنه بقدر ما هو الواقع مأخوذًا ببعض عناصره الأرضية الخارجية، والروحية الداخلية، في آن معًا. وكما هو الأمر لدى بعض الفنانين التجريديين من الذين ظهروا في النصف الأول من القرن الماضي، تبدو بعض لوحات صبيح كلش الجديدة محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. وهو مع ذلك بعيد في صورته العامة عن التجريد المعروف لدى الفنانين الذين يستخدمون اللغة المرئية للشكل واللون للخروج من الواقع أو تصويره بطريقة حرفية حيث تأتي الأشياء لتنعكس في اللوحة كما في مرآة. فهو عند صبيح كلش التجريد الواقعي الذي يعكس الصورة وظلالها، الوجه وقفاه أو داخله غير المرئي.
ورؤية الواقع الملتبس في لوحاته بهذا الشكل لا تستثني عوالم الحدس والقوى الأرضية والماورائية غير المرئية التي تحاصر الإنسان العراقي والعربي هذه الأيام وهذه السنوات مثل كوابيس وأحلام محبوسة، أو قابلة للرؤية والحوار معها ضمن هذه الكتل اللونية المجسدة في اللوحة والداعية للفهم والتأويل من المشاهد بطرق مختلفة.
والهدف المقروء من قبل القارئ هو هذه الصورة المركبة التي تهزُّ عادات الفكر على هذه السطوح المرسومة التي تنطوي على هذا التدفق الغزير للكائنات الأرضية في وحدتها الأرضية وتلاحمها الوجودي المرتعش في لحظات التهديد والقلق الفردي والجماعي.
وثمة فرق بين لوحة تستعرض مهارات الفنان التقنية المجردة، وأخرى تكشف عن بطانتها الفكرية والروحية المرافقة، ولتكون تعبيرًا حيًّا عن واقعٍ فنيٍّ وإنسانيٍّ عميقٍ ومفعمٍ بالجماليات الشكلية المجردة التي تستمد طاقتها من قابلية تقنية متميزة ورؤية فكرية خاصة وانخطافات روحية تقربها أحيانًا من الرؤية الصوفية والتأملات الباطنية التي تنشد القيم الجمالية والأخلاقية المتسامية.
ولعلّ صورة التحدي التي تمثّلها أجساد بشرية مفردة جسدتها بعض أعمال الفنان في مرحلة زمنية سابقة بين 1990 و1992 تمثّل الأمل في إمكانية الشخصية العربية (العراقية والفلسطينية بشكل خاص) كسر القيود وأسوار الحصار والاحتلال المحيطة. وهي صورة ذات طابع ملحمي فردي، ولكنَّها بدأت تتراجع وتختفي لتحلَّ محلها صورة الذات الجماعية التي تعاني من الإحساس بالخيبة وفقدان الأمل بحياة أخرى حرة وكريمة.
وربما لا يكون صبيح كلش قد كشف عبرَ كل ذلك عن صورة هُويته الفنية الجديدة على نحو واضح وصريح، ولكن تجاربه الأخيرة تشير إلى محاولاته الجادة في تحديد المسار ورؤية آفاق أخرى في صناعة اللوحة الزيتية والمائية التي تبتعد عن الأساليب الأكاديمية التقليدية، وتمسك ضمن إطارها باللون والرائحة وصدى الأصوات الضائعة، وتوفير الإحساس بالمكان في تركيبه وتداخل عناصره، وبما يوحي به من إشارات ورموز متنوعة تظهر على نحو ما صورةَ الهُوية الفنية وذبذباتها اللونية الغائرة، والجمالية المنتشرة على سطح هذه اللوحة. وقد بيّن الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" في كتابه (الذات عينُها كآخر) الكيفية التي تعبّر فيها الهُوية الشخصية عن نفسها عبر ثنائية الطبع (caricature) والوفاء بالوعد (la parole tenue) في الحدود التي يجري الإقرار فيها بديمومة هذه الهُوية الشخصية وثباتها النسبي عبر الزمن. وهو ما نحاول هنا قراءة بعض ملامحه بطريقة مجملة في التغيرات الحادثة على سطح اللوحة في صورتها الجديدة الدالة بوصفها مزيجًا مركبًا من الطبع الشخصي الأول للفنان والإصرار على مواصلة التزامه بالوفاء بالوعد أمام نفسه قبل أي شيء آخر.
وعلى الرغم من القلق الدائم المرافق للعملية الإبداعيّة عند صبيح كلش وعند غيره من الفنانين، فإنَّ من شأن توفّر هذا الاقتران بين الطبع القائم على الفطرة والأصالة المقترنة بالتربية السليمة والتقاليد الاجتماعية التي تؤكد على هذا الوفاء بالوعد إزاء جمهور الفنان ومتابعي مشروعه الإبداعي، أن يُشعره بمزيد من الانسجام بين ما تصنعه يده الماهرة الصناع، وما يفكّر به داخل عقله وشعوره النفسي الداخلي وهو يقف أمام لوحته الجديدة التي تمثل خلقًا جديدًا وسيرةً فنيّةً وذاتيّةً قديمة وجديدة مستأنفة، في آن معًا.