مجدي دعيبس
روائي وباحث أردني
إذا كانت الروايةُ بنتَ بيئتها ومحيطها، وتطرح مشاكل وهواجس إنسان اليوم، فإنَّ أدوات العصر من شاشات ذكيّة و(واتس أب) ومنصّات تواصل اجتماعي وغيرها من تفاصيل يوميّة أولى بالطفو على سطح السرد؛ لتتداخل مع الحدث والحوار والوصف أيضًا. الرواية -كما أراها- كائنٌ هلاميٌّ، يتحرّك في الوسط الزماني والمكاني الذي يُراد لها أن تتحرك فيهما، فتأخذ من ملامحهما حتى تصبح جزءًا عضويًّا من المحيط، تمامًا كما تفعل الحرباء للدفاع عن نفسها ضد المفترسين. الرواية أيضًا تدافع عن نفسها لكن ضد عدو أخطر من مفترس جائع، وهو العقل البشري الذي يبحث عن هفوة صغيرة؛ ليطرح الرواية جانبًا بحجّة أنّها غير مقنعة. الرواية هي لعبة الإقناع. القارئ يدرك أنّها من الخيال أو مزيج من الخيال والواقع، لكن سقف توقعاته عال جدًّا؛ يريد خيالًا مبتكرًا على أن لا ينفصل عن الواقع المُعاش. يبدو أمرًا معقّدًا ومخاتلًا، لكن هذا ما يحدث بالفعل. في «أولاد عشائر»، نلمس هذه الأدوات بشكل واضح، من خلال اعترافات صقر الريحان، التي جاءت على شكل تسجيلات أو (فويس ماسيج) على (الواتس أب) والموجّهة إلى الصحفيّة نيفين ذوقان دوّاس.
وعلى صعيد آخر، فإنّ لعبة الإقناع مستمرة من خلال رسم الشخصيّات واستخدام مفردات عاميّة؛ حتى يدخل القارئ بسلاسة في أجواء الرواية، ويشعر أنّه يعرف هذه الشخصيّة من قبل؛ لأنّها تمثل نموذجًا من المجتمع الذي نعيش فيه. وعلى سبيل المثال شخصية الأم (شيخة) التي جاءت على مثال المرأة القوية المسيطرة محدودة الثقافة؛ ففي موضع ما نسمعها تدعو على من كان سيأخذ وظيفة ابنها: «الله يقلع عيونه الثنتين، هو كان بدو يرحمك لمن راح يسرق وظيفتك». وتقول أيضًا في السياق نفسه: «بدي أطلع عل العاصمة وأبزق بوجه أكبر شنب سرق حقك يا صقيري». وفي موضع آخر تخاطب زوجها المصاب بحروق شديدة ستودي بحياته بعد أيام قليلة: «أنت مثل القط المراوي بسبع أرواح، نام وبلا عياط مثل العيال». "أنا شخصيًّا أعرف شيخة جيّدًا على الرغم أنني لم ألتق بها في يوم ما".
أمَّا بالنسبة للمفردات والعبارات العاميّة، فكانت مثل المرآة التي تعكس صورة القارئ، فيرى نفسه يتحرّك في فضاء الرواية حتى يكاد يصطدم بإحدى الشخصيّات. وهنا تجدر الإشارة إلى أمر مهم وهو المبالغة في هذه المفردات، فيصبح هذا التوظيف على درجة من الابتذال والتّهريج. في «أولاد عشائر» كان الكاتب يمشي على خيط رفيع يفصل بين العفويّة الشّفّافة والقصديّة الفجّة. ومن هذه المفردات والعبارات التي توزّعت على مدار الرواية: «القاروط، قط مراوي، بدي ألعن قمل أبوك، الحكيم هويمل متعلم البيطرة بحمير النور، لا يقول أولاد العشائر اصقيّر ترباية مرة، صايع فايع هامل».
باتت لعبة الزمن من الملامح المهمّة في الأعمال الروائيّة الحديثة، فالخط الزمني المتسلسل الذي كان من أهم مميزات الأعمال الكلاسيكيّة أصبح في طريقه للاندثار، وما مجيء الفصل الثاني قبل الفصل الأول سوى تكريس لهذا الفعل المقصود من تشظية الزمن وتفتيته. ومن جهة أخرى، لم يتعدَ الحيّز الزمني الذي دارت فيه أحداث الرواية نهارًا ونصف ليل. لا أعرف ما يكون هذا في حساب الساعات، لكنّه زمن محدود ويذكّرني بأفلام سينمائيّة جرت في حيّز مكاني ضيّق مثل المصعد أو قاعة صغيرة يجلس فيها المحلّفون لاتّخاذ قرار الإدانة أو البراءة. لم يعتمد الروائي على إيقاع متصاعد، بل كان يكاشفنا بالمآلات في البدايات المبكّرة بشكل صادم على طريقة (فلاش فورورد)، ثم يعمل على التفاصيل اللاحقة التي تضيء الحدث من جوانبه المختلفة.
في «أولاد عشائر» برز ملمح غير شائع في فن الرواية، وربّما هو وافد من الدراما أو المسرح على أساس أنّ الرواية نظام معماري فضفاض لا يحكمه نموذج جامد أو نسق محدد، ويمكن أن يأخذ من حيل الفنون الأخرى. يتلخّص هذا الملمح بانقطاع السرد بشكل مفاجئ والتّوجّه إلى القرّاء: «ستستمعون إلى اعترافاتي كاملة في نهاية هذه الرواية. انتظروا!»(ص 21). «يعلم الله أنَّني حتى اللحظة لم أكذب، عندما أكذب ستشعرون بذلك دون أن أضطرّ لأن أقول أمام الجميع: صقر الزفيّت يكذب». «أعلم أن تراتب الأحداث قد يتعبكم، لكنني أفترض أنّ أغلبكم قد سمع بما جرى هذا اليوم من مصادر مختلفة»(ص 25). «أنا مثلكم أتوق لسماعها، تفاصيل ربما ستغيّر رأي كل واحد منا في قيمة الحياة والموت، لكن..»(ص 32).
في العادة يتوارى الروائي خلف الراوي حتى يتماهيان في شخص واحد وهو الراوي، لكن العمري في هذا العمل عفّ عن هذه اللعبة المملّة، وقرّر أن يكشف نفسه للقارئ بشفافية وجرأة من خلال الاستهلال الذي عبّر فيه عن رأيه ورؤيته للعمل. ظلّ يطلّ برأسه من بين السطور، وكأنّه يذكرنا في غير موضع بشخصيّته: «عزيزي القارئ! انتبه! أنا من يتحدّث هنا؛ أنا محمد حسن العمري من مواليد كفر كيفيا عام 1972 وخرّيج صيدلة من الجامعة الأردنيّة دفعة 1995، وأحلتُ نفسي على التقاعد المبكّر مؤخرًا حتى أتفرّغ للكتابة».
وقبل الختام؛ نقول عن هيكلة الرواية من حيث الشكل أو تقسيمها إلى أجزاء فقد جاءت على خمسة فصول. وعلى الرغم من سلاسة السرد وطراوته، فإنَّني أجد الفصول القصيرة والعناوين الجاذبة من دواعي شد خيوط الفضول والتواصل بين الرواية والقارئ؛ لزيادة جرعة التشويق والمحافظة على جذوة الحماسة لدى المتلقّي.
«أبناء عشائر» رواية في جدليّة العلاقة بين الدولة والعشيرة، ولا تتوانى عن توجيه النقد لكلتا المؤسستين، ونلمس هذا مبكرًا في الصفحات الأولى حيث جاء الإهداء لضحايا فاجعة البحر الميت، وكأنّ الكاتب يذكرنا مجدّدًا بالتقصير الذي كان سببًا في هذا الموت المجّاني. الرواية من إصدارات الآن ناشرون وموزّعون لعام 2023، وهي الرابعة في رصيد الكاتب الصيدلاني محمد حسن العمري بعد «وهن العظم مني» و«من زاوية أنثى»، و «إحدى عشرة دجاجة» وهي روايةٌ موجّهةٌ للفتيان.