التكنولوجيا وحماية مشروع الثقافة العلميّة

تقديم:
التكنولوجيا وحماية مشروع الثقافة العلميّة
د. عبدالله يوسف الزعبي
أكاديمي وباحث أردني
ذات يوم من بواقي عام 2019، أطلت الراحلة أم كلثوم على مسامع افتقدتها مع كلِّ أصيل في الموسيقى الشرقية الشجية؛ إذ تمكنت "دار أوبرا دبي" من أن تستحضر شخصية كوكب الشرق بعد غيابٍ -بعُد وطال- عبر تقنية "الهولوجرام". سبق ذلك بعامين وتزيد أن زارت "صوفيا" المملكة العربية السعودية التي منحتها جنسيتها، وما "صوفيا" سوى "روبوت" يشبه البشر في مظهره وسلوكه يستخدم الذكاء الاصطناعي ويتصل بالإنترنت على الدوام. تطبيق "شركة جوجل" المترجم "سيري" يتيح كذلك لمستخدميه التفاعل مع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والحاسوب الشخصي عبر أوامر صوتية للقيام بمجموعة مهام من مثل إجراء المكالمات وإرسال الرسائل وإعطاء معلومات حول الطقس والأخبار وتشغيل الموسيقى، والمزيد. تلك مجرد أمثلة من مجموعة ضخمة يطرحها العلم على الإنسان المعاصر تحمل في طياتها عاصفة هوجاء من التكنولوجيات الناشئة التي تتظافر معاً في لحظة تاريخية راهنة تنبيء بتحولات جذرية في وسائل الإنتاج ونسائج المجتمع ومنظومة الثوابت الأخلاقية والقيم الحضارية لشعوب الأرض كافة.
لقد أسهمت التكنولوجيا في تطوّر الثقافة الإنسانية على مرِّ القرون؛ إذ شهد العالم ثلاث مراحل أساسية للتغير الثقافي، إبتداءً من الثورة الزراعية ونشوء الحضارة التي توجت في ابتكار الكتابة، مروراً بولادة المطبعة في القرون الوسطى وحتى اختراع "الترانسيستور" في منتصف القرن العشرين وظهور الإنترنت في نهايته. انتشر نمط ثقافي مميز في كلِّ تلك المراحل التاريخية وتأثر بالأدوات التكنولوجية السائدة وأضفى عليها سمات بارزة وصفات معينة، في الوقت التي احتفظت فيه الحضارات والشعوب بخصوصيات بعينها خلقت تمايزاً واضحاً بين الثقافات ومنحت كل منها شخصية فريدة. تقف البشرية اليوم على شفا بزوغ شمس الثورة الصناعية الرابعة التي تحمل في طياتها بشائر التقدم ومحاذير التغيير في كل ما يمسُّ الإنسان وحياته؛ ما يفضي إلى مرحلة رابعة من التطور الثقافي يمكن تسميتها الثقافة 4.0، تتسم بالغموض في طبيعتها والخطورة في تداعياتها وتشي بزوال حواجز الخصوصية الثقافية كافة بين الشعوب، وربما توطيد هيمنة الغرب على المسرح الثقافي العالمي. تمثل تبعات الثورة الصناعية الرابعة تهديداً وجودياً للثقافة العربية الإسلامية كما توحي المؤشرات الأولية.
وصف عالم الفلك الأمريكي "كارل ساغان" ذات مرة المجتمع الحديث وعلاقته بالعلم وصفاً واقعياً دقيقاً حين قال: "إنَّنا نعيش في مجتمع يعتمد بشكل رائع على العلم والتكنولوجيا، حيث لا يكاد أحد يعرف أي شيء عن العلم والتكنولوجيا"، ذلك الاقتباس الذي يسلط الضوء على مفارقة المجتمع المعاصر، حيث الإنسان يعتمد كلياً على العلم والتكنولوجيا في مختلف جوانب الحياة، ومع ذلك؛ فإنَّ معظم الناس تفتقر إلى الفهم العميق لهذه الجوانب وهذه المجالات. يؤثر هذا الانقسام بين الاعتماد على العلم والمعرفة المحدودة به على تقدم المجتمع وتشكيل اتجاهات الرأي العام وعملية صنع القرار فيه، كما يحدّد مدى انفتاحه على الأمم والثقافات وقابليته لتقبل الآخر واستيعاب الجديد. يؤكد الاقتباس كذلك على أهمية تعزيز الثقافة العلمية في المجتمع، ففي عالم متزايد التعقيد يتشكل أساساً بالتقدم العلمي والنكنولوجي، فإنَّ الفهم الأساس للمبادئ العلمية يمكن الأفراد من اتخاذ خيارات مستنيرة، والمشاركة في التفكير النقدي، والإسهام بشكل هادف في المناقشات حول المواضيع الحيوية ذات الأهمية للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. إنَّه أمرٌ محزن حقاً أنَّ العلم يولد المعرفة بشكل أسرع بكثير من مقدرة المجتمع على اكتساب الحكمة، وبتعبير أجمل حسب الفرنسي "كلود برنارد"، مؤسس المدرسة التجريبيّة العلميّة: "الأدب هو أنا؛ العلم هو نحن".
يذهب "كلاوس شواب"، مؤسس منتدى الاقتصاد العالمي أبعد من ذلك؛ إذ يتوقع أن تؤثر الثورة الصناعية الرابعة؛ حاضنة تلك التكنولوجيات الناشئة، على الإنسان بصورة هائلة وعلى طريقة تفكيره وأنماط عيشه وعلاقاته مع نفسه والآخرين والمجتمع والدولة كذلك، وتؤدي بالنتيجة إلى تحولات عميقة في ثقافة الشعوب لم تشهدها من قبل، أو كما وصفها عالم المستقبليات الأمريكي "آلفن توفلر" في كتابه "الموجة الحضارية الثالثة" باعتبارها نقطة الفصل التاريخية التي ستأتي بسلسلة من الصراعات التي ستهز العالم وتفضي إلى حضارة ما بعد الصناعة التي سادت العالم عبر القرون الثلاثة الماضية، وهي حضارة جديدة تختلف جذرياً عن سابقتها؛ إذ تتسم بوعيٍّ إنسانيٍّ مميز، وأنماط عائلية جديدة، وأساليب مختلفة لمزاولة العمل والإنتاج واقتصاد مبتكر، وصراعات سياسية حادة، وفوران اجتماعي عميق، وإعادة بناء شاملة للتاريخ.
وكما تنبأ "توفلر"، توحي التطوّرات التكنولوجية المتسارعة على أنَّ الثورة الصناعية الرابعة التي تجري أحداثها حالياً وتتميز بسرعتها الأسية الهائلة في عالم مترابط ومتعدد الأوجه، وحيث تكنولوجيا تولد أخرى أحدث منها وأكثر قدرة وتعقيداً. كما أنَّها تتميز باتساعها وعمقها، فهي مبنية على الثورة الرقمية وتجمع بين تقنيات متعددة تؤدي إلى تحولات جوهرية لم يسبق لها مثيل في الاقتصاد والأعمال التجارية والمجتمع والأفراد، تغييراً ليس فقط في "كيف" و "لماذا" نفعل الأشياء ولكن أيضاً تطرح تساؤلات عميقة حول الذات ومعناها. كما أنَّ أثرها على النظم كبير؛ إذ تنطوي على تحولات جذرية داخل وعبر البلدان والشركات والصناعات والمجتمع بأكمله، وأهمها على الإطلاق ما ستحدثه على ثقافة الأمم من تقلب وتغيير.
يحتاج المجتمع إذن إلى بناء وعي ذاتي بأهمية العلم في صياغة مشروع الأمة الحضاري وإعادة تركيب دورها الإنساني في الإسهام في تقدم البشرية عوضاً عن الاكتفاء بدورها الهامشي الذي ارتضته على مدى قرون طوال. فثمة تحديات عظام تواجه الأمة اليوم، منها القديم المستعصي والجديد المستصعب. ولعلَّ الثورة الصناعية الرابعة، وما تحمله في جعبتها من إشكاليات ومسائل بدت تتمدد وتخترق بينة القيم الثقافية والروحية وربما تهدّد استقرار الأمة وازدهارها وحتى وجودها، يمنحها فرصة تاريخية لإعادة ذاك المشروع الذي يصقل عقل الإنسان العربي ويمنحه ميزة التفكير النقدي، ويوفر له المعرفة بأساليب ونتائج العلم، والإلمام بالتكنولوجيات الناشئة وتطبيقاتها التي تتعلق بنواحي الحياة كافة، كما يوفر له المشروع القدرة على ممارسة منهج التفكير العلمي ومتابعة تطوراته. يعتبر مشروع الثقافة العلمية إذن وعياً شاملاً تنشده الشعوب العربية، خصوصاً وأنَّها تعاني من قفر معرفي وتواجه إضطراباً فكرياً على جميع الصعد الاجتماعية والسياسية والثقافية.
لقد عملت الجهات الثقافية الرسمية في الدول العربية ممثلة بوزارات الثقافة والهيئات الحكومية والأهلية الأخرى، خصوصاً المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الكسو)، على نشر الثقافة العلمية والتقانية عبر وضع استراتيجية وبرنامج عمل يتسق مع الثوابت الثقافية والإرث الحضاري العربي، وينسجم مع منظومة المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية. كما حاول كثير من الخبراء والمفكرين الناشطين التأسيس لمشروع الثقافة العلمية والتقنية ونشره في الوطن العربي، وبذلوا جهداً عظيماً لتحقيقه من مثل الراحل الكبير أنطوان زحلان، ونهاد شريف، وإبراهيم بدران، ومعين حمزة، ونضال قسوم، وعمر البزري، وإيهاب خليفة، وغيرهم الكثير، معتبرين المشروع اللبنة الأساسية من شروط نهضة الأمة واستفاقتها من سباتها الحضاري الطويل. هذه الجهود العظيمة لم تتحول إلى تيار مؤسسي شامل بسبب إخفاق الأمة التاريخي في تملك الحداثة وتحقيق التنمية رغم كل الجهود التي بذلت.
يعتبر الأستاذ الدكتور هشام غصيب رائد مشروع الثقافة العلمية في الأردن، إذ شرع في إقامته منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، منجزاً عديد الكتب منها "جدل الوعي العلمي والعقل والمنهج في الثورة العلمية الكبرى" و"المغزى الحضاري التاريخي للعلم والثقافة العلمية". اعتبر "غصيب" المشروع الثقافي بوصفه وعياً عضوياً ينبع من قلب التاريخ وقوة تغيير عظيمة تستطيع استيعاب تطوراته في الحضارة الغربية، وتحوله إلى قوة أساسية ومحور جوهري في الحياة تمكن المجتمع من بناء وعي جمعي وعقل بحثي ناقد يقود إلى صناعة المعرفة. وقد سعى "غصيب" إلى تفكيك الشروط الثقافية اللازمة لإقامة المشروع العلمي العربي، مثلما حدَّد معالمه وغايته التفصيلية له مجملاً ضرورة تفجير الكوامن التعبيرية في اللغة العربية وإتقان فن التعبير العلمي الدقيق، وإزالة غبار الركود التاريخي والسبات الحضاري. كما أجمل "غصيب" أهمية إبراز المنطويات الاجتماعية والفكرية للعلم والكيفية التي تركب بها النظريات والمفهومات العلمية وتختبر بها الأفكار الناشئة، وكذلك العقلانية العلمية وبيان جوهرها المتمثل في العلاقة الجدلية بين النظرية المريّضة والقياس المقداري الدقيق، إضافةً لأدوات الممارسة العلمية ومعناها وشرعيتها، مثل الاستنتاج والاستقراء والاشتقاق والتركيب الجدلي والاختبار العملي والاختبار المخيالي والنقد والملاحظة الذكية.
إذن؛ تتعاظم مسؤولية المثقف العربي المعاصر في حمل راية المشروع الثقافي العلمي العربي في أفياء الثقافة 4.0 وهيمنتها على المشهد العالمي، خصوصاً في ظلال الفوضى التي تسببها وسائل التواصل الاجتماعي والفوضى المضادة التي تضيفها قوانين الجرائم الإلكترونية؛ ما قد يؤدي إلى فوت فرصة الإفادة مما يمكن أن تخلقه التجربة المثيرة التي تجمع بين الهُوية الثقافية والتطور الحديث، وما قد ينتج عن الثقافة 4.0 من تعزيز التعلم والتفاعل الثقافي، وتشكيل واقع ثقافي متطور ومتنوع، وتوفير مساحة للإبداع الرقمي والتعبير الفني عبر وسائل متقدمة من مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز. تتعاظم هذه المسؤولية كذلك لدرء المخاطر والسلبيات التي ربما تؤثر على الثقافة العربية ووجوب مراعاتها من مثل فقدان الهُوية والشخصية الثقافية المتمايزة، والتأثير على اللغة والتواصل، والانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية، وتهديد التراث الثقافي التقليدي حين يتجاوزه الشباب نتيجة التركيز الكبير على الثقافة الرقمية والتكنولوجية، إضافة إلى التهديدات الأمنية واختراق الخصوصية واتساع الفجوة الرقمية بين الفئات الاقتصادية المختلفة؛ ما يمكن أن يؤثر على وصول الطلبة إلى تعليم عالي الجودة.
وفي الختام؛ فإنَّ العالم يشهد طوراً جديداً من سيرة الإنسان في الأرض تزول فيه الخطوط الفاصلة بين الشعوب وتتلاشى حواجز اللغة وتتنحى الفواصل الثقافية؛ ما يستوجب تبني استراتيجيات واعية للتوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على الهُوية الثقافية والقيم الحضارية العربية؛ عبر نشر التوعية حول استخدام التكنولوجيا بطرق تعزّز تلك القيم والمبادئ، وتوجيه الجهود نحو وضع مشروع الثقافة العلمية في مقدمة أولويات العربي، مواطناً ومثقفاً ومجتمعاً ودولةً وأمّة.