الخيالُ العلميُّ في الثقافة العربيّة؛ الأبعادُ الحضاريّةُ ومستقبل الثقافة في العالم العربي.

د. خالد غرايبة
أكاديمي وباحث أردني
استطاع فيلم "اوبنهايمر"، الذي عُرض مؤخراً في دور السينما والذي يتحدث عن قصة صناعة القنبلة الذرية وما رافقها من إرهاصات أخلاقية، أن يجذب انتباه العالم ويحقق إيرادات فاقت التوقعات. ولكن ربما لا يعرف الكثيرون قصة كاتب الخيال العلمي "كليف كارتميل" (1908-1964) التي تزامنت مع أحداث الفيلم. فقد نشر "كارتميل" في العام 1944 روايته "الموعد النهائي"، والتي وصفت بتفاصيل مذهلة صناعة قنبلة ذرية تنفجر بقوّة شديدة، ويمكنها أن تنهي الحرب العالمية الثانية في الوقت الذي كان "أوبنهايمر" يعمل بسرية تامة في "مشروع مانهاتن لصناعة القنبلة الذرية"؛ الأمر الذي جعل المخابرات الأميركية تشك في أنَّ الكاتب قد تسلل إلى المعلومات السرية الخاصة بصناعة هذه القنبلة. إلا إنَّ التحقيقات اثبتت أنَّ الرواية وما تحتويه من تفاصيل لم تكن سوى شطحات من خيال الكاتب الخصب الذي استطاع توقع ما كان يحدث في مشروع إنتاج القنبلة الذرية.
الخيالُ العلميُّ موضوع قد يراه البعض ضرباً من الأدب الذي يدر دخلاً كبيراً على كتّاب ومنتجي الأفلام السينمائية، إلا إنَّ الناظر إلى تاريخ الخيال العلمي يجد علاقات مذهلة بينه وبين تطور الأمم وتقدمها العلمي والحضاري؛ إذ أنَّ الخيال العلمي كان وما يزال عاملاً مهماً في إلهام العلماء لتطوير نظرياتهم واختراعاتهم التي غيرت العالم خصوصاً في المائتي عام الماضية. فكثيرٌ من الاكتشافات والإنجازات العلمية والتكنولوجية التي تحققت خلال النصف الثاني من القرن العشرين كان قد سبق التنبؤ بها في أعمال الخيال العلمي منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثل أشعة الليزر والذكاء الاصطناعي والروبوت، وصناعة القنبلة الذرية، وبطاقات الائتمان وغزو الفضاء وزراعة الأعضاء البشرية، وأطفال الأنابيب، والهندسة الوراثية، والعلاج الجيني والاستنساخ، والنانوتكنولوجي، وغيرها. والأمثلة في ذلك لا تُعدُّ ولا تُحصى، فقد أسّس عالم الفيزياء الأميركي المجري المولد" ليو زيلارد" (1898-1964)، الذي كان أحد علماء "مشروع مانهاتن"، معادلات نظرية مبنية على تنبؤات رائد الخيال العلمي البريطاني الشهير "هـ. ج. ويلز"(1866-1946) في روايته "العالم تحرر" (The World Set Free) عام 1914 التي تنبأ فيها باكتشاف الطاقة الذرية وتحرّرها والإشعاع الصناعي وتطوّر القنابل الذرية قبل "فيرن" بعقود، وكان أول من صاغ واستخدم مصطلح "القنبلة الذرية". وفي مثال آخر؛ يقول العالم المصري فاروق الباز: "إنَّ "ناسا" وجدت أثناء العمل على "برنامج أبولو" أنَّ تصميم "مركبات أبولو" والهبوط على سطح القمر الذي توصلت إليه في الستينيات، تتشابه بشكل كبير مع الرسومات التي قدّمها الكاتب الفرنسي "جول فيرن" (1822-1905) في روايته "من الأرض إلى القمر" التي كتبها عام 1865."
ولا يقتصر دور الخيال العلمي على إلهام العلماء للقيام باختراعاتهم بل يتعداها إلى استشراف المستقبل وتنمية التفكير العلمي ومهارات التفكير الإبداعي، والتوجه نحو دراسة العلوم وإشاعة المنهج العلمي في المجتمع وإكسابه الرؤية المستقبلية الواعية. كما أنَّ الخيال العلمي يسهم في تهيئة الإنسان لمواجهة تحديات المستقبل وتجنب الصدمة الناجمة عن الابتكارات التكنولوجية المستقبلية وما يرافقها من قضايا أخلاقية؛ كالتي تحاول تصويرها الروايات المستقبلية التي تتناول مثلاً قضايا التلاعب الجيني والاستنساخ وتحوّل الآلات إلى كائنات متحكمة في المصير البشري.
إذن؛ فالخيال العلمي يمثل ظاهرة فريدة للتفاعل بين العلم والخيال، فمن ناحية فإنَّ الأمثلة كثيرة على أنَّ الخيال العلمي أسهم في التطوّر التكنولوجي الذي يقود إلى تقدم المجتمعات، وفي الوقت نفسه، يمكن للمرء أن ينظر إلى تلك الظاهرة على أنَّها نتيجة حتمية لتقدم المجتمعات المبني على العلم، والذي يقود إلى تطوّر خيال الأدباء لما يقدمه التطوّر التكنولوجي من أفكار يمكن أن تتفاعل لتقود إلى اختراعات قد تكون خيالية في نقطة معينة من الزمن.
إنَّ هذه الجدلية تقود إلى التفكير في راهن أدب الخيال العلمي العربي الذي غاب عن ساحة الأدب العربي المعاصر والسينما العربية، ربما لأسباب موضوعية بالرغم من عديد المحاولات لأدباء عرب حاولوا تلمس طريق أدب الخيال العلمي. فقد قدّم عددٌ قليلٌ من الأدباء العرب المعاصرين إسهامات مهمة في أدب الخيال العلمي؛ كنهاد شريف (الملقب بعميد أدب الخيال العلمي العربي)، وطالب عمران، ونبيل فاروق، ومصطفى محمود، ورؤوف وصفي، وقبلهم ويوسف عزالدين عيسى، وتوفيق الحكيم، ويوسف السباعي، وفتحي غانم. وقد قدّم هؤلاء عدداً من الروايات تناولت العديد من مواضيع الخيال العلمي، فمثلاً قدّم نهاد شريف عدداً كبيراً من الروايات التي تتحدث عن تطورات العلم المستقبلية في الطب كرواية "قاهر الزمن" التي تحدثت عن موضوع تجميد البشر. وقدّم طالب عمران عدداً آخر من روايات الخيال العلمي من مثل رواية "رواد الكوكب الأحمر"، ورواية "في كوكب شبيه بالأرض" التي عالجت موضوع غزو الفضاء في عالم المستقبل، فيما قدم نبيل فاروق رواياته "ظل الأرض" و"شمس منتصف الليل"، و"صرع" التي تناولت فکرة الانتقال عبر الزمن وما يرافقه من أبعاد أخلاقية. والملاحظ في إسهامات الكتّاب العرب الذين تخصّصوا في أدب الخيال العلمي أنَّ إنتاجهم الأدبي تميّز بالضحالة مقارنة مع مثيله الغربي، فعدد كتابه لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كما أنَّه كان في غالبه متأثراً بالأدب العالمي. ويبدو أنَّ لذلك أسباباً موضوعية، فهذا النوع من الأدب بدا غريباً على ثقافة المجتمعات العربية التي فرضت قيوداً اجتماعية وثقافية على حرية الأدباء، ربما لتخلف العالم العربي عن ركب العلم والتكنولوجيا، ولا أدل على ذلك سوى تعرض أولئك الأدباء إلى الكثير من النقد وتقليل الشأن، أو وصفهم بالهرطقة والدجل أو حتى الشعوذة، أو اعتبار أعمالهم من البعض مجرد شكل من أشكال الكتابة للأطفال والمراهقين؛ مما يعني أنَّ أدب الخيال العلمي في مجتمعاتنا العربية ما زال في طور التجريب.
ولعلَّ الناظر إلى قصور أدب الخيال العلمي لدى العرب يجد أنَّ الجدلية المذكورة في العلاقة بين العلم والخيال العلمي يمكن أن تشكّل قاعدة لمعرفة أسباب ذلك القصور، وفي الوقت نفسه قاعدة لإيجاد الحل. فمن ناحية فإنَّ أبرز أسباب ذلك القصور هو التراجع الحضاري الذي يشهده عالمنا العربي والذي أدى إلى تراجع العلوم وعدم القدرة على الإسهام في الجهد الإنساني لتطوير التكنولوجيا؛ ومن ناحية أخرى فإنَّ عدم تصدي الأدباء ومن قبلهم النظام التعليمي والتربوي لموضوع الخيال العلمي ربما كان من أسباب عدم تطور العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية. فقد بينت الدراسات الحديثة والممارسات العالمية في مجال التربية والتعليم أنَّ تدريس قصص وأفلام الخيال العلمي يعدان ضرورة تربوية مستقبلية؛ حيث تمكّن المادة الأدبية في الخيال العلمي الطلاب من إدراك واستيعاب وفهم المفاهيم والحقائق العلمية، كما تشكّل أهمية خاصة وضرورة ملحة من ضرورات تنمية التفكير العلمي ومهارات التفكير الإبداعي، والتوجه نحو دراسة العلوم وإشاعة المنهج العلمي في المجتمع وإكسابه الرؤية المستقبلية الواعية.
إنَّ أدب الخيال العلمي وتشخيصه في الأعمال السينمائية والدرامية بات ضرورة ملحة يجب أن يحمل لواءها كل من الأدباء والعلماء والتربويين والفنانين ممن يهمهم الإسهام في النهضة الحضاريّة العربيّة في القرن الواحد والعشرين؛ لما للخيال العلمي من دورٍ كبيرٍ في تأهيل الجيل الصاعد للإبداع، واللحاق بركب التقدم العلميّ والتكنولوجيّ العالميّ.