تجربتي في عالم إنترنت الأشياء

م. عفيف الخوري
خبير أردني/ شركة الكهرباء الوطنيّة
منذ تخرجي علم 2006، عملت مهندساً كهربائياً في مجال نقل وتوزيع الطاقة الكهربائية لأكثر من ستة عشر عاماً، اكتسبت أثناءها خبرة واسعة وتعلمت الكثير عن تكنولوجيا النقل والتوزيع، لكنَّني كنت دائماً مولعاً بالإلكترونيات والمعالجات الدقيقة وبرمجة الحواسيب. كان شغفي هذا هو ما دفعني إلى استكشاف عالم إنترنت الأشياء (IoT)؛ ذلك أنَّ إنترنت الأشياء يمثّل تطوراً استثنائياً في العالم التكنولوجي، حيث تتيح للأشياء اليومية أن تتواصل مع بعضها ومعنا عبر شبكة الإنترنت. تمكنت عبر رحلتي في عالم إنترنت الأشياء من دمج خبرتي في الهندسة مع مهاراتي في البرمجة لبناء منظومات مبتكرة، وواجهت تحديات جمة أثناء تطوير المشاريع خاصتي مما أحدث تحولاً في مختلف مجالات الحياة.
يمثل عام 2017 منعطاً حاسماً في رحلتي في عالم إنترنت الأشياء، حيث كانت إحدى زياراتي لدولة الصين هي البداية. كان هدف زيارتي هو إجراء الفحوصات المصنعية لمحوّلات القدرة الموردة لأحد مشاريع شركة الكهرباء الوطنية، إذ كلفتني إدارة الشركة وقتها بهذه المهمة. أثناء الزيارة، انتابتني الدهشة عندما لاحظت أنَّ كثيراً من الناس في الصين يستخدمون التطبيقات الذكية لشراء البضائع المتنوعة من متاجر "تطبيق تاو باو"، فأشعلت تلك اللحظة شرارة فضولي لاستكشاف هذا العالم الجديد. قابلت شخصاً خلال أحد اللقاءات عرفني على عالم التطبيقات الذكية وكيفية استخدامها للشراء داخل الصين. لم يكتفِ بذلك؛ بل علّمني كيفية استخدام تطبيقات معينة للشراء والتفاعل معها. وفي هذه المرحلة، قررت الغوص في عالم التطبيقات الذكية بكل تفاصيلها.
من هنا؛ جاءت نقطة التحول حيث اقتنيت مفتاحاً تلامسياً ذكياً. في بادئ الأمر، لم أكن ملماً بمحتواه أو كيفية عمله؛ لكن من خلال قراءة دليل المستخدم، أصبحت الخطوات الأساسية لربطه بالإنترنت والتحكم به عبر تطبيق على هاتفي الذكي واضحة لي. بعد عودتي إلى الأردن، شرعت في تركيب المفتاح وتوصيله بالتيار الكهربائي باستخدام أدواتي الكهربائية البسيطة. تجاوزت العديد من المحاولات الفاشلة قبل أن أتمكن أخيراً من تحقيق التواصل بين المفتاح والتطبيق بنجاح. بعد تجارب مكثفة، تمكنت من ربطه والتحكم فيه من خلال تطبيق على هاتفي الذكي.
تجربتي مع تلك المفاتيح الذكية في البداية كانت بمثابة تحدياً يجمع بين المهارات الهندسية والبرمجية. ومع هذه البداية، بدأت أدرك إمكانيات إنترنت الأشياء وتأثيرها المحتمل على حياتنا اليومية. قمت بعد ذلك بشراء مجموعة من المفاتيح التلامسية من دولة الصين وشحنها إلى الاردن، فقررت حينها تحويل منزلي التقليدي إلى منزل ذكي بشكل كامل. قمت بتركيب وحدات إضاءة ومفاتيح ذكية على بوابة الموقف الخاصة بالعمارة التي أقطن فيها، وكذلك على المدخل الرئيس للعمارة. كانت هذه الخطوة هي بداية تحول منزلي إلى بيئة ذكية تستجيب لاحتياجاتي بشكل ذكي وفعّال. ولضمان التواصل السلس والفعّالية في تطبيقات إنترنت الأشياء والأجهزة المادية المحيطة، قمت بتغطية المنطقة بأكملها بأجهزة تقوية إشارة "الواي فاي"، وقد ساعد هذا الإجراء في تحسين التواصل بين الأجهزة المختلفة وتحسين أداء الشبكة اللاسلكية.
في هذه الأثناء؛ قررت دراسة مبدأ عمل وتركيب المفاتيح الذكية، واكتشفت أنَّ معظمها يعتمد على متحكمات دقيقة من مثل "الأردوينو" ومثيلاته من المتحكمات المرتبطة بال"واي فاي" المدمجة؛ مما يسمح لها بالاتصال بالإنترنت والتفاعل مع التطبيقات الذكية بكفاءة. عندما نتحدث عن هذه المتحكمات، يتعين أن نشير أيضاً إلى أنَّ هناك تشكيلة واسعة من لوحات التطوير الإلكترونية المختلفة التي يمكن استخدامها في تطبيقات إنترنت الأشياء. هذه اللوحات تساعد المطورين على بناء أنظمة متنوعة وتنفيذ مشاريع إنترنت الأشياء بسهولة وفعالية، ومنها "راسبيري باي" الذي يُعَدّ من بين أشهر لوحات التطوير الإلكترونية في مجال إنترنت الأشياء. إنَّه جهاز صغير يعمل ب"نظام تشغيل لينكس" ويتضمن مدخلات ومخرجات متعددة. يمكن استخدام "راسبيري باي" لتشغيل مؤتمت في المنازل الذكية، ومراقبة الحساسات، وإنشاء أنظمة الأمان وأجهزة الكشف عن الحركة. بفضل قدراته المتعددة، يُعَدّ "راسبيري باي" أداة مثالية لإنشاء تطبيقات إنترنت الأشياء المعقدة. المعالجات الدقيقة ذات وحدات "الواي فاي" المدمجة من نوع ESP8266 والنوع ESP32 .
الجدير بالذكر أنَّ هذه المتحكمات الدقيقة تتميز بحجمها الصغير واستهلاك الطاقة المنخفض، مما يجعلها مثالية لتنفيذ أجهزة إنترنت الأشياء المحمولة والمنتشرة. تمتلك هذه اللوحات وحدات "وايفاي" مدمجة مما يسهل اتصالها بالإنترنت وجمع البيانات من الأجهزة الذكية، كما تعتبر خيارات اقتصادية وفعّالة من حيث التكلفة لبناء أنظمة إنترنت الأشياء. باستخدام هذه المكونات والتكنولوجيا، نجحت في تحقيق رؤيتي لبيت ذكي يوفر لي الراحة والأمان والتحكم الكامل في جميع جوانبه.
عبر رحلتي الاستكشافية، بدأت بتعلم لغات برمجة متنوعة التي تلعب دوراً أساسياً في عالم إنترنت الأشياء، إذ قمت بالاستماع إلى العديد من الفيديوهات التعليمية على "منصة يوتيوب" وقراءة العديد من الكتب لتطوير مهاراتي. وما يجعل هذا الإنجاز أكثر إثارة هو أنَّ هذا الجهد جاء بمجهود شخصي من دون دورات تدريبية. نجحت على إثرها بتعلم "لغة البرمجة بايثون" التي تُعتبر واحدة من أهم اللغات في عالم إنترنت الأشياء نظرًا لقدرتها على التعامل مع البيانات والأجهزة بكفاءة. كما قمت بالتعرف على لغة برمجة "الأردوينو" واستفدت منها في بناء تطبيقاتي وأنظمتي الذكية.
كان هناك تحد كبير أمامي تمثل في موقد الغاز الذي يعمل بشكل يدوي تماماً في منزلي، ولم يكن هناك أي نظام آمن يضمن عدم حدوث مشاكل في تشغيله نتيجة تسرب الغاز أو إطفائه بدون وجود شعلة. لكن هذا التحدي لم يكن كافياً ليقف في وجه شغفي بعالم إنترنت الأشياء. فبدأت مسيرتي في تطوير نظام ذكي مؤتمت لموقد الغاز الذي استند إلى توظيف صمام غاز كهربائي، يُشغَّل ويُطفأ بواسطة معالج دقيق صممته ليتزامن بسلاسة مع لوحة مرحلات كهربائية تُشغِّل مشعلاً كهربائياً لإشعال اللهب. ولمزيد من الأمان، تم تجهيز النظام بحساس للشعلة، وهذا الحساس يضمن استمرار تشغيل النظام عند اكتشاف الشعلة ويُطفئه فورًا إذا لم تكن هناك شعلة لتشغيل النظام؛ مما يمنع تسرب الغاز دون وجودها.
تحديات عديدة واجهتني أثناء تطوير هذا النظام، إذ كان عليّ كتابة برمجيات مُعقَّدة للتأكد من تناغم وتوافق كل جزء من النظام. كانت مهمة تجميع وتركيب الأجزاء الكهربائية وتوصيلها داخل الموقد مهمة صعبة، لذا بنيت واجهة مستخدم على الهواتف الذكية باستخدام "منصة بلينك" التي أتاحت فرصة التحكم في الموقد عن بعد بأمان تام، ما كان ضرورياً خصوصًا للأطفال. لقد تمكنت من تطوير نظام ذكي آمن وموثوق، وهو الآن جاهز للاستخدام التجاري.
استمرت مغامرتي في عالم إنترنت الأشياء في الفترة من عام 2019 حتى عام 2021، إذ قررت تصميم وتصنيع حساس ذكي يعمل ضد السرقة عبر إنشاء جهاز صغير الحجم يعمل بشكل لاسلكي ويعتمد على البطاريات. كان هدف هذا الحساس الذكي توفير الأمان والحماية للمنزل من خلال قراءة حالة النوافذ والأبواب. فبمجرد إغلاق جميع النوافذ والأبواب يقوم بإرسال تنبيه إغلاق ومن ثم يتوقف تلقائياً عن العمل لتوفير البطارية، وفور فتح أي باب أو نافذة يعود الحساس للعمل ويرسل تنبيه فتح.
لم يكن المشروع مجرد تجربة فنية وهندسية، بل كان مغامرة مثيرة ومجزية حيث أظهر لي كيف يمكن تحويل فكرة إلى واقع عملي، وكيف أنَّ الإصرار والتفاني في تحقيق أهداف التكنولوجيا يؤدي إلى نتائج مثمرة. والآن؛ يمكنني الاعتماد على هذا الحساس الذكي لحماية منزلي وزيادة الأمان فيه بشكل كبير.
بعد نجاح المشروع وتصميمه المبدئي، بدأت في التفكير في كيفية تحويله إلى منتج تجاري قابل للتسويق. قررت بدء هذه المرحلة عبر تصميم وتصنيع لوحة إلكترونية مطبوعة خاصة بهذا المنتج. ولتنفيذ ذلك؛ استخدمت برامج متخصصة في الدوائر المطبوعة واستفدت من "برنامج الأوتوكاد" لإنشاء تصاميم دقيقة للوحات الإلكترونية. قمت بعد ذلك بإرسالها للتصنيع في الصين بكميات متواضعة في البداية. بعد ذلك؛ قمت بتجميع المكونات الإلكترونية اللازمة، بشراء بعضها من السوق المحلي، بينما الآخر من الصين لضمان الجودة والتوافق. واصلت سعينا الدؤوب للتغلب على التحديات في تصميم وتصنيع العلب الكهربائية لحمل الحساسات الذكية، أغلبها جودة المواد ودقة الطباعة، والبحث عن بدائل لتصنيع هذه العلب بجودة عالية وبتكلفة معقولة. وجدت في الصين مصنعاً يستخدم تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد باستخدام مادة "الريزين"، والذي وفر جودة عالية وأسعارا منافسة، بالإضافة إلى تكلفة شحن معقولة. لذا؛ لم أتردد في طلب المزيد من العلب. بعد انتهاء عملية تصنيع عشر وحدات ذات الجودة العالية والتفاصيل الدقيقة أصبحت جاهزة للاختبار والتسويق.
في الختام؛ نجد أنَّ ريادة الأعمال في مجال إنترنت الأشياء تحتاج إلى شغف ورغبة في التعلم والابتكار؛ مما يمكن الأفراد ذوي الموارد المحدودة أن يبدأوا رحلتهم ويجعلوا من مشاريعهم واقعاً تجارياً ناجحاً. والأمثلة من جميع أنحاء العالم تثبت ذلك، ونحن في الأردن لسنا استثناءً حيث لدينا الإمكانات لتحقيق النجاح في هذا المجال لنستمر في العمل بجد، ونكون مصدر إلهام للأجيال القادمة من روّاد الأعمال في عالم التكنولوجيا.