درويش وقطُّوس" والكينونة المغيَّبة: الناقد يكتبُ ذاته؛ مقاربة لكتاب بسام قطوس الموسوم بـ"درويش على تخوم الفلسفة".

جعفر عمرو اللقطة
كاتب وباحث أردني.
"درويش على تخوم الفلسفة أسئلة الفلسفةِ في شعر محمود درويش"، هو الإصدارُ الثاني عشر من الكتب النقدية في مشروع الأستاذ الدكتور بسام قطوس، وربما كان العمل الأربعين من دراساته النقدية التي قاربت معظم الجغرافيا العربية في دراسة الشعراء والروائيين. ويقع الكتاب في مئة وست وستين صفحة من القطع المتوسط، صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عام 2019. وقد خصّصه للبحث عن أسئلة الفلسفة في نماذج متخيرة من شعر محمود درويش. وبدءاً بالعنوان وهو العتبة الأولى من عتبات الدخول إلى هذا المُنجز النقدي نجد العنوان الرئيس وهو "درويش على تخوم الفلسفة".
فالتخوم بمقارنتها بالحدود مثلاً، هي منطقة سياسية أو جغرافية قريبة من الحدود؛ فإذا كانت الحدود تدلُّ على شكل ثابت وجامد وواضح يفصل بين شيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر، وتقوم باتجاه الداخل، فإنَّ التخوم متحركةٌ لأنَّها تخضع للتغيير، وتقوم باتجاه الخارج، وهذا ما تغيّاه العنوان الرئيس ليوحي بأنَّ اتصال درويش بالفلسفة، هو من باب القراءة والتثقف لرفد مدوَّنته الشعرية، دون أن يشكِّل معها حدّاً ثابتاً، وإنَّما هو على تخومها كقارئٍ مثقفٍ، يدرك ضرورة تعميق نصه الشعري.
أمَّا العنوان الفرعي فقد خصّصه لتلك الأسئلة الفلسفية الحارقة في شعر درويش، كسؤال الهُوية، وسؤال الوجود، وسؤال الموت...إلخ.
وذهاباً إلى العتبة الثانية وهي عتبة الغلاف (الوجه) باعتبارها عتبة مهمَّة، أو نصَّاً موازياً خارجياً (Epitexte)، أو نصَّاً محيطاً مُلحقاً بالنص الأساسي، ولكنَّه منفصلٌ عنه خاضع لسلطة غير سلطة المؤلف، ربما لسلطة الناشر أو مصمِّم الغلاف، لنجد أنفسنا بإزاء صورة محمود درويش تحتلُّ الجهة اليسرى من وجه الغلاف إلى يمينها من أعلى الصفحة اسم المؤلف بسام قطوس، ويجلس تحت الاسم درويش بالخط الأحمر وتحت اسم درويش مباشرة على تخوم الفلسفة بالخط الأحمر، وتحتها مباشرة بعد فراغ أسئلة الفلسفة في شعر محمود درويش بالخط الأحمر ثانية. أمَّا على صفحة الغلاف (القفا) فنلتقي بصورة المؤلف بسَّام قطوس إلى يمين الصفحة، وقد وقعت الكتابة التقديمية إلى يسار الصورة، حيث خَطَّ المؤلف:
" هذا الكتاب محاولة تؤمّل أن تقرِّبنا من المحاججة الجمالية والفلسفية والأخلاقية الطويلة التي خاضها درويش مع الحياة وتناقضاتها، واللغة ورموزها، والنضال وسقطاته، والأعداء والأصدقاء، وأخيراً مع عدوه اللدود(الموت) الذي وإن كان قد سلبه هشاشة الجسد، فإنَّه لم يقو على سلبه عبقرية الروح وجمالها الخالد!..إلخ".
ولعلَّ هذه العتبةَ تؤطر طريقة الناقد بسام قطوس في مَفْهمة المفاهيم (وهو المصطلح الأثير لديه في جلِّ كتبه) من خلال الاستهلال في الجملة الأولى التي يبدو فيها تواضع الباحث العالم الذي لا يريد أن يقطع برأي جازم في قوله: "هذا الكتاب محاولة"... ثم "تؤمّل أن تقربنا"؛ إذن هي مقاربة لم يشأ أن يجعل منها قولاً أكيداً. ثم مِمَّ تقربنا؟ من المحاججة الجمالية والفلسفية والأخلاقية الطويلة، إذن نحن مقبلون على حجاج، والحجاج شغل المناطقة والفلاسفة، ولكن دون قطع بأسبقية محاجج على آخر، لهذا أردف بقوله عن عبقرية كتابة درويش التي حفرها في الكتابة، "بوصفها مغامرة الذات في البحث عن ذاتها مثلما هي مغامرة اللغة في البحث عن كينونتها"، وهنا مربط الفرس في كتابة درويش، توازيها كتابة قطوس على الكتابة؛ فإذا كانت مغامرة الذات في البحث عن ذاتها عبر لغة تبحث عن كينونتها هي ديدن درويش، فما هو ديدن قطوس في الكتابة عن تلك الذات؟ إنَّه دون أدنى شك يكتبُ ذاته، من خلال الذات المكتوب عنها!
أمَّا الصورتان فتنبئان لي، وأنا أقاربهما من خلال وعيي على شعر درويش، وإدراكي لكتابات قطوس، وقد تتلمذت على يديه في الدراسات العليا، وقرأت له معظم ما كتبه وحاضر به عن درويش سواء داخل الأردن أم خارجه، في كتبه أو بحوثه العلمية المحكّمة، عن أنَّهما وجهان لعملة واحدة؛ إنَّها العملة الفلسطينية المغيّبة تماماً، أو التي أريد لها أن تغيب. وإنَّ كلا منهما الشاعر المبدع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ربما أكثر من الأكاديمي والناقد أقصد (قارئه)، وهذا شيء طبيعي، وبخاصة لشاعر مثل محمود درويش، دون أن نقلل من منزلة القارئ الثقف الحصيف في الناقد أو الأكاديمي، أقول إنَّ كلاً منهما عمل بجد على استحضار المكبوت الغائب، وكلٌّ بأدواته الإبداعية. فالأول درويش يعيد تشكيل الوجود بالشعر/الكتابة، وقارئه يعيد تأويل ما تأوله الشاعر، وكلاهما يبحث عن الكينونة الضائعة، وفلسطين المغيَّبة، كل بأسئلته الفلسفية الحارقة. هكذا يلتقي الموضوع الواحد في ذاتين مختلفتين، ولكنَّهما تعاينان، أو يسكنهما موضوع واحد، هو موضوع الكينونة الفلسطينية، وقبل ذلك كينونة الوجود التي تقضُّ مضجع كليهما، مثلما تقضُّ مضجع كل موجود يعي موته على هذه الأرض.
وذهاباً إلى الإهداء الذي توّج به الناقد كتابه إلى أستاذه المرحوم "محمود السَّمرة"، الذي ينمُّ عن عراقة الخلق العلمي، وتواصل الأجيال، نجدنا بإزاء إهداء رفيع المستوى يكشف عن عمق أسئلة الفلسفة التي يريد المؤلف مقاربتها في شعر درويش، يقول:
"إلى روح من علَّمني في حضوره معنى الاختلاف،
شيخي وأستاذي محمود السمرة:
كان السؤال في حضورك صيغة لإعادة بناء الذات!
صار السؤال في غيابك توقاً للأبدية!
إليكها في عليائك: أسئلة الفلسفة؛ أسئلتي يا من لم تضق بأسئلتي!"
وهو اعترافٌ صريحٌ بأشياء منها: اعتراف بحرية التفكير مع أستاذه السَّمرة الذي لم يكن يضيق بأسئلة تلامذته، ولم يفرض رأيه بالقوة، ولم يضق بالاختلاف، بل علَّم تلامذته فلسفة الاختلاف، لهذا كان سؤال التلميذ للأستاذ في حضوره هدفه تشكيل رصيد معرفي يبني فيه ذاته، ثم تحوّل السؤال في الغياب (عند الموت) إلى سؤال فلسفي أكثر عمقاً؛ لأنَّه سؤال التائق إلى الأبدية. والثاني اعتراف بفضل محاضرات السمرة وندواته التي كانت تضمُّ نخبةً من المثقفين فكرياً وفلسفياً، وذلك يُعزى فيه الفضل للأستاذ الذي لم يضق بأسئلة المريد، لهذا وجب على هذا المريد وقد اشتد عوده، أن يعيد فضل أسئلة الفلسفة لصاحبها، لذا قال له: "إليكها في عليائك!". لله كم نحن بحاجة إلى هذا الأدب العلميِّ في أيامنا هذه!
وعندما نتخطَّى عتبة الإهداء إلى المتن نجد أنفسنا في داخل عمارة فنية نقدية هيَّأ لها صاحبها من أدوات الناقد كلَّ ما تحتاجه من مَفْهمة المفاهيم، وتأسيس المصطلحات التي سيقيم عليها درسه النقدي في البحث عن أسئلة الفلسفة التي قارب بها درويش موضوعاته الشعرية.
وذهاباً إلى عتباته الأولية التي توّج بها كتابه، نجدنا بإزاء اختيارات لفلاسفة ومفكرين تنبئ عن أن اختيار المرء قطعة من قلبه وعقله، بما يشكل عتبة الدخول إلى هذا الصرح الممرد، فيأتي اختياره الأول للفيلسوف والشاعر الألماني "نوفاليس" في قوله:" ستكون إساءة إلى الشعراء كما إلى الفلاسفة إن نحن عملنا على التمييز بينهم". ثم يختار قولاً للفيلسوف الفرنسي "جاستون باشلر" في قوله:" كم سيتعلم الفلاسفة لو وافقوا على قراءة الشعراء"، ثم يختار للفيلسوف الألماني "فريدريك شيلنغ" قوله: "إنَّ على الفيلسوف أن يمتلك من القوة الجمالية قدر ما يمتلك الشاعر".
وهي عتبات مؤطرة لما يريد أن يبحثه في أسئلة الشعر وأسئلة الفلسفة. ففي فصله الأول الموسوم بـ"أسئلة الشعر وأسئلة الفلسفة" يقارب المؤلف تلك العلاقة الملتبسة بين الشعر والفلسفة، فيدرس تبادل التهميش بين الفلسفة والشعر منذ "أفلاطون" الذي طرد الشعراء من جمهوريته، أي بدءاً بلحظات الفلسفة الإغريقية، ويمضي لمناقشة نظرة الفلسفة الألمانية الممتدة من "كانط" إلى "هيجل" ومن "فيختة" إلى "شيلنج"، مروراً بالفلسفة المثالية فالواقعية، وانتهاء أو ليس انتهاء بلحظة الفلسفة الفرنسية المعاصرة، التي تحمل، وفق المؤلف، روح المغامرة والدعوة لتغيير سياسة الفلسفة وجعلها تنكتب داخل الحداثة، وذلك ما يعني إخراجها من أسوار الجامعة والأكاديمية الصارمة، ليتم تداولها في حياة الناس.. ويتساءل المؤلف: كيف يمكن التوفيق بين الخطاب الفلسفي، وهو خطاب عقلاني منطقي، والخطاب الشعري، الذي يتخذ من الخيال والإيحاء والصورة ميداناً له؟ ولكنَّه لا يستعجل الجواب، بل يصبر على الحفر على التماثلات والاختلافات والتقاطعات، ليخلص في فصله الأول إلى أنَّ سؤال الشعر يأتي موازياً لسؤال الفلسفة من حيث ارتباطه بالرؤية والتأمل والحدس، وكذلك ارتباطه بالأخلاق، وبحثه عن المطلق، وربطه بين المرئي (الفيزيقي) وغير المرئي (الميتافيزيقي)، بين الحاضر والغائب، بين الانكشاف والاحتجاب، ومن ثم "تأسيس الوجود باللغة" وهو عين ما ذهب إليه "هايدجر" في تأويله شعر "هولدرلن". ويذهب قطوس إلى أكثر من ذلك حين يرى أنَّ الشعر لم يعد بناء فنياً استعارياً وحسب، وإنَّما هو بناء فكري ورؤية للعالم والذات؛ إذ لم يعد العقل والفكر منفصلين عن الخيال والحدس، بل هما يحلان ضمن بنيته التأسيسية، قبل أن يكونا تأسيساً للخيال؛ لأنَّ الخيال أو التخييل يصبح آلية من آليات توصيل الفكر، وتأسيس الوجود بالفعل، أي تأسيس الواقع عبر التخييل.
أمَّا الفصل الثاني فيوقفه قطوس على عدد من أسئلة الذات في متاهة الوجود، فيقف على عديد الأسئلة التي سألها درويش مثل: سؤال الوجود/الكينونة، وسؤال الإيتيقا، وسؤال الخفة الوجودية، وسؤال المحو، وسؤال التشيؤ، وسؤال الاكتمال الناقص. ويذهب الفصل الثالث لأسئلة الأنا والآخر، ليرى أنَّ مقاربات درويش للأنا والآخر قد تعددت بتعدد مراحل الصراع، وعلى وفق نضج الرؤية، ومراحل النضال الفلسطيني، والصراع الحضاري. أمَّا الفصل الرابع والأخير فيقف فيه المؤلف على أسئلة الماهية وسؤال المعرفة؛ فعبر درويش فيه تعبيراً فلسفياً صادقاً عن انكسار الحلم الفلسطيني بطرق كثيرة؛ وعلى رأسها الحوار وإعادة صوغ الأسئلة المعرفية، والوجودية، مستغرقاً في مراجعة كل شيء، لما للسؤال من أهمية في استكناه طبيعة الأشياء، والوصول إلى المعرفة، مما دفعه إلى عدم الاكتفاء بالسؤال عن الشيء بل بالسؤال عن اللاشيء، تعبيراً عن انكسار الحلم الفلسطيني الإنساني البسيط، كما في قوله:
"الحُلْمُ ما هو؟
ما هو اللاشيءُ هذا
عابرُ الزمنِ،
البهيُّ كنجمةٍ في أول الحبِّ،
الشَّهيُّ كصورة امرأةٍ تدلِّك نفسها بالشمس؟/
ما هو لا أكاد أراه حتى
يختفي في الأمس/
لا هو واقعٌ لأعيش وطأته وخفَّتَهُ
ولا هو عكسُهُ لأطير حرَّاً
في فضاء الحَدْس/
ما هُوَ، ما هُوَ اللاشيءُ، هذا الهشُّ
هذا اللانهائيُّ الضعيفُ، الباطنيُّ
الزائرُ، المتطايرُ، المتناثرُ،
المتجدِّدُ، المتعدِّدُ اللاشكلِ".
فالشاعرُ ماضٍ في أسئلته في نزوع حزائني وجودي مُترع بالرؤى، وسيلته في ذلك تجريد المحسوس، ومحسسة المجرّد، باحثاً عن بصيص مساحة من حرية تليق به وبإنسانيته وإبداعه، ليتجاوز ذاته المحاصرة بهذا "اللاشيء" الذي عرّفه بقوله:
"لا هو واقع لأعيش وطأته وخفّته
ولا هو عكسه لأطير حراً
في فضاء الحدْس".
ويأتي الفصل الثالث على سؤال الأنا والآخر؛ فيبدأ كعادته في البحث العلمي بمَفْهَمة مفاهيمه، الذي طالما كان يطلبه من تلامذته في البحث العلمي، ليحفر على (مرحلة المرآة) عند "لاكان" فيرى أنَّ علاقة الأنا بالآخر تبدأ عندما ينظر الإنسان إلى ذاته فيشعر بأنَّه أنا لآخر، بل أنا آخر، وهذه أول مراحل تكوّن الشخصية، التي تسمى بـ"مرحلة المرآة عند لاكان".( ) ويصل إلى إنَّ وجود أنا يتطلب وجود آخر، ووجود آخر يتطلب وجود أنا مستقلة عنه. وثمة مستويات إدراكية متعددة لوعي الأنا، مثلما هناك مستويات عديدة لوعي الآخر. وقد تختلف أو تتشابك أو تتعارض علاقة الأنا بالآخر حسب الظروف والملابسات الواقعية، وقد تنتقل من الحبّ إلى العداوة، أو من القبول إلى الرفض، أو من الإيمان إلى التشكك.( ) وقد تبدو العلاقة جدلية بين الأنا والآخر؛ فحضور أحدهما قد يستوجب حضور الآخر، ولا يمكن تصور "أنا" دون "آخر"، فكلاهما مرآة الآخر، والآخر يمثل جزءاً من وجودنا ذاته، مثلما نمثل نحن جزءاً من وجوده. ( )
ثم يذهب إلى أنَّ الأنا تمثل، في بعض وجوهها، الهُوية أو الثقافة أو الحضارة، ويكون الآخر بالنسبة لهذه الأنا هو الهُويات الأخرى، أو الثقافات الأخرى، أو الحضارات الأخرى. وفي حالة درويش يجد أنَّه يجسّد في كثير من أشعاره فكرة الأنا المنقسمة على ذاتها، فثمة متصارعان: داخل وخارج لتصير أناه حالة متأرجحة من التأكيد للذات ونفيها، حالة إيجابية وسلبية في الوقت نفسه. كما جسدها في كثير من أشعاره، وقصائده: كقصيدة الظلّ، والشبح، والقرين، وسواها.( ) وهي مرحلة التأمل الفلسفي في الذات التي بدأ التأسيس لها بُعَيْد "الخروج من بيروت"، ثم تأصَّلت في مجموعاته اللاحقة، يقول درويش في قصائد الخروج من بيروت:
"كلُّ من يرحل في الليل إلى الليل - أنا
كل ناي قسم الحقل إلى اثنين:
منادٍ ومنادىً لا يناديه - أنا
كل ما يعجبني يحتله الظل هنا
كل من تطلب مني قبلة عابرة
تسرق روحي... وخطايْ
كل طير عابر يأكل خبزي من جروحي
ويغني لسوايْ (...)
كل أرض أتمناها سريراً
تتدلّى مشنقة!". ( )
فالأنا هنا في مقاومة الآخر (سواي) ولكن مع رجحان كفّة الآخر بسبب ظلم الواقع وانكساره على رأس الفلسطيني كما حدث في إخراج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982! ثم يقدم قطوس عدداً من الأمثلة يضيق المقام عن تناولها.
وفي الفصل الرابع الذي حمل عنوان:"أسئلة الماهية وسؤال المعرفة"، يرى قطوس أنَّ أسئلة درويش عن الماهية قد تمثلت عدة استراتيجيات، أولها تبدأ من السؤال عن الماهية كخطوة أولى تأكيداً على الخصوصية التي يمثلها الشعر المسكون بأسئلة الفلسفة بشكل خاص وبأسئلة المعرفة بشكل عام. فقد وضع كلّ شيء موضع تساؤل: الشعر والحلم، والأنا والآخر، والمركز والهامش، والحضور والغياب، فغدت أسئلة الفلسفة على يديه أسئلة للشعر، أو غدت أسئلة الشعر كأنَّها أسئلة الفلسفة، بغية تفكيك مثاليات الشعر، أو إن شئت أوهامه الميتافيزيقية، ليسكن الشاعر في الفيلسوف دون أن يصيره، ويصير عمل الشاعر أشبه بعمل الفيلسوف عملاً جينيالوجيّا يروم إزالة الأقنعة، والنأي عن الأسئلة المثالية الساذجة الواهمة كوهم العقلانية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وسواها ممّا يطرحه عالم العولمة المنافق. وذلك نقل دوره إلى دور آخر للشاعر دور يشبه دور الفيلسوف، وهو دور إيتيقي/أخلاقي بامتياز يتمثل في تجاوز الميتافيزيقا على المستوى الأنطولوجي، وتعرية مجتمعات الزمن الحاضر التي لم تمتثل لهذه الفلسفة أو تلك. ( )
لقد عبّر درويش تعبيراً فلسفياً صادقاً عن انكسار الحلم هذا بطرائق كثيرة ومنوعة، وعلى رأسها الحوار وإعادة صوغ الأسئلة المعرفية، والوجودية، حتى إنّه بدأ، في أخريات أيامه، يتساءل عن ماهية كل شيء، حتى عن اسمه، ويقع في خصومة فلسفيّة معه، وليس فقط مع المصائر والمآلات، بل وعن الحلم وكنهه، وكأنَّه مستغرقٌ في مراجعة كل شيء ومعاودة الأسئلة، لما للسؤال من أهمية في استكناه طبيعة الأشياء، والوصول إلى المعرفة، معرفة الحقيقة، ولا يتمّ ذلك إلا بالبحث في أغوار الذات والنفس والعالم، يقول:
"الآن، أنت اثنان، أنت ثلاثةٌ، عشرون
ألفٌ، كيف تعرف في زحامك من تكون؟
الآن كنت
الآن، سوف تكون
فاعرف من تكون... لكي تكون".( )

ولا يكتفي درويش بالتساؤل عن "الماهية"، وإنَّما ذهب للتساؤل عن ماهية "اللاشيء" في محاولة منه للتعبير عن انكسار الحلم جامعاً بين الحلم بمعناه المجرّد ومعناه المحسوس في الواقع، في قصيدته: "الحلم، ما هو":
"الحُلْمُ ما هو؟
ما هو اللاشيءُ هذا
عابرُ الزمنِ،
البهيُّ كنجمةٍ في أول الحبِّ،
الشَّهيُّ كصورة امرأةٍ تدلِّك نفسها بالشمس؟/
ما هو لا أكاد أراه حتى
يختفي في الأمس/
لا هو واقعٌ لأعيش وطأته وخفَّتَهُ
ولا هو عكسُهُ لأطير حرَّاً
في فضاء الحَدْس/
ما هُوَ، ما هُوَ اللاشيءُ، هذا الهشُّ
هذا اللانهائيُّ الضعيفُ، الباطنيُّ
الزائرُ، المتطايرُ، المتناثرُ،
المتجدِّدُ، المتعدِّدُ اللا شكلِ؟( )
وبعـــــــــد؛
فإذا كانت إسهامة درويش في صوغ الوعي بالقضية الفلسطينية واضحة، فيما قدمه من مشروع شعري وجمالي؛ فإنَّ مقاربات قطوس في دراساته المتعددة عن جماليات شعر درويش، وغيره من شعراء الجغرافيا العربية، قد أسهمت في فتح كثيرٍ من نوافذ الإبداع والرؤى أمام الباحثين والمهتمين في الشأن الشعريّ والفكريّ والرؤيويّ