الأردن ودعم الإنتاج الفني العربي خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين.

مريم ملهي النويران
كاتبة وباحثة أردنية
لقد عانت مجموعةٌ من الدول العربية في سبعينيات القرن الماضي من اضطرابات سياسية أدت لاندلاع أزمات عسكرية في المنطقة؛ الأمر الذي ترك انعكاسه السلبي على الحركة الفنية العربية وتراجعها لارتباطها بالأحوال السياسية والاقتصادية المتردية، مما ضيق المناخ العام على الفنانين العرب؛ وهنا كان لجلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال - طيب الله ثراه - الدور الأكبر في دعم حركة الفنانين والمسرحيين العرب إذ شهدت الأردن حركة نشاط فني واضح عندما احتضنت الأشقاء العرب، وقدّمت لهم الاستديوهات والمسارح ودور السينما؛ لعرض إنتاجاتهم الفنية التي ما زالت منقوشة في ذاكرة المشاهد العربي، كما بقيت تشهد إقبالاً جماهيريّاً كبيراً ومشاهداتٍ عالية على منصة "يوتيوب" في وقتنا الحاضر، وسيتم خلال هذا المقال مناقشة مجموعة من الأمثلة عن دور الأردن في دعم حركة الفن العربي في العقود الأخيرة من القرن الماضي، ويتعذر ذكر جميع الأعمال الفنية لكثرتها ولضيق المقام، ولكن ما هي إلا محاولة لتسليط الضوء على الإنتاج الفني في الأردن في تلك الفترة.
فعلى صعيد المسرح العربي ظهر لدينا مجموعة من المسرحيين السوريين الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ المسرح العربي، عندما شكّل كلٌّ من الفنان دريد لحام، والفنان الراحل نهاد قلعي، والمؤلف الراحل محمد الماغوط، ظاهرةً مسرحيّةً فريدة تستحق التوقف عندها كثيراً بالتمعن والتحليل، إذ استطاع هؤلاء الثلاثة وفرقتهم الفنية " مسرح تشرين "، إيجاد نمط جديد في المسرح العربي من خلال مناقشة التحديات التي كانت تواجه الأمة العربية آنذاك بقالب كوميدي. وكانت الأردن حاضنة لهذه الظاهرة الفنية الجديدة؛ فقد أنتج هذا الثلاثي الفني مجموعة من المسرحيات كان في مطلعها مسرحية "ضيعة تشرين" التي عُرضت لأول مرة على خشبة المسرح عام 1974 م، وكان العرض الأول في دمشق ثم انتقلت العروض إلى لبنان واستقر بها الحال في الأردن، حيث هيأت التقنيات الفنية في الأردن لإخراجها تلفزيونياً من قبل المخرج السوري الراحل خلدون المالح، وبعد ذلك توالت الأعمال المسرحية وكانت على التوالي مسرحية "غربة" عام 1976م التي تم تصويرها تلفزيونياً بالتقنيات الملونة في الأردن. وبعد أن أبعد المرض الفنان نهاد قلعي عن الساحة الفنية تابع كل من الفنان دريد لحام والمؤلف محمد الماغوط أعمالهما المسرحية بمسرحية "كاسك يا وطن" عام 1979م، ومسرحية "شقائق النعمان" عام 1987م، وكل هذه العروض كان لها حظاً وفيراً من الإقبال الجماهيري.
كذلك كان للمسرحيين اللبنانيين بصمتهم الواضحة في تاريخ المسرح الغنائي العربي؛ وهو لونٌ فنيٌّ مختلفٌ تماماً عمّا قدمته "فرقة مسرح تشرين" السورية، وكان يناقش مواضيع ذات أبعاد اجتماعية بأسلوب عاطفي غنائي جذاب، وكان من روّاد هذا الفن المسرحي عائلة الرحباني اللبنانية الذين فتحت لهم الأردن ذراعيها لدعم النتاج الفني لديهم، فبعد عرض "مسرحية ميس الريم" للأخوين الرحباني للمرة الأولى عام 1975م على "مسرح البيكاديلي" في بيروت، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان في العام نفسه؛ وأدت الأوضاع العسكرية المضطربة إلى نقل نشاط الأخوين رحباني الفني إلى الأردن، وتوج تواجدهم في عمان بإنتاج أقوى مسرحياتهم على الإطلاق " بترا "، من بطولة السيدة فيروز والتي عُرضت في عمان عام 1977م، واستمر عرضها لثلاث سنوات متتالية وتنقل العرض بين عمان ودمشق وبيروت، وكانت قصة المسرحية تحاكي حروب الأنباط مع روما، إذ أنَّ "مسرحية بترا" جاءت لتلقي الضوء على حقبة مهمة من تاريخ الأردن القديم بقالب فني غنائي من خلال تسليط الضوء على حضارة الأنباط وعلى أهميتها التجارية والاقتصادية والحركة البشرية فيها، ومشاريع هندسة المياه التي اشتُهر بها الأنباط، وكيف أنَّ التجّار كانوا يأتون إلى مدينة البتراء من كل أصقاع الأرض لكي يحموا أموالهم من غزو الرومان. وكيف أنَّ حضارة الأنباط في تلك الفترة كانت حضارة قوية تستحق تسليط الضوء عليها من خلال عمل فني متكامل شبيه بهذه المسرحية، ويُعتبر ذلك شكر واضح من الأخوين الرحباني لجلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال وللشعب الأردني لاحتضانهم في هذه الفترة الصعبة. وتجدر الإشارة هنا أنَّ المغفور له جلالة الملك حسين قد أنعم على السيدة فيروز بمنحها ثلاثة أوسمة تكريمية هي: "ميدالية الكرامة" ووسام "النهضة" و"ميدالية الشرف الذهبية"، وهي أعلى وسام يمنح من المملكة الأردنية الهاشمية.
ولم يكن هذا الإنتاج الفني الوحيد للرحابنة؛ بل احتضنت استديوهات عمان مجموعةً كبيرةً من الأعمال الفنية والسهرات الغنائية التي ضمّت كلا من السيدة فيروز، والراحل الكبير وديع الصافي، والراحل الكبير نصري شمس الدين، والفنانة الراحلة صباح، كذلك مجموعة من فنانين لبنان البارزين آنذاك أمثال: (هدى حداد، ورجا بدر، وجورجيت صايغ، والراحل أيلي شويري، وإنطوان كرباج، والراحل وليم حسواني، والراحل إيلي صنيفر، ورونزا، والراحلة سلوى قطريب، وسميرة توفيق،...) وغيرهم كثير.
كما شهدت عمان انطلاقة مجموعة من الفنانين اللبنانيين الصاعدين في فترة السبعينات أمثال الفنان الراحل ملحم بركات الذي خرج من لبنان بسبب الحرب الأهلية واستقر في عمان، ثم بدأ بتصوير سلسلة من أبرز أغانيه في منتزهات عمان كأغنية " لا تهزي كبوش التوتة" وأغنية " حنا السكران " اللتين أذيعتا في برنامج "ساعة وغنية" والتي عُرضت أولى حلقاته عام 1979م؛ هذا البرنامج الذي تم تصويره في مركز الإنتاج في التلفزيون الأردني، وهو من إعداد عاصي ومنصور وإلياس وزياد الرحباني، وتقديم الراحل رياض شرارة وهدى حداد، وإخراج الراحل إنطوان س ريمي، وشارك فيه نخبة من نجوم الفن اللبناني والأردني.
وأغنية " حلي عني " التي أُذيعت في حفل التلفزيون الأردني عام 1988م، كذلك الفنان جوزيف عازار الذي قّدم للأردن أجمل الأغاني الوطنية حيث غنّى لجلالة المغفور له الملك الحسين أغنية "راية مجدك " ، وأغنية " عرشك مرمر "، كذلك الفنان الراحل محمد جمال الذي أهدى الأردن أغنية "على ذرى أردننا الخصيب". أمَّا بالنسبة للفنان فؤاد حجازي فهو من أكثر الفنانين اللبنانيين تأثيراً على الساحة الفنية الأردنية؛ فكانت انطلاقته الحقيقة من استديوهات عمان، وبقي محافظاً على ارتباطه بهذا البلد إلى وقتنا الحالي، إذ قدّم مجموعة كبيرة من الأغاني، فلا يمكن إنكار شعور الفنانين اللبنانيين بالعرفان لما قدمته لهم الأردن في فترة عصيبة مضطربة، وكانت الحركة الفنية المزدهرة في الأردن قد وفرت لهم المُناخ الجيد لعدم الانقطاع عن الجمهور العربي في فترة صعودهم الفني بالرغم من الظروف الصعبة في بلادهم.
ولم يكتفِ اللبنانيون بإنتاج أعمالهم الفنية في الأردن؛ بل عمل معهم مجموعة من الفنانين الأردنيين فعلى سبيل المثال "مسلسل من يوم ليوم" الذي قام بكتابه نصه الراحل منصور الرحباني، وقام بأداء الأغاني فيه رجا بدر تم تصويره في الأردن، من بطولة هدى حداد ووحيد جلال وإنطوان كرباج؛ حيث صُوّرت المشاهد الداخلية في استديوهات عمان والمشاهد الخارجية في منتزهات عمان وأحيائها، وفي هذا المسلسل شارك الفنان الأردني خليل مصطفى الذي قام بدور مساعد المحقق، بينما شارك كل من الفنان ربيع شهاب والفنانة عبير عيسى في سلسلة السهرات التلفزيونية التي ألفها الأخوان رحباني، وتم عرضها على تلفزيون لبنان والمشرق في سبعينيات القرن الماضي. كما قام الأخوان رحباني بتأليف "ميدلي موسيقى" من التراث الأردني يحوي بانوراما مختصرة لأجمل الأغاني التراثية الأردنية، وقدمت هذه البانوراما في عمان من قبل الفنانين اللبنانيين رجا بدر ورونزا، وجاء في المطلع مقطع من أغنية السيدة فيروز "عمان في القلب".
وبالنسبة للأغاني الوطنية التي قدمتها السيدة فيروز للأردن كانت أغاني ذات عمق وطني ومدلول حضاري يدلُّ على مدى عرفان الرحابنة وشكرهم للأردن؛ فقد قدّمت كلاً من أغنية "أردن أرض العزم" من كلمات الشاعر الراحل سعيد عقل، وأغنية "عمان في القلب" أيضاً من كلمات الشاعر سعيد عقل، وتلحين الراحل عاصي الرحباني، ومجدت السيدة فيروز معركة الكرامة في أغنيتها الشهيرة "القصة الكبيرة" التي بُثّت عبر أثير إذاعة عمان لأول مرة عام 1969م احتفالاً بالذكرى الأولى لمعركة الكرامة الخالدة.
ولم يكتفِ الفنانون اللبنانيون بالغناء على مسارح الأردن؛ بل نتج عن وجودهم فيها تعاونٌ فنيٌّ كبيرٌ بين كل من الملحن الأردني الراحل جميل العاص، والملحن والفنان الراحل توفيق النمري، وكل من الفنان الراحل نصري شمس الدين، والفنانة الراحلة صباح، والفنان الراحل وديع الصافي، ونتج عن هذا التعاون الفني روائع خالدة في الفن الغنائي العربي.
أمَّا بالنسبة للسينما العربية فقد كانت الأردن حاضرة وبقوة في إنتاج أبرز الأفلام العربية؛ ولعلَّ أشهر فيلم تم تصويره على الأراضي الأردنية هو الفيلم المصري " الطريق إلى إيلات "، من إنتاج عام 1993م ، إخراج المصرية إنعام محمد علي ، وتأليف المصري ياسر عبد الرحمن، وبطولة الفنان الراحل عزت العلايلي، والفنان نبيل الحلفاوي، وهو قصة مقتبسة عن حادثة حقيقية لعملية نفذتها المخابرات المصرية على سواحل مدينة إيلات عام 1969م، وتم تصوير الجزء الأكبر من الفيلم في عمان والنقب والعقبة، وكانت قصة الفيلم تدور حول محاولة دخول فرقة ضفادع بشرية تابعة للمخابرات المصرية عبر الأراضي الأردنية إلى سواحل مدينة إيلات على البحر الأحمر.
وكان للأردن دورٌ كبيرٌ في دعم ونشر الدراما العربية إذ كانت الإنتاجات الأردنية هي الأقوى في السبعينيات والثمانينيات ومطلع التسعينيات، وقد كان العديد من نجوم العرب في تلك الفترة يحضرون إلى الأردن من أجل المشاركة في الأعمال الدرامية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن ذكر مجموعة من الأمثلة: كمسلسل "شمس الأغوار" من إنتاج العام 1981م، إخراج الراحل سعود الفياض خليفات وتأليف الفنان محمود الزيودي، وبطولة الراحل أسامة المشيني، والذي ضم الفنانة اللبنانية مارسيل المارينا، كذلك الفنانة اللبنانية ديانا رحمة التي كانت انطلاقتها الفنية من الأردن وما تزال إلى يومنا هذا مرتبطة فنيّاً بالإعمال الفنية الأردنية.
كذلك الفنانة العالمية منى واصف التي شاركت في مجموعة من الأعمال الدرامية الأردنية على رأسها مسلسل "محاكم بلا السجون"، وهو من أجمل الأعمال الدرامية التي وثّقت للقضاء العشائري الأردني بأسلوب درامي سردي شيق، وكان هذا المسلسل من إخراج السوري نجدت أنزور، وهو من إنتاج عام 1985م وشارك في بطولته الفنان السوري رشيد عساف، والفنانة جيانا عيد، والفنانة الراحلة نجاح العبدالله، والفنانة سمر سامي...، كذلك من أبرز الأعمال الدرامية البدوية مسلسل "راعي الأولة" من إنتاج عام 1986م، وهو من إخراج محمد العوالي وبطولة الفنان محمد العبادي، وشاركت في البطولة الفنانة السورية الراحلة إنطوانيت نجيب.
إضافةً لمسلسل "أوراق الدالية" من إنتاج العام 1986م، إخراج حسن أبو شعيرة، وبطولة الفنان روحي الصفدي، وشاركت فيه كل من الفنانة السورية الراحلة يولاند أسمر، والفنانة وفاء موصلي، والفنانة أمانة الوالي، ومسلسل "البيادر" من إنتاج العام 1988 م، من إخراج محمد يوسف العبادي، وبطولة الفنان الراحل محمود سعيد، وشارك فيه كل من الفنانة السورية الراحلة نجاح العبد الله، والفنانة فاديا خطاب، والفنانة فيلدا سمور، كذلك مسلسل "الكف والمخرز" من إنتاج عام 1992م؛ من إخراج السوري نجدت أنزور، وبطولة الفنان الراحل جميل عواد، وشارك في المسلسل نخبة من ألمع ممثلين دراما السورية على رأسهم الفنان بسام كوسا، والفنانة الراحلة نجاح العبد الله، والفنانة الراحلة نجوى صدقي، والفنان الراحل عبد الرحمن أبو قاسم، والفنانة سمر سامي وغيرهم.
ولم تتوقف الأعمال المشتركة بين الدراما الأردنية والسورية حتى يومنا هذا، وكان من أشهرها على الإطلاق مسلسل " جواهر " من إنتاج المركز العربي للخدمات السمعية البصرية في عمان، وانطلق الجزء الأول منه عام 1994م، من إخراج الإماراتي عبدالله النقي، وضمَّ مجموعةً كبيرةً من الفنانين السوريين، وكان العمل من بطولة الفنان مازن الناطور، والفنانة مرح جبر، إضافةً للفنانة منى واصف، والفنان الراحل عبد الرحمن آل رشي، والفنان الراحل سليم كلاس، والفنان عارف الطويل، والفنانة واحة الراهب وغيرهم.
ولم يقتصر الإنتاج الفني الأردني عند هذا الحد؛ فلم تزل الذاكرة العربية تزخر بالعديد من الأعمال الفنية التي خرجت من الأردن لتسكن بيت كلِّ مواطن عربي، وما كان لهذا الازدهار الفني أن يحصل لولا تفاني الأردن والأردنيين في حماية المشهد الفني العربي من الاندثار.
المصادر والمراجع:
1- أرشيف التلفزيون الأردني
2- لقاء مع الفنان دريد لحام، تقديم توفيق الحلاق، التلفزيون الأردني.
3- أرشيف برنامج ساعة وغنية، تلفزيون لبنان والمشرق.
4- دردير، أحمد ضياء، فيروز وما قالته الصورة، صحيفة الأخبار اللبنانية، بيروت، السبت 5/ 9 / 2020 م.
5- حداد، فيفيان، جوانب خفية في حياة الأخوين رحباني وفيروز، زواج المغنية اللبنانية بعاصي أثمر الكثير من الأعمال الفنية، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، الأثنين 25/12/ 2017م .
6- فيروز رفيقة صباحاتنا الجميلة وسفيرتنا إلى النجوم تدخل عامها الخامس والثمانين، صحيفة الدستور الأردنية، عمان، الجمعة 22/ 11/ 2019م.
7- المصور زهراب يستذكر مفاجأة الملك الحسين للفنانة فيروز هذا ما حدث، جفرا نيوز، الجمعة، 12/3/ 2021م.
8- موقع عربي بوست، بعد تكريم الرئيس ماكرون تعرّف على الأوسمة والجوائز التي حصدتها فيروز، 3/ 9 / 2020 م.