مهند النابلسي
كاتب وناقد سينمائي أردني.
" إن شئت كما في السماء" للمخرج " إيليا سليمان" يستعرض أحداثًا واقعية في كلٍّ من الناصرة وباريس ونيويورك، ويأخذنا في رحلة تأملٍ تعبيريٍّ صامت بليغ لباريسيات يتمخطرن بغنج، جميلات في الشوارع الأنيقة، وأمريكانيات يتسوقن وهن مسلحات، مع مشاهد احتلال صهيوني؛ قمعي كاتم وزعران وحواديت جيران وكحول وتجوّل في أنحاء بلدة الناصرة...فنرى المثقف الفلسطيني التائه يهاجر هربًا من معاناته اليوميّة هذه/ ثم يتحوّل إلى رمز معبر صامت ومتأمل عابر للقارات والمنافي، في سياق جذاب لعمل يحفل بالكوميديا المعبرة والرقص والغناء الجميل الصادح والمجاز الكامن؛ إنَّه العملُ السينمائيُّ الفذُّ الثالث في استعراض إخراجي فريد ولافت يتماثل ربما مع أساليب كلٍّ من " وودي الن وترانس مالك" والكوميدي العتيق "بوستر كيتون"، حيث حميمية وصراحة الأول ومناجاة الثاني المونولوجية وبحلقة الثالث الصامت ذات الدلالة: فنراه ينجح تمامًا هنا بتقديم سحر سينمائي خالص ومشاهد مجازية ذات دلالة؛ كالطير الصغير الطريف اللحوح كإشارة ربما للشعب الفلسطيني المسجون تحت الاحتلال، أو كالشرطي النيويوركي البهلوان، والأمريكية المتمردة ذات الجناحين التي تهرب من ملاحقة الشرطة في حديقة عامة، وصولاً لسائق التاكسي الأمريكي الأسمر الذي ينبهر لملاقاته الفريدة لفلسطيني في نيويورك ويبلغ زوجته بحفاوة، أو للموظف الفرنسي البيروقراطي اللامبالي الممل المتنصل من الدعم والمؤازرة، والأمريكية السينمائية المتعالية التي لا تعنيها فلسطين شيئًا، فيما تصرُّ على إحياء ذكرى الإسباني المحتل "كورتيز" بفيلم جديد يتحدث بالانجليزية مع ممثل صديق إسباني (لاتيني) لا يتقنها، ولكنَّه مدمن للرقص التأملي الصامت، مطلقًا الأحكام من أمثال: أنَّ الفلسطيني التائه يشرب (عكس الآخرين) ليتذكر فلسطينه وليس لينسى... وبأنَّ فلسطين ستبقى منطبعة في ذاكرته وبأنَّها ستبقى وتنتصر ولكن ليس في عصرنا الراهن، ثم ليذكرنا بصياد الناصرة العجوز الخرف الطريف وقصصه الخرافية وملاسنته البذيئة مع ابنه الشاب العاق، وانتهاءً بقصة جاره اللص المزارع الذي يقدّم له النصائح ويسقي الحديقة ويسرق الثمار مستهبلاً مخرجنا (صاحب الحديقة)!
*لا بدَّ أنَّها الجنة/2019:
هجرةٌ اختيارية من الناصرة ومن وطنه المحتل فلسطين.
مهاجرًا لباريس ونيويورك، فالمخرج يعاين هنا بمنهجية واقعية وسيريالية معًا ثلاث مدن، مطلقًا خياله الإبداعي الانتقائي، متعمقًا بحالة رجل مأزووم ومطارد دومًا بالتهجير وعدم الاستقرار، هاربًا ومنزعجًا من ملاحقة الشرطة وسلوكيات الجيران، يستعرض في كوميديا ساخرة عميقة فكرة أنَّ هذه المدن العالمية البراقة ليست جنة كما يعتقد الجميع: مقارنًا ما يراه فيها عمّا يحدث دومًا بوطنه المستباح في فلسطين المحتلة، حيث الاستنفار الأمني المزمن وملاحقات الأجانب والتفتيش اليومي المزعج للأجانب والنازحين كأنَّهم مشبوهين هاربين، متلمسًا القمع وملاحقة البوليس في كل مكان (سواء في باحة مقهى باريسي أنيق أو في فضاء منتزه نيويوركي شاسع جميل)، ابتداءً من جنة باريس المدينة الأنيقة، مواجهًا نمط الاشكالات نفسه في نيويورك، فيضطر للعودة محبطًا للناصرة مسقط رأسه، وهو بطرحه السينمائي الشيق لم يركز أبدًا على مغريات المجتمع الاستهلاكي الغربي البراقة، بل بقي مصرًا على البحث عن الهُوية والجنسية والانتماء والاستقرار الحياتي الآمن بعد مرور أكثر من عقد تقريبًا على فيلمه الثاني اللافت "الزمن الباقي" في العام 2009 (والذي سبق وكتبت عنه).
"إيليا سليمان" يواجه مجريات الأحداث حوله بحيادية جذابة متأملاً كل ذلك بنظرات معبرة ذكية متفوقًا على إيماءآت الكوميدي العتيق من أيام السينما الصامتة "بوستر كيتون"، كما أنَّه ذكرني ربما بروائي ياباني عبقري "نكد" شهير كنت قد قرأت عنه مؤخرًا، ويُقال إنَّه لا يتحدث أبدًا بمقابلاته الصحفية النادرة بل يرمق محدثه بنظرات عميقة غامضة؛ حتى إنَّ الصحفية التي زارته انفجرت بالبكاء هاربةً بعد عدة دقائق...لكن سليمان مختلف هنا بطرافة نظراته وإيماءاته، حيث لا يغفل أبدًا عن التفاصيل الصغيرة والطريفة كافة، مستنفرًا بقصد العواطف الحميمية والسوادوية الساخرة والكوميدية والمتناقضة، قادرًا دومًا على إبهارنا بمشاهد صاخبة غير متوقعة كالألعاب النارية في سماء باريس، واحتفالات قوس النصر المتألقة: "سليمان" يبدو هنا كمعلم ساحر كاريزمي قادر على إضافة تحفة سينمائية فريدة عالمية المغزى والمضمون، يستعرض فيها تجارب البداوة الحضارية المعاصرة وتجارب الوطن الجميل، والمنافي والهجرة والاغتراب بطريقة غير مسبوقة، عاكس بعمق الشخصية الفلسطينية المسالمة الحضارية، مبتعد بقصد عن قصص الحب والعائلة والعنف والدراما العاطفية، لافت انتباه العالم اللامبالي لمأساة فلسطين المزمنة المتجددة بهدوء وبلا زعيق واستنفار عاطفي وتسوّل عاطفي مسرحي حزين "وميلو درامي"!
*المقاومةُ السلميّةُ واللامبالاةُ الغربيّة تجاه الاحتلال الغاشم والتركيز على ترهات محلية.
ربما التزامًا بتسهيل إنتاج الشريط داخل الناصرة والتزامًا مبالغًا فيه بضوابط التمويل العربية والغربية بالإضافة لرغبة الريادة العالمية بإنجاز عمل فريد مسالم مجازي، فكل هذه العناصر ربما منعت المخرج النبيه من تصوير مشاهد ترقى لمستوى "التصوير الواقعي" لجرائم الاحتلال هناك التي نسمع عنها يوميًّا والتي تتعدى مجرد كونها ملاحقات أمنية تتماثل مع ممارسات شبيهة بمدن غربية كبرى كباريس ونيويورك، فقد رأينا أنَّ الصهاينة يعتقلون الأطفال ويعذبونهم ويفجرون المنازل ويهجّرون السكان ويسببون العمى للصحفيين الشرفاء بالرصاص المطاطي في عيونهم، كما لا يرحمون أبدًا حتى المقعدين والمعاقين من المقاومين، كما أنَّهم يقتلون أحيانًا المواطن الفلسطيني عن بعد ويقنصونه لمجرد التباهي وإرسال الصور لصديقاتهم بالموبايل، كل هذه الممارسات الإجرامية تجاهلها المخرج القدير بقصد ربما، وركّز أكثر على مداخلات وتناقضات عادية "سخيفة ربما" داخل المجتمع الفلسطيني المستكين في بلدة الناصرة، علمًّا أنَّ العالم الغربي برمته كان سيصفق له مؤيدًا لو نجح بالتركيز على بعض ممارسات القمع الصهيونية اليومية المعروفة، والتي ضجَّ العالم في شرقه وغربه وجنوبه منها بلا استثناء، إلا الصهيوني اليميني المتغطرس والغرب اليميني العنصري المتطرف "وترامب وعصابته الخارج منهزمًا من البيت الأبيض"، وربما بالتأكيد بعض العرب الداعمين اللامبالين "المتسترين" على أنفسهم والمنافقين والمهرولين للتطبيع الخياني الآثم تباعًا!
كما أنَّي للحق لم أستطع فهم بعض اللقطات ومغزاها ومنها حيادية جنود الاحتلال تجاه شاب فلسطيني عصبي يقذف بقنينة "البيرا" الفارغة على جدار بالقرب منهم ليستفزهم دون أن يبالوا فيما يستغرقون بالنظر عبر مناظيرهم المكبرة لمكان ما بعيد...ثم مشهد شباب متمردين فلسطينيين وتحرشهم ببعضهم البعض في أزقة الناصرة، ومشهد سيريالي يعبر عن شكوى شاربي "ويسكي" في مطعم فاخر من تقديم دجاجة مطبوخة بالكحول لسيدة برفقتهم، ناهيك عن محاولة جار له سرقة ثمار حديقته مرارًا والاعتداء على حديقته استفزازًا، وهذيان جار عجوز ثرثار كحولي آخر في استهلال الشريط، عندما تحدّث بشغف عن قصة الأفعى التي نفخت له إطارات سسيارته عرفانًا له بجميل قدمه لها؛ علمًا أنَّ كلَّ هذه المشاهد و"الحواديت" تدين المجتمع الفلسطيني بشكل ما وتشير بأنَّه غارقٌ في السخافة واللامبالاة واللامعنى، وربما يتعاطف الاحتلال وبعض الغرب المتحيز مع وجهة النظر هذه، فهذه المشاهد هي أقرب للتهريج المجاني، ولا تقدم شيئًا جليًّا معبرًا لفيلم فلسطيني عالمي يتحدث عن معاناة الاحتلال الاستيطاني الغاشم، طبعًا فكل هذا السرد العجيب الكوميدي الساخر يفسّر لنا بالمحصلة سبب تقدير مهرجان "كان النقدي" الخاص للفيلم والسماح بانطلاق عروض تجارية للفيلم، فهو في نهاية المطاف لا يدين أبدًا ممارسات الاحتلال الصهيوني بصورتها الراهنة المرعبة بل يتجاهلها ويحيدها تمامًا، بل ويشير بمجاز بأنَّ كل ما يحدث هناك يتماثل ربما مع ممارسات وملاحقات الشرطة في مدن الغرب الحضارية الكبرى وربما أقل إزعاجًا واستعراضًا، وقد أزعجني ذلك تمامًا بحق وقادني لكتابتي النقدية المغايرة هذه، لكنَّي وجدت في الخلاصة الأخيرة (أدناه) مغزى بالغ الدلالة!
*رسالة مجازية بالغة الدلالة وربما غير مقصودة:
يوصلها هذا الشريط الشيق بلا قصد ربما، وهي موجهة لكل الأخوة الفلسطينيين "المسيحيين" تحديدًا مفادها: الرجاء عودوا لوطنكم الحبيب فلسطين في هجرة عكسية كبيرة، فهو ينتظركم وتحمّلوا مضايقات بعضكم لبعض وانسداد الأفق والفرص والحرية في ظلِّ الاحتلال الكاتم للأنفاس البغيض، فإذا ما كانت عواصم الغرب تحفل بالملاحقات البوليسية هذه ومضايقات الهجرة والنزوح وقلة الفرص، فالأولى أن تعودوا أنتم لأوطانكم ومدنكم وتراثكم وتتحملوا قرف الاحتلال ومساعيه الهادفة ل"تطفيشكم" (التي لم نشاهدها تحديدًا في هذا الفيلم)، وأنتم تتحملون مسؤولية القيام بدور تنويري حضاري في مدنكم ومجتمعاتكم، وإذا ما أخذنا بالاعتبار الإحصائيات المفزعة التي تتحدث عن وجود ما يقارب ال83% من الأخوة الفلسطينيين المسيحيين خارج فلسطين التاريخية، مشتتين في الأمريكتين واستراليا وكندا ونيوزلندا وأوربا وغيرها، وهذا ما يسعى له الاحتلال تحديدًا وخاصةً مع مشاريع الضم وصفقة القرن القادمة، وتطنيش التطبيع العربي الذليل، فهو يسعى ل"تطفيش" ما تبقى منهم مع الآخرين بشتى الطرق والوسائل...فخذوا "رحلة وهجرة ومعاناة" المخرج الفلسطيني الفذ "إيليا سليمان" هذه كما قدمها لنا كقدوة هنا في فيلمه اللافت هذا، وعودوا لوطنكم الحبيب أولاً، تهاجر البقية الباقية منكم (على الأقل)، وهذه هي أعظم رسالة مجازية "غامضة" يحملها هذا الفيلم اللافت وتغفر له كل عيوبه وطروحاته، وربما لم ينتبه أحد لهذا المغزى الكامن ضمن الحبكة والمضمون والسياق والسيناريو.